التطعيمات والتوحّد: المغالطات والنوادر

تستند الكثير من النقاشات حول اللقاحات والتوحّد بصورةٍ مماثلة على اعتباراتٍ واضحة فيما إذا كان الدليل المذكور دقيقاً وأيضاً عمّا إذا كانت مجموعة الأدلة البديلة تدعم الإدّعاء القائل بأنّ اللقاحات تسبب التوحّد أم لا. أثيرت هذه النقاشات من خلال بحثٍ قدّمه (أندرو ويكفيلد Andrew Wakefield) وآخرون سنة 1998 (ثم تمّ سحبه لاحقاً) والذي شمل اثني عشر طفلاً تمّت إحالتهم إلى وحدة أمراض الجهاز الهضمي لدى الأطفال. ذكرَ (ويكفيلد) ومن معه بأنّ كلّ الأطفال الاثني عشر صادفتهم مشاكل في النمو بفتراتٍ متفاوتة بعد إعطائهم لقاحاً ضد الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (لقاح MMR)؛ وأن تسعةً من اضطرابات النمو هذه قد تم تحديدها على أنها حالات توحّد، وأن حالةً عاشرةً تم تحديدها على أنها حالة توحّدٍ غير مؤكّدة. استخدم (ويكفيلد) ومن معه هذه النتائج لاقتراح أن لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية من الممكن أن يساهم في متلازمةٍ تتضمن مشاكلاً في الجهاز الهضمي بالإضافة إلى التوحّد التراجعي. لقد أجّج هذا البحث القلق المعروف بشأن تطعيم الأطفال وتسبّبه المزعوم بالتوحّد، ذلك المارد الذي لا يُظهر أي إشارةٍ عن عودته إلى قمقمه!

وحتّى لو كانت نتائج (ويكفيلد) ومن معه منطقيّة، فإنّ الحجم الضئيل والطبيعة الإنتقائية للعيّنة كان من المفروض أن يشجّعا على تفسيرٍ أكثر حذراً. وبالرغم من ذلك، فإنّ الدليل قابلٌ للتفسير بشكلٍ عام على الأقل حيث كان كالتالي: “تمّ إعطاء مجموعة صغيرة من الأطفال لقاحَ الحصبة والنكاف والحصبة الألمانيّة ومن ثمّ حصلت معهم مشاكل في النمو”. وبالطبع كان هذا الدليل غير دقيق. فقام (ويكفيلد) باختلاق نتائج مزوّرة لأسبابٍ ماليةٍ على الأرجح (دير Deer 2011). وفي بحثٍ تلا ذلك، تم إثبات أنه لا يوجد دليل على أن إعطاء لقاح الطفولة يرفع معدّل تطوّر التوحّد (تايلور Taylor وآخرون 2014). وفي ظل غياب أي ارتباطٍ علميٍّ بين التطعيمات والتوحّد، فإن المروّجين للرابط بين اللقاحات والتوحّد لا يزال بإمكانهم انتقاء الملاحظات. وقد أشار المناهضون ضد التطعيم إلى العديد من الأطفال الذين تم تطعيمهم وتطوّر التوحّد لديهم فيما بعد (أشار إلى ذلك منطق العلوم The Logic of Science 2016). وربّما كان أفضل مثال على ذلك هو ابن الممثلة (جيني مكارثي). وفي تطوّرٍ غريب، أثار البعض احتماليّة أن ابن (مكارثي) لم يتطور التوحّد لديه في الواقع (روبن Rubin 2008).

نحن ننظر إلى انتقاء الملاحظات التأكيدية مع الفهم. إن البحث عن تفسيراتٍ للأحداث الصعبة هو شيء طبيعي بالنسبة لبني البشر، وإن القرب الزمني بين التطعيم وتشخيص التوحّد يمكن بالتأكيد أن يشعر المقابل بكونه سبباً. ومع ذلك، فإن هذه المجموعة من النوادر، كيفما كانت شعبيتها، فهي ليست علماً. إنّ أغلب المراقبين الموضوعيين يمكنهم فهم أنّه لو تم تطعيم ملايين الأطفال وأن جزءاً من الأطفال قد تطور التوحّد لديهم، فإن العديد من الأطفال الذين تمّ تطعيمهم سيتطور لديهم التوحّد فيما بعد، حتّى في ظل الغياب التام لأي رابط بين السبب والنتيجة. من الواضح أن العديد من الناس لا يزالون يعتقدون بأنّ التطعيمات تؤدّي إلى التوحّد، ولكن على الأقل فإن العلم الحقيقي والأدلة الزائفة واللذان يمثلان طرفي الموضوع لا يزالان واضحين نسبيّاً.

اللقاحات والتوحّد: ترويج الأبحاث غير المترابطة

إن هذا السياق مهمٌ لفهم منهجٍ مثيرٍ للاهتمام والذي تطوّر بعد ذلك فيما يتعلّق بالتطعيمات والتوحّد. فلقد عاد العلم المزعوم الذي يقف وراء الترابط بين اللقاحات والتوحد. حيث بدأت أوساط المروّجين إلى أن اللقاحات تسبب التوحّد بتقديم عدّة دراسات لم يُجرِها (ويكفيلد) كدليلٍ لعلمهم السانِد. يمكننا القول أن هذا المنهج قد تمّ الترويج له من قبل المدوِّنة جينجر تايلور (Ginger Taylor) في سنة 2007 حيث نشرت قائمة بعنوان “أكثر من اثنتي عشرة دراسة” تدعم الرابط بين اللقاحات والتوحّد (أنظر تايلور Taylor 2013). وقد توسّعت هذه الدراسة إلى ما يزيد عن 100 دراسة. لقد اتفقت قوائم أخرى مع عمل (تايلور) من بينها قائمة واليا (Walia) لسنة 2013 والتي تحتوي على اثنتين وعشرين دراسة، وقائمة عدل الطباطبائي (Adl-Tabatabai) لسنة 2015 والتي تحتوي على ثلاثين دراسة، وقائمة مخزن الدعم العلمي لمكافحة اللقاحات (Anti-Vaccine Scientific Support Arsenal) لسنة 2015 والتي تحتوي على ستة وعشرين دراسة، وأكثر ما تحتويه هذه الأخيرة وجهات نظر ومراجعات. ولتوضيح انتشار هذا الجدال، ظهرت صفحة على فيسبوك بعنوان منشور ناشط (Activist Post) حيث تم نشر قائمة (واليا) بتاريخ 24 أغسطس 2015، وتحتوي هذه الصفحة على ما يزيد عن 500,000 متابعاً مؤخّراً. نحن لسنا بحاجة لمعالجة هذه الدراسات تحديداً، لأن الآثار الاجتماعية لهذه الدراسات قد تم كشفها بشكلٍ كافٍ من خلال الأبحاث العلمية (أنظر (تايلور Taylor) وآخرون لسنة 2014 على سبيل المثال) وأيضاً من خلال العلماء الذين قاموا بمراجعة الشؤون المتعلّقة بالعديد من هذه الدراسات (على سبيل المثال، ديتز Ditz 2013؛ منطق العلم The Logic of Science 2016).

في دراسة نشرت في عام 1982 [(راندر) و (راندر) (Radner and Radner) (1982، 36)]، تم تقييم ذلك العدد من الأبحاث التي يُزعم بأنها تؤيد علاقة اللقاحات بالتوحد، واتضح بأن العلم الزائف يستخدم كمّيّة الأدلة بدلاً من جودة الدليل في محاولةٍ لتسقيط الخصوم. لكن الدراسة لم تذكر ترويج الأبحاث غير المترابطة كطريقةٍ محدّدة لجعل العلم الزائف يبدو علماً حقيقيّاً وهذه هي الطريقة الأخرى التي يستخدمها مروجو العلم الزائف لإثبات علاقة اللقاحات بالتوحد. عدم الترابط بين الدراسات يشمل أكثر بكثير من إدراج دراسةٍ مشبوهةٍ أو اثنتين تقعان في موضع النقاش بشأن العلم والعلم الزائف. “إن تعزيز الأبحاث غير المترابطة هو تجميع فعّال لعدة دراساتٍ بحثيّة مشكوكٍ فيها أو مترابطة بصورةٍ سطحيّةٍ في محاولةٍ لتبرير العلم الكامن وراء ادعاءٍ مشكوكٍ فيه” (أنظر أيضاً (باريت Barrett [2008])، والذي شرح هذا المنهج بشكلٍ مختصر). وهذا يشتمل، من بين عدّة أشياء، على ما يلي:

(أ) النتائج التي لها مصداقية مشبوهة،

(ب) النتائج التي من المحتمل أنها قد حصلت عن طريق المصادفة،

(ج) النتائج المبنيّة على عمليّاتٍ إحصائيةٍ غير دقيقة والتي تخلق فهماً خاطئاً لعلاقةٍ ما،

(د) النتائج القادمة من أبحاث مسيطرٍ عليها بطريقة سيئة،

(هـ)  النتائج التي تم فيها التلاعب بالجوانب التي من المفترض أنها ضارة في اللقاحات بمستوياتٍ أقوى بكثير مما هو موجود فعليّاً في اللقاح،

(و) النتائج التي ارتبط المتغير التابع فيها بالتوحّد بشكلٍ عرضيّ، لكنه ليس توحّداً (مثل مشاكل الجهاز الهضمي)، (ز) النتائج التي تحتوي على تفسيراتٍ متعددّة نتيجةً للمتغيرات المربكة (أنظر (ديتز) 2013: منطق العلم 2016).

لماذا حصل ترويج للأبحاث غير المترابطة في مجال اللقاحات والتوحّد بشكلٍ بارزٍ جدّاً؟ إن السبب في ذلك يعود إلى أن حركة مكافحة التطعيم قد ازدهرت بعد نشر ما بدا أنه بحثٌ علمي مصداقي (ويكفيلد وآخرون 1998 – تم سحبه لاحقاً). وهذا أدى بالعديد من الأفراد إلى أن يترسّخ لديهم الرأي القائل بأن اللقاحات تسبب التوحّد. وهذا الترسيخ المبدئي قد تم تعزيزه بالطبع من خلال عدم تطعيم الأطفال، وتشجيع الآخرين على تجنّب تطعيمهم، أو كلا الأمرين معاً. الأمر الذي سيقود لشئ آخر وهو صعوبة الاعتراف بالخطأ في العلاقة بين اللقاحات والتوحد لأن العواقب تشمل صحة الأطفال.

ونعتقد أيضاً بأن ازدهار الانترنت والتواصل الاجتماعي أدّى إلى تنشيط منهج العلم الزائف هذا (أنظر على سبيل المثال كاتا 2012). إن هذا الترويج للأبحاث غير المترابطة قد حصل بأغلبية ساحقة – وربما حصراّ – في هذا السياق. حيث أن الإنترنت يوفّر وصولاً سريعاً لثروة هائلة من المعلومات العلمية والزائفة ويتيح لكل طرف في النقاش نشر المعلومات بسرعة وبصورةٍ واسعة.

الإنتصارات الملحمية والآثار العملية

لسوء الحظ، فإن الترويج للأبحاث غير المترابطة هو طريقة ذكية سواء كانت بقصدٍ أو دون قصد حيث بإمكانها إخفاء الفوارق بين العلم الحقيقي والعلم الزائف. يستطيع المؤيدون للعلم ببساطة إلى حدٍ ما توضيح السبب وراء كون الملاحظات التي تم اختيارها لإثبات علاقة اللقاحات بالتوحد أو تصاميم الأبحاث المحددة مضللّة. لكن الأكثر صعوبة على المؤيدين للعلم هو معالجة لائحةٍ ضخمةٍ من نتائج الأبحاث التي لها صلة بموضوع  ومصداقية مشكوك فيهما. ومع ذلك، إذا لم تتم معالجة هذه القوائم، فقد يرى المطلعون الجدد في البداية صورة للعلم الذي يزعم بأنه يروّج لكِلا وجهتي النظر، وهذا بإمكانه أن يخلق إحساساً خاطئاً بالمساواة بين العلم والعلم الزائف المتمثل بربط اللقاحات بالتوحد (Skeptical Raptor 2015).

وفي نفس الوقت، فإن الدخول في هذا النقاش من الممكن أن يخلق سلسلة من الانتصارات الملحمية. إن الأفراد الأذكياء علميّاً والذين ينقدون الترويج للأبحاث غير المترابطة من الممكن أي يربحوا عدّة معارك في حين أنهم سيواجهون انتكاسةً في حملتهم الشاملة – تلك الحملة التي تم شنّها باستعمال الحجج بدلاً من الجنود في محاولةٍ لتعزيز العقل. وسيتم إغراء هؤلاء الذين يحبون العلم بصدق لدخول هذا النقاش علماً بأنهم في النهاية سيملكون اليد الرابحة، ولكن أوساط المدافعين عن ان اللقاحات تسبب التوحّد بإمكانهم تقديم لائحة طويلة من الحجج المنافِسة الضعيفة على شكل أبحاث زائفة، أو أبحاث ضعيفة، أو أبحاث مترابطة بالمصادفة، ومؤامراتٍ مزعومة مؤيّدة للتطعيم. وللأسف، ففي الوقت الذي تتم فيه مناقشة الحجج حول العلم الكامن وراء التلقيحات والتوحّد، فإن الوافدين الجدد لهذه المسألة قد يتعبون ويتشوشون فكرياً حول ما الذي يجب عليهم أن يصدّقوه (راندر وراندر 1982: Skeptical Raptor 2015). وهذا من الممكن أن يجبر العلم على أن يعتمد على السلطة بدلاً من الإعتماد على تفسيرٍ قابلٍ للفهم للدليل العلمي الموجود بالفعل. ومن المثير للسخرية أن الإعتماد على السلطة لتأكيد المعتقد هو منهج آخر شائع ومرتبط بالعلوم الزائفة (على سبيل المثال، هانسون 2013).

ولعل الأهم من ذلك، والغريب بما فيه الكفاية، هو أن الترويج للأبحاث غير المترابطة هو اعترافٌ بأن العلم شيءٌ مهم. ولو لم يكن العلم مهمّاً، فلن يكون هناك أي سبب لتقديم قوائم من الدراسات التي من المفترض أنها مدعومة من الناحية العلمية. وهذا ما يخلق موقفين متناقضين يمكن سؤالهم لأوساط المدافعين عن فكرة أن اللقاحات تسبب التوحّد، لتوضيحهما. أولاً، هل يجب أن تستند القرارات بشأن اللقاحات والتوحّد على أدلّة علمية؟ يبدو بأن البعض في هذه الأوساط يؤمنون بأن العلم شيء مهم (تايلور 2013 على سبيل المثال) بينما يشكك آخرون في منفعة العلم (على سبيل المثال، جايمسون 2015). وثانياً، هل هنالك مؤامرة تكتم الأبحاث الساندة للرابط بين اللقاحات والتوحّد (مثلاً، أولمستد 2014)؟ ولو كان هنالك مؤامرة بالفعل، فلماذا توجد العديد من الدراسات المنشورة التي من المفترض أنها تدعم هذا الارتباط؟

الخلاصة

إن الترويج للأبحاث غير المترابطة يكشف تناقضاً جوهريّاً. لأنه يعترف بأهمية العلم ولكنّه يتجاهل الدراسات العلمية الغنية بالمعلومات والتوافق العام للآراء في الوسط العلمي. يخدم تحليلنا للعلم مقابل العلم الزائف في هذا التطوّر غرضين اثنين. الأول هو أننا نأمل بأنه يشجّع على استجابةٍ فعّالة بشأن الترويج للأبحاث غير المترابطة في مجال اللقاحات والتوحّد. والثاني، أننا نريد تسليط الضوء على الترويج للأبحاث غير المترابطة كمنهجٍ زائفٍ مهمٌ بذاته. ونعتقد بأنّ الترويج للأبحاث العلمية غير المترابطة سيوسّع منهج العلم الزائف، ولذلك ينبغي أن يكون دعاة العلم والعقل على أهبة الاستعداد لتحديده ومعالجته.

ترجمة وتلخيص: هشام الصباحي

المصدر:

Craig A. Foster, Sarenna M. Ortiz, “Vaccines, Autism, and the Promotion of Irrelevant Research: A Science-Pseudoscience Analysis“, Skeptical Inquirer Volume 41.3, May/June 2017