إن إنجازات إنسانيـي عصر النهضة، المشهورين لنا اليوم من خلال أدبهم، فنهم، وأعمالهم العلمية أمثال ليوناردو دافنشي، إيرازموس، كوبرنيكوس، جاليليو، مونتين، وشكسبير قد جُعلت ممكنة من خلال إعادة الاستثمار في قيمة اثنـتين من سمات الشخصية الإنسانية وهما: الفضول الدنيوي والقوة العقلانية والمنطقية للعقل المتعلم.

في الوسط المسيحي التقليدي، فإن التعبير عن وإظهار هذه القيم قد اُعتبر بمثابة علامة إثم وذنب، وغطرسة تتحدى الله، وإعادة انبثاقهم في عصر النهضة لا يُمكن المبالغة في تقديرها كعامل في تطوير الفنون الإنسانية والعلوم: حيث استخدم جاليليو التليسكوب المصنوع حديثاً لإشباع رغبته في استكشاف السماء؛ وقام مايكل أنجلو بنحت تمثال دايفيد الهائلة للاحتفال بالشكل الإنساني؛ وقد كتب مونتيـن مقالاته لأنه كان منهكاً من الدوغمائية الخرافية القائمة في المذاهب الطائفية بخصوص أساس السلطة الدينية والخلاص الأخروي، والذي قاد إلى العديد من الحروب الدينية السائدة في عصره.

بقدر ما اُعتقد أن أعمال إنسانيـي النهضة تساهم في إعلاء مجد وعظمة الله، ولكن كان هذا التأثير ثانوياً، كنتيجـة وليس كسبب لقيمهم الجوهرية باعتبارها إبداعات بشرية. وبالمثل، فإن الفضول والمتعة في إشباع الرغبات الفكرية البشرية لا من أجل شيءٍ إلا لذاتها، قادت في نهاية الثورة العلمية التي اجتاحت مراكز التعلم بأوربا في القرن السابع عشر، بالغةً ذروتها في عام 1687 بإصدار إسحاق نيوتن لمؤلفه: المبادئ. ولقد أصبح هذا العمل لنيوتن مثال ونموذج للعلم الثوري، مقدماً لأول مرة مجموعة من القوانين الرياضية البسيطة (مبادئ الجاذبية الكونية، الكتلة، والقصور الذاتي)، والتي وصفت حركة الأجسام المادية على الأرض وفي السماء، واللْذين اعتبرا سابقاً عالمين متميزيـن ومنفصلين.

بإعلان نيوتن أن القوة تساوي الكتلة مضروبة في العجلة، أنتج السحر الأيوني أول معادلة عظيمة للفيزياء الرياضية والذي يهتم بتفسير سبب انتظام سلوك الأشياء في الكون المرئي. خلال القرن الذي أحدث فيه نيوتن ثورة في علم الفيزياء، تم تطوير العديد من النظريات وتحقيق العديد من الاكتشافات التجريبية، والتي ستوسع وتوحد مجال السببية الطبيعيـة عبر كل مجال أكاديمي للاستقصاء والبحث. أوضح ويليام هارفي في كتابه (في حركة القلب والدم في الحيوانات) أن القلب يعمل بشكل مشابه كثيراً للمضخة الميكانيكيـة في نشره وتوزيعه للدم خلال الجسم. وقد أنهى عمل هارفي الاعتقاد الشائع في نظر القدماء بسريان روح حيوانية غير مادية في الأوردة حاملة الدم للأعضاء خلال حركتها وعملها. وقد بدأت مقالة هارفي طريق العلم الحديث الطويل المؤدي إلى استنتاج أن العمليات العضوية للحياة ناتجة عن أسباب طبيعية وميكانيكـة وبنى مادية خالصة، ولا حاجة لافتراض عناصر غير مادية وفوق طبيعانيـة (غيبيـة) لتفسيرها.

ويمثل دارويـن وعلماء الأحياء التطورييـن في العصر الحديث، بشكل غير معترف به، الورثة المباشرين لثورة هارفي في التشريح. وبالمثل، فإن روبرت بويل، ناشر ومدافع نشط عن الفلسفة الميكانيكيـة الجديدة للطبيعية، أظهر من خلال تجاربه المتنوعة أن التفاعلات الكيميائيـة يُمكن تفسيرها بالكامل كنتيجـة لحركة وإعادة ترتيـب “الكريات” (الذرات) المادية للعناصر. ومع انتشار عمل بويل، فقد أصبح من الممكن هجر المفهوم الكيميـائي السائد في العصور الوسطى بحلول جوهر روحي في المواد عند خلقها، وذلك لإمدادها بخصائصها وأشكالها المميزة. ولذلك فقد انبثقت نسخة حديثة لرؤية ديموقريطس للعالم، ولكن هذه المرة على أساس علمي تجريبي بدلاً من الحدس: إن جميع أشكال الطبيعـة المختلفة يُمكن فهمها كتجمع وإعادة تراتب للذرات المادية المتماثلة تركيبيـاً.

وبالرغم من أن الفيلسوف الفرنسي ديكارت، كان مؤمناً بالـثَنَويّة أي بتمايز العقل عن المادة، فقد ساعد برغم ذلك في وضع الأسس المادية للفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء). فقد اعتقد أن جميع وظائف الحياة (باستثناء العقل والتفكير في البشر) يُمكن تفسيرها من خلال استخدام حركة المادة لا الروح. وقد رسم حداً فاصلاً بين البشر والحيوانات. امتلك البشر في نظره بروح أو عقل، بينما يُمكن فهم الحيوانات فهماً كاملاً كآليات طبيعيـة خالصة لعدم امتلاكها للروح. وبرغم أن ديكارت لم يستطع تقديم تفسير عضوي كامل للإنسان، فقد كانت فقط مسألة وقت قبل أن يأخذ الآخرون هذه الخطوة.

خلال معظم حقبة القرن السابع عشر، اقتصرت معرفة الأفكار العلمية الجديدة التي ولدتها الثورة العلمية على أفراد الجمعيات الخاصة لتقدم وتطوير العلوم مثل الجمعية الملكية البريطانية والجمعية الفرنسية للعلوم. ولكن بحلول التطورات التي حدثت في القرن الثامن عشر (عصر التنوير)، وصلت هذه الأفكار إلى الطبقة الأوروبية السياسية المتزايدة من التجار العادييـن، وأصحاب المتاجر، المزارعيـن المستقلين، والصناع المبكريـن. وقد بدأت مجموعة من المنظرين والتنويريـن الفرنسيـن والذين يطلق عليهم “الفلاسفة”، بنشر كتيبات ومقالات صحفية للتعريف بأعمال نيوتن، هارفي، بويل، وأبطال العلوم التجريبية الآخرين. وهؤلاء الفلاسفة هم نماذجنا المبكرة من عامة المثقفين، الذين حملوا على عاتقهم مهمة التوسط بين عامة الناس والعلماء المشغلين بالتخصصات الأكاديمية المختلفة. وقد كان أوج هذا المشروع الشعبي الثقافي هو نشر “الموسوعة”. تم تحرير هذه الموسوعة بواسطة ديدروت دلامبارت وشخصيات رائدة أخرى من أواسط القرن الثامن عشر بفرنسا، وقد تم إعداد هذه الموسوعة لتكون خلاصة وافية لجميع المعارف المتاحة والمتعلقة بالطبيعة حتى ذلك الوقت.

وقد كان أعظم تأثير لهؤلاء الفلاسفة، رغم ذلك، في حقل الفلسفة الاجتماعية والسياسية، حيث تم التعبير عن الآراء التي ستُلهم قادة الثورات الديموقراطية، أولاً في المستعمرات البريطانية في الأميركتين وثم في فرنسا. وضع جون لوك في كتابه “المقالة الثانية في الحكومة” أفكار الفلاسفة في السياسة والحكومة، فقد سعى هؤلاء الفلاسفة من أجل إزالة الغموض المتعلق بمصادر السلطة السياسية في المجتمع ووضعها على أسس طبيعية. فقد هجروا نظرة العصور الوسطى للعالم كتسلسل هرمي ينشأ بالله (أي على قمته) وينحدر خلال سلسلة من السلطات الروحية، منتهياً بالملك ذي الأوامر والإلهية، والذي تشكل أوامره قوانين البلد. فقد تخيل الفلاسفة، بدلاً من ذلك، سلطة سياسية ذات نموذج علماني: يُشتق من عقد اجتماعي مفترض يقرره البشر الأحرار، لتأسيس إطار من التعاون هدفه الفائدة المشتركة والحماية.

وقد أدرك الفيلسوف السياسي جان جاك روسو في كتابه: خطاب في عدم مساواة الإنسان، وكما أدرك أيضاً فلاسفة عصر التنوير، فإن مصادر الظلم والصراع الطبقي تنبع من الغموض والأوهام المدسوسة على عامة الناس غير المتعلمين بواسطة رجال الدين، الملك، والقوى الرجعية الأخرى. وقد رفضت شخصيات عصر الأنوار رؤية الكنيسة التقليدية للعبودية بوصفها نتيجة حتمية للطبيعة البشرية الآثمة والساقطة، فقد رأى هؤلاء المفكرون أن هذه الأفكار مصممة لإجبار المجتمع على قبول السيطرة والهيمنة على أساس غير طبيعي. ولقد أدرك مفكرو التنوير أهمية الإصلاح الاجتماعي والتعليم الثقافي كمشروع طموح يهدف إلى السماح للقدرات الطبيعية للبشر بالازدهار من أجل المصلحة المشتركة للجميع. كتب ثلاثة رجال من عصر التنوير أعمال فذة ومهمة في الفلسفة الطبيعانية المعاصرة لعلم الأنساب الفكري وهم: ماركيز دو كوندورسي، جوليان أوفراي دلامتري، وبارون دولياخ. فقد قدم دلامتري رؤية ميكانية وطبيعانية للإنسان في كتابه: الإنسان، آلة. وفي كتابه غير المعروف: نظام الطبيعة، عبر بارون دولباخ عن فلسفة طبيعانية متشددة رفضت وجود أي حقيقة لا يُمكن البرهنة عليها ووضعها على أساس تجريبي من الأسباب الطبيعية. وإلى جانب الإنجليز الطبيعانين الأوائل مثل هيوم وهوبز، كان دولباخ من أوائل من أصروا على أن المفاهيم التقليدية لحرية الإرادة، باعتبارها قوة غير طبيعية ومضادة للسببية والتي بإمكانها خرق قوانين الطبيعة ونفي السببية عن السلوك البشري، كانت غير مترابطة، وغير ضرورية لوضع الأساس للحرية السياسية والمسؤولية الأخلاقية. وفي الواقع، فقد اعتقد دولباخ أن فهم السلوك البشري باعتباره طبيعياً خالصاً شرط مسبق لوضوح وجلاء مفهوم الأخلاق:

“الأخلاق باعتبارها علم العلاقات التي توجد بين العقول، الإرادات، وأفعال البشر، مثلما أن الهندسة هى علم دراسة العلاقات الموجودة بين الأجسام. سوف تصبح الأخلاق وهماً خالٍ من المبادئ، إنْ لم تؤسس على معرفة الدوافع التي تؤثر بالضرورة على إرادة الإنسان، والتي تتحدد أفعال البشر بناءاً عليها.”

وقد كمل كوندورسي الرؤية الطبيعانية الإيجابية للعالم، فبعد هجوم دولباخ العنيف على أضرار الاعتقاد الديني والخرافات، نشر كوندورسي في كتابه: مخطط للصورة التاريخية لتطور العقل البشري، كيف يُمكن للتقدم في العلوم أن يؤدي إلى ازدهار الإنسان مثل تنظيم المجتمع جيداً والتوزيع العادل للموارد. وقد كان كوندورسي من أوائل من أشاروا إلى الدْين الأخلاقي الذي يدين به البشر لأحفادهم، قائلاً بدقة: “إن كانت لدينا أية التزامات تجاه الكائنات التي لم تتواجد بعد، فإنها لا تتضمن إعطاءهم الحياة بل السعادة.”

المصدر:

Prado, I., (2006, June). History of Naturalism. Naturalism.org. Retrieved from https://www.naturalism.org/worldview-naturalism/history-of-naturalism