مع الانتشار التدريجي للرؤية الطبيعانية للعالم خلال القرن التاسع عشر في الطبقة الأوروبية المثقفة، تم تدشين العديد من الحركات الإصلاحية الإنسانية التي رأت أن الأمراض، الحروب، الجرائم، الجنون، العبودية، الفقر، وعدم مساواة المرأة، ما هم إلا نتيجة أسباب طبيعية وقابلة للعلاج، رافضين بذلك مفهوم “الخطيئة الأصلية”، وعدم قابلية التغير للتسلسل الهرمي الاجتماعي (الذي يبدأ بالله، ثم بالكنهوت، وبالملك المقدس). في القرن التاسع عشر، أيد مجموعة من الفلاسفة، عُرفوا فيما بعد بالفلاسفة الراديكالييـن، الإصلاحات الاجتماعية التي تم طرحها بواسطة نظرية أخلاقية تقوم على الأبيقورية الحديثة، وتسمى المنفعة. وقد دافع عن هذه الفلسفة الأخلاقية الحديثة جيريمي بنتام في كتابه: مبادئ الأخلاق والتشريع، وجون ستيوارت ميل في كتابيـه: المنفعة، وفي الحرية. إلى جانب كونه من أوائل من حثوا على المساواة السياسية للمرأة وحقوق الحيوان، فقد كان تأثير بنتام الأعظم في إعادة تأويل أساس العقاب الإجرامي معتمداً على عواقب الفعل وليس القصاص. فطبقاً، لمذهب القصاص (الجزاء) الأخلاقي، تُفرض العقوبات على منتهكي القانون بصورة متكافئة مع الجرائم التي ارتكبوها، بدون أي اعتبار للفوائد الاجتماعية أو الشخصية للعقوبة. أما بالنسبة لمبدأ العواقبيـة، فإنه يُمكن تبرير العقوبة والسجن فقط إذا هدفت لغايات مستقبلية مثل تعزيز الرفاهية الشخصية والعامة عن طريق تثبيط الجرائم، إعادة تأهيل المجرميـن، وحماية المجتمع من الأشخاص الخطرين. من خلال انتشار الرؤية الأخلاقية للعواقبيـة التي اعتنقها بنتام، ميل، ومثقفين آخرين ذوي طموح إصلاحية، تحولت السجون ومصحات المجانيـن في بريطانيا والمجتمعات الغربية تدريجياً من كونها بيوت بدائية لاحتواء الأشخاص غير المرغوب بهم إلى مراكز إعادة تأهيل أكثر إنسانية.

وبنشر عالِم الأحياء الطبيعاني الإنجليزي تشارلز روبرت داروين كتابه: في أصل الأنواع، عام 1859، فقد زود علم الأحياء بأساس متيـن يقوم على الانتخاب الطبيعي: حيث جميع الأنواع، وكل التعقيدات بين الأنواع في العالم، قد أتت من سلف مشترك وحيد الخلية، عن طريق عملية من التطفر العشوائي واختلافات في النجاح التناسلي. إلى جانب تطوير علم الجينات الحديث، فقد وحدت نظرية داروين بضربة واحدة العلوم الحياتية مع العلوم الطبيعية، وأنهت الحاجة لافتراض أسباب غائية (إلهية وغيبيـة) لتفسير النظام والتنوع في الطبيعة. وقد تم النظر لنظرية داروين في التطور حينها، والآن أيضاً، بواسطة العامة كتهديد للإيمان الديني، وخاصة الإيمان بأن طبيعة الوجود الإنساني ما هو إلا نتيجة غايات إلهية. عام 1925، كافح كلارنس دارو في أولى المعارك القضائية لإبقاء البدائل غير العلمية لنظرية التطور بعيداً عن فصول علم الأحياء في المدارس بالولايات المتحدة، في محاكمة سُميت محاكمة سكوبس.

برغم أن نظريات داروين العلمية قد أحدثت لغط سياسي وثقافي، فقد ساعدت مع ذلك في إنشاء مدرسة جديدة في الفلسفة الأمريكية، سميت بالطبيعانية، والتي نشأت كبديل للفلسفة التقليدية وذلك بوضع التفكير الفلسفي بعناية على أساس طبيعي، بل داخل الطبيعة نفسها. فقد فسر الطبيعانيون الإدراك الإنساني والتفكير التقييـمي كذروة للقدرات الطبيعية التي تطورت خلال العمليات التكيفيـة التطورية. وعلى خلاف الفلسفات المثالية، الثنوية، والمتعالية، فقد فهم هؤلاء الفلاسفة الطبيعانيون أن دور الفلسفة وممارستها لابد وأن يكون متواصل مع المشروع العلمي في تحصيل معرفة موثوقة عن العالم، لا تأسيس حقائق مستقلة عن التجريب. وقد ألهمت كتابات جون ديوي، الفيلسوف والمنظر التعليمي والناقد الثقافي، في أوائل القرن العشرين، أجيالاً من الفلاسفة في الولايات المتحدة بنظام أسماه: الطبيعانية البراجماتية. من ضمن الفلاسفة التي ضمتهم الحركة الطبيعانية الأمريكيـة الأصلية جورج سانتايانا، فريدريك وودبريدج، موريس كوهين، وجون راندال. إلى هنا، فقد احتلت الطبيعانية أخيراً مكانتها كرؤية محددة للعالم، قائمة على الالتزام بالعلم التجريبي ونظريته في المعرفة (إبستمولوجي)، ولكن ذهبت الطبيعانية إلى أبعد من حدود العلم برفضها الادعاءات الغائية والغيبية عن العالم الطبيعي.

يعتبر إيرنست نايجل، سيدني هوك، يلارد كواين، وويلفريد ستيلار من ضمن الفلاسفة الطبيعانين والبراجماتييـن في منتصف القرن العشرين، والذين أكدوا على دور الفلسفة المستمر والمتواصل مع العلوم الطبيعية. فالفلسفة الطبيعانية تختلف عن التقليدية في إنكار امتلاك الفلسفة لمنهج خاص غير معتمد على العلوم، ويُمكنه إثبات نجاحه في إنتاج المعرفة. إن نجاح العلم لم يكن لشيء إلا نتيجة لتوحيده فهمنا عن الطبيعة عن طريق إمدادنا بتفسيرات اقتصادية (أي حريصة)، قابلة للتنبؤ، والتي تحظى بإجماع واسع، ويساهم الفلاسفة بشكل أساسي في توضيح مفاهيمنا، والحفاظ على شفافية افتراضتنا، مناهجنا، ومنطقنا. يحظى المنهج الطبيعاني للفلسفة لستيلار وكواين بقبول واسع في المجتمع الأكاديمي. تُوجد الأغلبية الساحقة اليوم من الطبيعانين في الأقسام الفلسفية والحلقات العلمية، داخل وخارج المجتمع الأكاديمي. إنهم يعتقدون بأن أفضل طريقة لمواجهة المشكلات الفلسفية التي تجذب وتحير البشر مثل طبيعة الوعي، النفس، حرية الإرادة، العقلانية، أسس الأخلاق والعدالة، هو من خلال أدوات ونتائج العلوم الطبيعية والإنسانية. إن العلوم هي حليف الفيلسوف في سعيه للمعرفة الموثوقة عن العالم، والفهم العملي لكيفية الحصول على حياة صالحة، مرضية، وذات معنى والتي تقبع داخل هذه المعرفة.

إن هؤلاء الذين يميلون إلى أخذ منظور مشكك تجاه الالتزام الفكري للطبيعانية المعاصرة، عادة ما يعلقون على الحماسة شبه الدينية التي يتخذها الطبيعانيون أحياناً في رفضهم لأهمية أو معقولية أي رؤية بديلة للعالم. بقراءة هذه السلسلة، فإنه قد بات واضحاً زيف وتضليل هذا التشبيه السابق عن الأشخاص الذين يلتزمون بالرؤية الطبيعانية للعالم. فبالرغم من أن دوافع الطبيعانية والتي تتمثل في الشغف والامتنان للحقيقة وطبيعة الوجود الإنساني، هي نفسها دوافع التدين، ولكن الطبيعانية ليست إيمان من أي نوع. إنها، بدلاً من ذلك، نظام اعتقادي قائم على ومُبرَر بالتقدم في العلوم الطبيعية والذي حاولت تلخيصه هنا. ولكن تذهب الطبيعانية إلى أبعد من حدود العلم في رؤيتها لأنفسنا كمخلوقات طبيعية بالكامل، وإصرارها على أهمية هذه الرؤية لمكانتنا في العالم ونوعية الحياة التي بمقدورنا ونستحق أن نحياها. على عكس المؤمنين الدينيـن الذين يتمسكون بالرؤية الإلهية الغيبية، بدافع من الخوف وما قد يترتب على إنكاره للحياة الإنسانية، فإن الطبيعاني فوق كل شيء مؤمن بأن الكرامة الإنسانية لا يجب أنْ تُشترى على حساب الوهم، وبالنسبة له أيضاً، فإن السحر الأيوني يتوافق مع أفضل وأكثر الأشياء رفعة بداخله والتي قد يدعوها المؤمن “الروح”.

المصدر:

Prado, I., (2006, June). History of Naturalism. Naturalism.org. Retrieved from https://www.naturalism.org/worldview-naturalism/history-of-naturalism