إن نظرية المعرفة هي إحدى أهم الفروع الحية المتبقية في الفلسفة والتي ستبقى كذلك بالنظر لانتقال الكثير من تخصصات الفلسفة من مهام التفكير والتدبر إلى مهام الكشف العلمي والقياس وبالتالي تحجيم دور تفكير الإنسان في الكشف عن مكنون الأشياء والاستعاضة عنه بالملاحظة المباشرة، لاسيما مع تقدم وسائل الملاحظة والقياس. لكن الأمر مختلف بالنسبة للمعارف إنها من الأمور القليلة التي ما زالت وستبقى من مسؤولية الفكر الإنساني.

سنبحر في هذا المقال بمركب الاستاذ رودريك تيشزهولم الدكتور في الفلسفة من هارفارد عبر كتابه نظرية المعرفة[1] الذي ترجمه الأستاذ نجيب الحصادي، تيشزهولم معروف بأعماله في نظرية المعرفة، الميتافيزيقا، الإرادة الحرة وغيرها من المواضيع. بالإضافة لذلك سنستعين بمصادر أخرى أبرزها موسوعة ستانفورد للفلسفة.

تحاول نظرية المعرفة أن تجيب الاسئلة الاتية[2]:

  • كيف نفهم مبدأ التبرير؟
  • ما الذي يجعل الاعتقادات المبررة كذلك؟
  • هل التبرير داخلي أم خارجي بالنسبة لعقل الإنسان؟

وبذلك تبحث نظرية المعرفة معتقداتنا حول القضايا المختلفة وتصنيفات تلك القضايا من وجهة نظر نظرية المعرفة، درجات التوكيد وطرق التعبير بالشكل الصحيح عن التصريحات حول القضايا المختلفة.

القضايا

محور نظرية المعرفة هي القضايا، تدور نظرية المعرفة حول قضايا لها أصناف مختلفة على مستويات مختلفة بظروف مختلفة. كل شئ نتناقش حوله مهما كان تافهاً هو قضية، لون جلدك، طولك، أخلاقية إعلان حرب ما، هل ستمطر غداً؟ كل تلك قضايا.

من الأمثلة على تصنيفات نظرية المعرفة للقضايا هو تصنيفها إلى قضايا مقبولة وأخرى غير مقبولة إذا كانت مبررات الاعتقاد (الاعتقاد هنا هو اقتناء الرأي بعد أن تنطبق عليه صفات المعرفة) بالقضية تفوق مبررات عدم الإعتقاد بالقضية تُعد القضية مقبولة، والعكس إذا كانت القضية غير مقبولة. بعض القضايا تكون محايدة، مثلاً: إذا كانت مبررات الإعتقاد بسقوط المطر بعد قليل تساوي مبررات عدم الإعتقاد بسقوط المطر فإن تلك القضية محايدة.

المعرفة والرأي الصحيح

لعل أهم ما يتبادر بأذهاننا عند السماع بنظرية المعرفة هو أنها بلا شك ستتولى توضيح مفهوم المعرفة، وهذا هو أول ما تشرع به نظرية المعرفة، فما هي المعرفة؟

المعرفة بقضية ما هي الإحاطة بها، إمتلاك رأي صحيح بخصوصها، وإمتلاك أدلة على ذلك الرأي. المعرفة تتطلب راياً إذاً.

إمتلاك الرأي الصحيح دون أدلة يجعله تخميناً، مثلاً قولي أن الجسم (أ) سيسقط دون أدلة على ذلك ثم تحقق ذلك السقوط فذلك يعني أن تخميني صحيح. أما إمتلاك الأدلة مع الرأي الصحيح فهو المعرفة، أنا أعرف أن الجسم (أ) سيسقط لأنني أمتلك أدلة على ذلك وعند سقوطه فأنا لم أخمن سقوطه بل كنت أعرف ذلك.

وللمعرفة بقضايا معينة إرتباط بإحتمالية معينة مع قضايا أخرى، المعرفة بالقضية (ج) تتبعها القضية (د) بإحتمالية معينة. مثلاً معرفتنا بقضية أن عمر الإنسان لن يبلغ 500 سنة فذلك يعني أن أعمار الفلاسفة اليونانيين لن تبلغ أيضاً 500 سنة، فقضية أعمال الفلاسفة اليونانيين ترتبط بقضية عمر الإنسان.

للرؤية والملاحظة دور كبير في صياغة العبارات ذات التعبير الصحيح في نظرية المعرفة، للرؤية معنى قضوي بمعنى أنها تعني رأياً صحيحاً مع دليل وتقتضي المعرفة. أما الملاحظة فتستخدم للرؤية غير المؤكدة أي بشكل غير قضوي بمعنى أنها لا تقتضي المعرفة.

المقتضيات الأخلاقية للمعرفة غير محددة بتعريف فلسفي محدد ومنها تتفرع إحدى أشهر المعضلات في الثيولوجيا وهي معضلة ثيوديسيا والتي يحتج بها الملحدون على المؤمنين من حيث الافتراض بأن المعرفة التامة تقتضي القيام بأفعال معينة، وبالتالي فإن المعرفة بالشر تقتضي القيام بشيء حياله، وبما أن الشر موجود فالمعضلة قائمة.

بالطبع لا تعني الرؤية هنا بالضرورة الرؤية بمعناها الحرفي بل تشير إلى التحسس والقياس بشكل عام.

بالكلام عن الحواس نعود إلى الطروحات الفلسفية الكثيرة وأشهرها من ديكارت والتي تتكلم عن التضليل في الحواس وعن عدم مصداقيتها.

غير أن جون أوستين (John Austin) يثير إشكالية عامة على ذلك حيث يرى أن المعرفة هي ثمرة الممارسة الناجحة للمقدرة على الحكم والتي تتضمن مزيجاً من الممارسة الناجحة للفطنة (القائمة على الإدراك أو الشهادة) والفرصة. يناقش أوستين بأننا بموجب تلك القدرات فإن أي وصف سنطلقه على الشئ سيكون نابعاً من خبرات سابقة لنا سواء كنا نصفه أو نسميه أو نصف لونه، جميعها قائمة على معرفتنا لشئ ما أو الاعتقاد بشيء ما، فكيف سيكون الأمر وذاكرتنا ووعينا ليسا دقيقين أو واقعيين[3]؟

الأشياء جميعها كذلك، قائمة على تصنيفات سابقة، مهما شبهنا الأشياء أو أطلقنا عليها من صفات فذلك كله نابع من تصنيفات سابقة لنا.  وتلك التصنيفات نابعة من من حواسنا واطلاعنا وخبراتنا السابقة. هل قياس اي شئ يعد محالاً بالنسبة لنا إذاً؟ هذا ما عكف عليه كثير من الفلاسفة واشهرهم ديكارت من الكلام عن عدم الثقة بالحواس. يقول اوستين هنا:

“إن حواس الإنسان وعقله عرضة للخطأ لكن ذلك الأمر ليس راسخاً، كما يقال بأن المكائن عرضة للكسر، لكن المكائن الجيدة ليست كذلك بشكل مستمر، لا يُمكننا الشروع بنظرية المعرفة مع هذا التوجه من إنكار المسؤولية: سينتهي الأمر بجميع هؤلاء إلى رفض وجود المعرفة تماماً في النهاية”

رغم حجة أوستين فإن بقاء الخبرة والإحساس غير المؤكد يجعلنا نستغني عن القول بأننا نرى إلى القول بأننا ندرك شيئاً. لا يُقال (أنا أرى قطة سوداء) إن كان الرائي غير متأكداً بل يُقال (أنا أدرك قطةً سوداء). والإدراكات ايضاً تصنف إلى إدراكات مضللة وادراكات صحيحة. وتتعاضد الإدراكات المختلفة لتجعل القضايا مقبولة فوجود رجل غير معروف في الخارج لا يعني بالضرورة أن الرجل لص، لكن وجود الرجل بزي معين وفي وقت متأخر من الليل يعطي تعاضداً للإدراكات التي تجعل من قضية أن “هذا الرجل لص” قضيةً مقبولة.

تعطينا نظرية المعرفة نواة شاملة عامة لتقرير ماهية المعرفة وصفات المعرفة وبشكل هام أيضاً تتبنى نظرية المعرفة كيفية تعبيرنا عن المعرفة بالشكل الأمثل بطرق قد نراها بديهية ولكنها ليست كذلك عندما نُريد أن نكون دقيقين في استخدام اللغة بشكل صحيح لنعبر عن المعرفة.

مصادر

[1]  رودريك م. تشيزهولم، “نظرية المعرفة”، الدار الدولية للنشر مصر – كندا، ترجمة نجيب الحصادي، 1994

[2] Steup, Matthias, “Epistemology“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.)

[3] Longworth, Guy, “John Langshaw Austin“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.)