”فالحقائق غامضة، والغايات خفية، والشبهات كثيرة، والأفهام كدرة، والمقاييس مختلفة، والمقدمات ملتقطة من الحواس، والحواس التي هي العدد غير مأمونة الغلط‏.‏ فطريق النظر معفى الأثر والباحث المجتهد غير معصوم من الزلل. فلذلك تكثر الحيرة عند المباحث اللطيفة، وتتشتت الآراء وتفترق الظنون وتختلف النتائج ويتعذر اليقين.“

الحسن بن الهيثم

كان ابن الهيثم رائداً سابقاً لجاليليو كـفزيائيٍ، بحوالي خمسة قرون طبقاً للبروفيسور رضالله أنصاري. هذا العالم العربي النابغة الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر وقدم إسهامات جليلة لمبادئ علم البصريات، الفلك، والرياضيات، بل والأهم من ذلك أنه قام بتطوير منهجيته الخاصة: التجريب كطريقة أخرى لإثبات الفرضيات الأساسية.

تم الاحتفال بابن الهيثم بمؤسسة اليونسكو خلال السنة الدولية للضوء 2015، كرائد لعلم البصريات الحديث، وتم نشر هذا المقال بمناسبة مراسم ختام الاحتفالية.

أبو علي الحسن بن الهيثم (965 – 1040)، والذي يُعرف أيضاً لاتينياً باسم الْهازن (alhacen) (تحویر لاتيني لكلمة الحسن)، كان يُدعى بين العلماء العرب بـ «بطليموس الثاني». كان ابن الهيثم عالماً موسوعياً ملماً بالعديد من التخصصات مثل الرياضيات، الفيزياء، الفلسفة، الفلك، الطب، والميكانيكا. وكان أيضاً واحد من العلماء العرب الثلاثة ذوي النبوغ والتميز، وأكبرهم سناً، خلال القرنين 10 – 11. الاثنان الآخران هما البيروني (973 – 1048)، وابن سينا (980 – 1037).

ينتسب ابن الهيثم الى البصرة التي ولد فيها، وقد انتقل الى القاهرة لاحقاً، حيث دعاه الخليفة الفاطمي «الحاكم»، الذي كان راعياً عظيماً للعلم والعلماء. بنى الحاكم مرصداً لعالم الفلك ابن يُونس (المتوفي 1009)، وقام بتأسيس مكتبة دار العلم، والتي بلغت شهرتها شهرة مكتبة بيت الحكمة، التي أسسها الخليفة العباسي المأمون ببغداد قبلها.

كان ابن الهيثم كاتباً غزير الإنتاج. فطبقاً لشهادته الخاصة، كتب 25 عملاً في العلوم الرياضية، 44 عملاً في الفيزياء والميتافيزيقا، وأيضاً في علم الأرصاد الجوية، وعلم النفس. علاوة على ذلك، تُشير سيرته الذاتية بوضوح أنه درس بدقة شديدة فلسفة أرسطو، المنطق، والميتافيزيقا والتي أعطاها سرداً موجزاً.

ويُعد كتابه الأكثر شهرةً في علم البصريات، كتاب المناظر، والتي تمت ترجمته للاتينية بين القرنين الـ 12 – 13، والذي يتناول في سبع مجلدات الدراسات التجريبية والرياضية لخواص الضوء. كما نستطيع استنتاج منهجية بن الهيثم من أعماله الأخرى مثل حديثه عن الضوء، عن ضوء النجوم، عن ضوء القمر، عن الهالات وأقواس القزح.

وسوف نتناول الآن الملامح الرئيسية لمنهجية بن الهيثم، كتصميم تجربة لاختبار فرضية، وليس فقط استخدامها من أجل الملاحظة والاكتشاف كما فعل أسلافه وسابقيه.

ماذا يعني المنهج العلمي ؟

إن أهم ملامح المنهج العلمي الحديث تتمثل في بناء النظرية، والتجريب. تُعتبر عملية بناء النظرية نوعاً من النمذجة الرياضية للحقائق المرصودة، بينما تُمثل عملية التجريب ليس فقط الرصد التجريبي للظواهر، بل أيضا تتضمن البرهان والدليل التجريبي للفرضية. بعبارة أخرى، يتم تصميم التجربة لاختبار الفرضية القائمة على النظرية الرياضية.

لنتذكر هنا أن أينشتاين في النسبية العامة (نظرية الجاذبية) تنبأ بأن الضوء ينحني بواسطة جاذبية الأجسام الكبيرة مثله مثل أي مادة. هذه الفرضية أو الاستنتاج لنظريته تم اختبارها أعوام 1919، 1922، 1947، 1952 أثناء الكسوف الكلي للشمس. وتم رصد أضواء النجوم الموجودة خلف الشمس بالفعل، قد انحنت بواسطة كتلة الشمس.

في جميع الكتب الدراسية في العالم الغربي، يتم تقديم العالم الإيطالي الفيزيائي جاليليو جاليلي (1564 – 1642) كمؤسس للمنهج العلمي. وبهذا الصدد يقول مؤرخ العلم أليستير كاميرون كرومبي في كتابه أوغسطين إلى جاليليو: «دمج جاليليو … طريقته التجريبية مع التجريد الرياضي للنظم الملاحظة … والتي يُمكن منها استنتاج الملاحظة.»

وقد كان اثنان من علماء أوربا بالقرون الوسطى، واللذان كانا بالفعل السلفيْن الرئيسييْن لجاليليو، هما روبرت جروسيتيستي، و روجر بيكون.

كان روبرت جروسيتيستي معلماً لروجر بيكون، والذي كانت مصادره في البصريات من إقليدس، ابن سينا، وكتاب الكندي في البصريات، الذي تمت ترجمته الى اللاتينية في القرن الـ 12، بواسطة الإسباني جيرارد كريمونا. طرح روبرت نظريته في دحض الأسباب، بمعنى آخر لابد من الدليل التجريبي لاختبار الفرضيات المتنافسة أو النموذج الرياضي لها.

بينما العمل العلمي الرئيسي لروجر بيكون، كان في البصريات وعنوانه «العمل الأعظم». وفي الفصل السادس من كتابه، والذي يذكر فيه أمثلة للعلم التجريبي، ونظريته في العلم والطريقة العلمية، كانت مصادره الكندي، ابن سينا، ابن الهيثم، وابن رشد.

وطبقاً للعالم الألماني الشهير Anneliese Maier (1905 – 1971)، والذي حلل أفكار القرن الرابع عشر للفلاسفة الطبيعيين، والعلوم الدراسية في كتابه “أسلاف جاليليو في القرن الرابع عشر”، يذكر أن: «لا يجب أن يتم تفسير الثورة العلمية كعملية تاريخية خطية تم استهلالها بواسطة أفكار جاليليو المبتكرة في الميكانيكا، ومن ثم زيادة استخدام التجريب بعد ذلك.»

الاختبار التجريبي للفرضية

قام ابن الهيثم باختبار الفرضيات التالية، والذي قام بابتكار تجارب خاصة لأنواع مختلفة من الضوء، مثل ضوء الشمس، ضوء الشفق، الضوء المنعكس من الأسطح اللامعة والأجسام المعتمة، والضوء المنكسر.

القاعدة الأولى: ينتشر الضوء في خطوط مستقيمة بغض النظر عن مصدر انبعاثه.

القاعدة الثانية: «كل نقطة من أي جسم مضئ، تشع الضوء على طول كل خط مستقيم … كروياً، … أقصد في كل الاتجاهات.» وكنتيجة لهذه القاعدة، فقد أثبت ابن الهيثم أن الشمس، وحتى مصادر الضوء الصناعية تشع الضوء من جميع أجزائها.

وعلى أساس نتائجه التجريبية، قام ابن الهيثم بتصنيف مصادر الضوء إلى ثلاثة أنواع مضيئة، عاكسة، وكاسرة نافذة للضوء. وبناءً على ذلك، فقد قام بتطبيق تصنيفه على القمر، ففي كتابه – في ضوء القمر، قام ببحث وفحص طبيعة ضوء القمر واستنتج أن «التجربة … تُساعد في البرهنة أن طريقة انتقال الضوء من القمر، من نفس نوع الطريقة المعروفة بالفعل بانبعاث الضوء من أجسام مضيئة ذاتياً.»

وفي كتابه حديث عن الضوء، قدم ابن الهيثم نظريته في الضوء، وخاصة تعريفه للشعاع الفيزيائي. بالإضافة فقد قدم مفهوم حَرَكِيّ عن انكسار الضوء، بأنه نوع من حركة الضوء، بسرعة منخفضة، في وسط أكثر كثافة. علاوة على ذلك، فقد ذهب ابن الهيثم إلى ما هو أبعد، فقد ذكر أن «مسار الشعاع المنكسر، دائماً الأسهل والأسرع.» وبالتالي فقد توقع ابن الهيثم مبدأ فيرما (أو مبدأ الوقت الأقصر لتعيين مسار الضوء بين نقطتين.)، وناقش أيضاً العلاقة بين الضوء والحرارة.

وباستخدام أدواته الخاصة لفحص وبحث انكسار، وانعكاس الضوء – وجد ابن الهيثم ثمانية قواعد لانكسار الضوء.

البرهنة الرياضية للمشاكل الفيزيائية

فلنتذكر في القاعدة الثانية أن ابن الهيثم قام باستبدال أشعة الضوء بخطوط مستقيمة، ومصادر الضوء بأسطح – من عليها تنشأ تلك الخطوط المستقيمة في جميع الاتجاهات. وبرغم الحقيقة القائلة أن هذا النوع من التجريد كان معروفاً لدى سابقيه من الإغريق. ومع ذلك، فإن إنجازه الرئيسي يكمن في التقصي والبحث عن العلاقة الوظيفية والعملية بين تجريده الرياضي والتجربة.

وعلى وجه التحديد، فإن منهجيـته تكمن في الاستخدام المنظم والمنهجي للتجريب للظواهر الفيزيائية الفردية، وفي نفس الوقت التمثيل الرياضي أو الوظيفي للظاهرة الفيزيائية موضع التساؤل والفحص. فمثلاً، نظريته في انكسار الضوء (خاصية شفافية الوسط، تعرف اليوم بمعامل الانكسار.)، على علاقة بزاوية الانحراف للشعاع المنكسر. وبهذا المعنى، فإن ابن الهيثم كان سابقاً لجاليليو كـ فيزيائيٍ، بحوالي خمسة قرون.

عن السلطة

من المؤكد الآن أنه بعد استبدال المركزية الأرضية (النظام البطلمي)، بالمركزية الشمسية للعالم، كما طرح كوبرنيكس، وتبعه كتاب جاليليو: حوار حول النظاميْن الرئيسيْن للكون، فقـد تقوض الإيمان بالسلطات، بل وأصبح موضع شكٍ واستجواب. والضربة النهائية القاضية، أتت من رينيـه ديكارت في كتابه: مقال عن المنهج (اسمه الكامل، المقال عن المنهج المتبع بحق بعقل المرء والبحث عن الحقيقة في العلوم.)، والذي خاطب فيه هؤلاء العلماء بقوله: «الذين يستفيدون فقط من ذكائهم الطبيعي الخالص، ويرفضون مجرد الإيمان بالكتب القديمة، أي بدون تعارض وتناقض السلطة مع الاختبار والتجربة.»

ومن المذهل أن ابن الهيثم، قد تبنى نفس المنهجية البحثية. فقـد كتب في كتابه: الشكوك على بطليموس:

«إن الحقيقة لا تُلتمس إلا لذاتها. لذا فإن الباحث عن الحقيقة ليس هو من يدرس كتابات القدماء، على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يُعلِّق إيمانه بهم ويتساءل ما الذي جناه منهم. ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملأها كل أنواع النقص والقصور. وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء، إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه، هو أن يستنكر جميع ما يقرأه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب. وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضاً، حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل. فإذا التزم هذا المنهج، فإن الحقيقة، بالإضافة إلى الأخطاء والعيوب في كتابات سابقيه سوف تظهر جلية له.»

والخلاصة أن ابن الهيثم كان عليه التركيز أكثر على تحسين وتطوير الطرق العتيقة من الملاحظات التجريبية، وبالتالي فقد قام بتطوير منهجيته الخاصة: التجريب كـطريقة أخرى لإثبات الفرضية الأساسية.

تجاهل العصور الوسطى الإسلامية

أود أن أختم المقال بملاحظة يائسةٍ بالإشارة إلى تجاهل العصور الوسطى الإسلامية، والذي ظل خلاله علم تجريبي كالبصريات في طي النسيان، برغم أنه تم بحثه بدقة بواسطة ابن الهيثم. وبشكل غريب، يُوجد فقط تعليق وحيد على بصريات ابن الهيثم، تمت كتابته في خلال ثلاثة قرون.

وعلى الجانب الآخر، فإنه خلال العصور المظلمة بأوربا، فإن بصريات ابن الهيثم تم تخليدها بواسطة الشاعر الإنجليزي جيفري شوسر (1320 – 1400) في «حكاية سكوير»:

«لقد تحدثوا عن ابن الهيثم و ويتلو،

وأرسطو  – الذين كتبوا خلال حيواتهم

عن مرايا غريبـة، وأجهزة بصرية.»

يُشار هنا إلى ابن الهيثم، والعالم البولندي ويتلو والذي يستند كتابه في البصريات إلى حد كبير على بصريات ابن الهيثم، والذي تم إلحاقه بنسخة فريدريك رزنر من كتاب المناظير لابن الهيثم. إن بحث ويتلو قد ساهم بنقل مبادئ أبحاث البصريات بالعصور الوسطى إلى كبلر ويكارت بالقرن السابع عشر. وبناء على ذلك، فإن البصريات و منتجها الثانوي – الطريقة العلمية، يُشيران إلى استمرارية التطوير خلال القرنين السادس والسابع عشر باوربا، والتي يتم اعتبارها خطأ – كـ فترة ثورية أو انفصال عن الماضي، وذلك بفضل عبقرية الحسن بن الهيثم.

المصدر:

S.M. Razaullah Ansari, “Ibn al-Haytham’s scientific method”, UNESCO, 4th of February, 2016.