من أكثر اللحظات متعة في أيام الطفولة لكثيرين منا، هي اللحظة التي يدخل بطلنا الكارتوني المفضل معركته مع قوى الشر، نتحمس كثيراً في لحظتها رغم علمنا بالنهاية.

تنتهي معارك ابطال الطفولة غالباً بانتصار البطل وخروجه سالماً رغم بعض المصاعب احياناً، معركة الطب ضد السرطان لا تختلف كثيراً عن معارك الابطال المفضلين، فالسرطان هو كأبطالنا المفضلين، يواجه العلاجات ويخرج منتصراً وحتى نتجنب هذا الانتصار الدرامي يلجأ الاطباء الى استخدام ادوية مختلفة بآليات خلوية مختلفة لقتل الخلية السرطانية لنضمن سلامة المريض.

سبب انتصارات الابطال الخارقين معروف، لأن الكاتب لا يريد ان ينهي القصة منذ المعركة الأولى ، وإن تمت هزيمة البطل فلن يُعد بطلاً ، ولكن هل كتبت أنامل الخلايا قصة بطلها الخارق المقاوم للأدوية ؟ وما هي الحاجة لأدوية مختلفة الأنواع ؟ الا يكفي العلاج بالمواد الطبيعية المنتشرة كثيرا؟ ام أنها مؤامرة شركات الأدوية ذات الخفايا السيئة لاستنزاف اموالنا ؟ هذا ما سنحاول معرفته في هذا المقال.

بعيداً عن استخدام النظريات العلمية بمواجهة المعتقدات المختلفة، والحرب بين الطرفين التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع الانحياز والتعصب وتبتعد عن الواقع العلمي، فإن دراسة العلوم الحيوية لا تتم إلا تحت ضوء نظرية التطور، وكثير من فهمنا اليوم للظواهر الجزيئية هو تحت ضوء هذه النظرية ، والسرطان هو مثال حي على التطور.

من أكثر ما يميز السرطان هو التغاير الموجود بين الخلايا المختلفة (Tumour heterogeneity) بمعنى أن الأورام السرطانية متكونة من خلايا سرطانية مختلفة الشكل و الوظيفة، و عدم التجانس هذا هو المشكلة الأساس التي تمكن بعض الخلايا السرطانية من الانتصار على العلاج.

هذا التغاير في الشكل والوظيفة يهيء الدرع الأول لخلايا السرطان في مواجهة العلاجات، فلو شبهنا مجموعة من الخلايا بأطفال لهم القدرة على حمل الاثقال ، والمجاميع الاخرى غير قادرة على حمل الاثقال، ونضعهم في مسابقة واحدة ، فإن الأطفال ضعيفي البنية سيخرجون من السباق بشكل مبكر، ولكن من لهم القدرة على حمل الأثقال سيستمرون بالسباق إلى النهاية، والآن لو طلبنا من هؤلاء الأطفال تشكيل فريقين فإننا سنجد أن كُلَ فريقٍ سيرغب بوجود من له القدرة على حمل الأثقال حتى يكون في المنافسة.

هذا بالضبط الحال للتفسير العام حول كيفية مقاومة بعض الخلايا للعلاجات ، فالخلايا التي تستجيب للعلاج ستموت وتخرج من المعركة ولكن بسبب الاختلاف بالتركيب فسنجد هناك مجموعة من الخلايا التي يمكنها الهرب من العلاج وبالتالي تبدأ بالانقسام لتكون مجموعة جديدة من الخلايا المقاومة للعلاج.

الخلايا السرطانية تستخدم طرق مراوغة متنوعة في عملية مقاومة العلاج على المستوى الخلوي والجزيئي، وهذا ما يجعلها من أكثر المشاكل في علاج السرطان، فاليوم لدينا الكثير من المركبات الكيميائية التي لها القدرة على قتل الخلايا السرطانية، ولكنها تفتقر إلى القدرة على إيقاف عملية مقاومة العلاج.

الكثير من الأدوية المستخدمة اليوم، تقوم آلية عملها على إيقاف عمليات معينة داخل الخلية، وحتى تستطيع تنفيذ واجباتها فإنها ستحتاج إلى دخول الخلية، تستخدم بعض الخلايا السرطانية كسرطان الثدي آلية الطرد من أجل مقاومة العلاج، حيث وجدت دراسات بأن هناك بروتين اسمه MDR1 تقوم الخلايا السرطانية بزيادة انتاجه عند التعرض إلى العلاجات، يعمل هذا البروتين على جذب المواد الكيميائية العلاجية وطردها إلى خارج الخلية، يمكننا تشبيه هذا البروتين بالشرطي الذي يقوم باستدراج المجرم إلى منطقته لأجل القبض عليه، تعتبر هذه الآلية من اكثر آليات المقاومة  شيوعاً من الآليات المكتشفة إلى يومنا هذا، وهناك الكثير من الدراسات الواعدة في إيقاف شرطي الخلية السرطانية عن العمل.

من الاليات الشائعة الأخرى هي آلية إصلاح الضرر، حيث تعمل بعض العلاجات الكيميائية على إحداث طفرات قاتلة في الحامض النووي الخاص بالخلايا السرطانية، وكما يحدث في منازلنا عند العجز عن إصلاح الخلل الكهربائي فإننا نقوم بطلب من له القدرة على الإصلاح ، كذلك تفعل الخلايا السرطانية ، فعند حدوث الضرر فإنها تقوم باستقدام بروتينات قادرة على تفعيل آليات إصلاح الحمض النووي واستبدال القطع التالفة.

تتجه بعض الخلايا إلى وضع سواتر المقاومة في الخطوط الأولى من خلال تعطيل المستقبلات التي تعمل عليها الأدوية ، ومن الأمثلة الشائعة هو ما نجده في سرطان الثدي من خلال ظهور خلايا سرطانية فاقدة لمستقبلات الاوستروجين عند علاجها بأدوية مضادة للاوستروجين ، فيما تتجه بعض أنواع السرطان إلى زيادة إنتاج البروتينات التي تعمل على تفكيك العلاج الى جزيئات اصغر غير فاعلة.

ربما يكون المقال مملاً اكثر لو وضعنا الآليات بالتفصيل ، ولكن الغرض من المقال هو تبيان بعض من التعقيد المصاحب لعملية تطور الخلايا السرطانية كاستجابة للعلاجات المختلفة، وكيف أن التغاير الموجود في النسيج الواحد يعمل على تعقيد التشخيص اولاً والعلاج ثانياً، فرغم التطور العلمي والجهود البحثية غير المتناهية فإننا لا نزال في بداية الطريق لفهم هذا التعقيد، ولا زال التعقيد يلف بعض أنواع السرطان مثل سرطان الرئة الذي قد نحتاج إلى سنوات أخرى من البحوث قبل الوصول الى فهم آلياته.

وهنا نضع الحكم للقارئ الكريم ، هل يمكن لهذا التعقيد فهمه وعلاجه بآليات بسيطة فاقدة للمنهج العلمي أو من خلال بعض مروجي العلم الزائف و الخرافة ؟ أم أننا بحاجة إلى تحكيم العلم والعقل ودعم البحث العلمي المستند إلى المنهجية العلمية في عالمنا ؟

للمزيد من التفاصيل :

Holohan, C., et al. (2013). “Cancer drug resistance: an evolving paradigm.” Nat Rev Cancer 13(10): 714-726.

المصادر

  1. Marusyk, A. and K. Polyak (2010). “Tumor heterogeneity: causes and consequences.” Biochim Biophys Acta 1805(1): 105.
  2. Mickley, L. A., et al. (1997). “Gene rearrangement: a novel mechanism for MDR-1 gene activation.” The Journal of Clinical Investigation 99(8): 1947-1957.
  3. Liu, X., et al. (2013). “Small molecule induced reactivation of mutant p53 in cancer cells.” Nucleic Acids Research 41(12): 6034-6044.