إسمع جميع وصيتي واعمل بها فالطب مجموع بنص كلامي

أقلل جماعك ما استطعت فإنه ماء الحياة تصب في الارحام

واجعل غذاءك كل يوم مرة واحذر طعاما قبل هضم طعام

لا تحقر المرض اليسير فإنه كالنار تصبح وهي ذا ضرام

هذه الابيات المنسوبة الى ابن سينا ، وفي بعض الكتب تنسب الى ابي مؤيد الجزري وكلاهما من علماء عصر الازدهار العلمي في البلدان الاسلامية ، يوجد ما يشابهها في موروثنا الثقافي وفي بطون الكتب العربية القديمة ، من اقوال لحكماء واطباء وقادة في تلك العصور ، وبمجرد مراجعة بسيطة للكتب العربية القديمة نجد فيها نصائح لاطالة العمر وتجنب الامراض المصاحبة للشيخوخة ، وربما لأن بعض هذه النصوص تركز على الجانب الروحي للشيخوخة وتغطي نصائح اطالة العمر بغطاء ديني لم يلتفت لها في الاوساط الاكاديمية الا في بعض الكتب ، من باب تاريخي.

ورغم كثرة النصوص العربية ، الا انه لم يصلنا الى اليوم كتاب منذ ذلك العصر عن الشيخوخة واطالة العمر ، حيث ظلت هذه الحكم والموروثات مبعثرة في بطون الكتب المختلفة ، وهذا ما جعل المختصين في تاريخ علم ابحاث الشيخوخة يصنفون كتاباً ايطالياً كاحد اقدم المؤلفات المختصة بعلاج الشيخوخة.

الكاتب الذي كتب الكتاب لم يكن طبيباً ولا مختصاً ولكنه كان مهتماً بالفن وفنون العمارة  وعمل محاسبا لفترة، ولد بعد ابن سينا بما يقارب ثلاثمائة عام ، ولما يملكه من مال وجاه فقد كان مكثرا بالطعام ، والعلاقات مع النساء والشرب ، حتى ساءت صحته في عمر 40 عام ، وحينها نصحه الاطباء باتباع حمية غذائية يقلل فيها من الطعام.

وعندما وصل عمره 83 عاماً قام بكتابة كتابه Discorsi della vita sobria  ، او ترجمته خطابات من الحياة الرصينة ، ونال الكتاب شهرة واسعة وترجم الى عدة لغات ، لانه في ذلك الوقت كان يعد بمثابة الكتاب التوجيهي الاول حول كيفية العيش لعمر طويل بصحة وافرة ، وفي ذلك الوقت كان العيش ما فوق الستين هو اعجوبة كبيرة، بسبب ضعف النظام الصحي وتفشي الوباءات.

مؤلف الكتاب هو الايطالي الفيس كورنارو 1464- 1566 ، اوضح في كتابه الحمية الغذائية التي اتبعها بعد سن الاربعين وكيف ساهمت في ان يعيش حياة طويلة بلا امراض ، كان الكتاب محلاً للجدال في ذلك الوقت وظل الجدال محتدما لقرون ، حول صحة ادعاءات كورنارو ، فمن بين اهم المنتقدين هو فريدرك نيتشه ، حيث كان يقول ان السبب في ان كورنارو عاش حياة بلا امراض هو قابلية جسمه ، وليس حميته الغذائية.

جیكوب كورنارو

كورنارو

في الولايات المتحدة الامريكية كان هناك استاذا في جامعة كورنل ، مختصاً في الكيمياء الحيوية ، ولكنه كان معجباً جداً بكتابات كورنارو ، حتى قرر ان يطبق اولى تجارب اطالة العمر في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي.

هذا الاستاذ هو كليف ماكاي ، حيث قام في منتصف الثلاثينات بدارسة كيفية تأثير تقليل السعرات الحرارية على العمر واعراض الشيخوخة على الفئران ، حيث قام بتقسيم 106 فأر مختبري الى مجاميع مختلفة ، المجموعة الاولى كانت تحصل على طعامها بشكل طبيعي ، فيما حصلت المجموعتان الاخرى على طعام اقل ، وكانت النتيجة مفاجئة لماكاي ، حيث عاشت الفئران التي تناولت طعام اقل 500 يوم اكثر من الفئران التي تناولت الطعام بصورة طبيعية.

هذه ال500 يوم ، لو قورنت بعمر الانسان فإنها ستعادل 50 سنة تقريباً ، وبهذه التجربة انهى ماكاي الجدال حولة صحة علاقة الحمية الغذائية بالعمر ، وفتح باباً من البحوث العلمية لمحاولة فهم الاليات وكيفية اطالة العمر.

تمت اعادة تجربة ماكاي في العديد من الحيوانات المختبرية ، وكذلك على مستوى كائنات بسيطة كالخميرة ، فكانت النتائج دائماً نفسها ، اتباع نظام غذائي يحتوي على العناصر الضرورية ، ولكن بسعرات اقل كان يؤدي الى اطالة العمر ، مما جعل الكثير من العلماء يذهبون الى اهمية اتباع النظام الغذائي المتوازن لتجنب اعراض الشيخوخة المبكرة وكذلك للحصول على عمر اطول بمشاكل اقل.

الدراسات على الحيوانات المختبرية ، اعطتنا بعضاً من التفسيرات عن تأثير الحمية الغذائية على المستوى الجزيئي والمستوى الخلوي ، هذه التفسيرات من الممكن الاستفادة منها في المستقبل القريب للوصول الى ادوية تعمل على ابطاء عملية الشيخوخة ربما ؟

الكلوكوز هو المصدر الرئيسي لبناء الطاقة في اجسامنا ،  وعندما يكون الغذاء متوفر فأن الجسم يفرز هرمون الانسولين الذي يعمل كشرطي يجبر العضلات والخلايا على امتصاص الكلوكوز من الدم واستعماله ، وخزنه بصورة كيميائية مستقرة تسمى الكلايكوجين. لكي تستطيع الخلايا الانقسام واعضائنا بالنمو فاننا نحتاج الى الطاقة ولان الكلوكوز المصدر الرئيسي للطاقة ، والانسولين هو الشرطي المتحكم بهذا المصدر ، فلا عجب ان كان للانسولين دور مهم وضروري في عملية النمو والانقسام .

على جانب اخر ، فأن هرمون النمو GH هو الهرمون الرئيسي المسؤول عن عملية النمو في اجسامنا ، وهرمون النمو هذا يعمل على ادارة مركبات كيميائية تسمى عناصر النمو Growth factors ، ولتشابه هذه العناصر من الناحية التركيبية مع الانسولين فإنها تسمى ايضا عناصر النمو المشابهة للانسولين.

ولكن علاقة عناصر النمو بالانسولين لا تتوقف عند التشابه ، ولكن معقدة اكثر حيث يتصل الانسولين بهذه العناصر بشبكة خلوية يطلق عليها اختصارا IIS  ( Insulin – IGF-1 signal pathway ( ( شبكة الانسولين وعناصر النمو الشبيهة بالانسولين ) ، وجدت الدراسات ان هذه الشبكة تلعب دورا فعالاً في ادارة عمليات الحركة الخلوية ، النمو ، ادارة الطاقة ، وادارة الانقسام الخلوي ، ادارة الايض الغذائي ، وكذلك ادارة عمليات التمايز الخلوي ( اي نوع من الخلايا ستتحول اليه الخلايا الجذعية).

عندما نأكل القليل من الطعام ، تقل كمية الكلوكوز المتوفرة ، وبالتالي لا تكون هذه الشبكة فعالة ، وحينما تكون الشبكة غير فعالة ، فأن الجسم يفرز بروتين اسمه FOXO  يقوم هذا البروتين بارسال الاشارات الى الخلايا بإيقاف عملية الانقسام ، كرسالة تهديد بأن الطاقة غير متوفرة ، بشكل يمكن تشبيهه بوضع توفير الطاقة في اجهزتنا الالكترونية ، وحينها يبدأ الجسم بتحطيم الدهون المخزونة.

لتحطيم الدهون يحتاج الجسم الى كميات كبيرة من الاوكسجين ، ولأن جزيئات الاوكسجين الحرة لها ضرر على الحامض النووي ، تقوم خلايانا بإفراز بروتينات تحميها من العناصر المؤكسدة، وخلال هذه العملية تزيد انقسامات المايتوكوندريا لحماية الجسم وانتاج مزيد من الطاقة.

في الجانب الاخر عند وجود الطعام ، تبدأ شبكة الانسولين بتفعيل عناصرها ، وكلما زاد الطعام ، زادت عملية تفعيل هذه الشبكة لخزن الطاقة ، وبالتالي تزيد الفعاليات الخلوية ،  وتزيد الانقسامات وتبدأ الخلايا بخزن المزيد من الطاقة ، في الجزأين الماضيين من هذه السلسلة تعلمنا أن الخلية لها حد معين من الانقسامات وبعدها تدخل مرحلة الهرم ، ولأن شبكة الان تدير عملية الانقسام فأن الطعام الفائض عن الحاجة يؤدي الى انقسامات غير ضرورية بسبب التفعيل غير الضروري لهذه الشبكة.

هذه الدراسات على المستوى الخلوي كانت بمثابة الاجابة لنيتشه وغيره من المنتقدين لكورنارو ، بأن التقليل من الطعام والسعرات الحرارية يؤدي الى تخفيض فعاليات شبكة الانسولين.

ولكن كباقي الشبكات في الجسم مع التقدم في العمر او في حالات وراثية فإن انتاج الانسولين او تحسس الجسم للانسولين يكون قليل او معدوم ، وبالتالي يحدث خلل في ادارة عمليات هذه الشبكة ، مما يؤدي الى مضاعفات مختلفة.

بالاضافة الى هذه الشبكة التي تدير تفاعلاتنا الى الكاربوهيدرات ، فإن هناك شبكة تدير تفاعلاتنا مع البروتينات في الغذاء وهذه الشبكة تسمى mTOR  تتفرع منها شبكات اخرى ، وتكون متواصلة مع شبكة الانسولين ، وجدت الدراسات ان شبكة mTOR لها دور مهم في عملية تفعيل الجهاز المناعي ايضاً.

وجدت دراسات تمت على الفئران ، ان مركباً رخيص الثمن ، مستعمل وبكثرة منذ سنوات لعلاج حالات مختلفة اسمه رابامايسين ، يعمل حقيقة على اطالة عمر الفئران من خلال اغلاق شبكة الmTOR  ولكن اغلاق هذه الشبكة والاستمرار بتناول هذا الدواء يجعلنا عرضة لالتهابات بكتيرية وفايروسية مميتة ، حيث يعمل بنفس الوقت على تثبيط جهازنا المناعي.

هذا النظام المعقد من الشبكات الخلوية ، يجب ان يعمل وفق توازن ، وان اي خلل يؤدي الى تسريع عمل هذا النظام بإمكانه ان يؤدي الى شيخوخة مبكرة او سرطان وبالتالي الموت ، وفي المقابل ابطاء عمل هذه الشبكات يؤدي الى نمو متعثر.

ابحاث الشيخوخة وايجاد المركبات التي تعمل على زيادة فعالية او ابطاء بعض عناصر هذه الشبكات هو مجال بحثي قائم بذاته وتصرف سنويا ملايين الدولارات لمحاولة الفهم ، ولكن حتى اليوم لا يوجد مركب يعيد الشباب ، او اكسير يكافح الشيخوخة يمكننا تناوله ، والمركبات التي اثبتت انها تعمل على اطالة الحياة كالرابامايسين ، كان لها تأثيرات جانبية مميتة.

فيما يبدو من الابحاث المتوفرة الى اليوم ، اننا لا يمكننا ان نأكل الكعكة كلها ونعيش حياة طويلة ، علينا ان نترك قسماً منها ، والطريقة الوحيدة المثبتة علمياً الى اليوم بإنها تحسن من فرصتنا بتجنب امراض الشيخوخة الكثيرة ، هي التوزان بالغذاء .. و كان ابن سينا محقاً ..

المصادر

McCay CM, Crowell MF, Maynard LA. The effect of retarded growth upon the length of life span and upon the ultimate body size. J Nutr. 1935;10:63–79

Partridge L. Some highlights of research on aging with invertebrates, 2009. Aging Cell. 2009;8:509–13

Kenyon C. The plasticity of aging: insights from long-lived mutants. Cell. 2005;120:449–60

Efeyan A, Comb WC, Sabatini DM. Nutrient Sensing Mechanisms and Pathways. Nature. 2015;517(7534):302-310. doi:10.1038/nature14190.