الطب الدارويني  … عندما تدخل نظرية التطور الى المجال الطبي

 

بقلم: حيان الخياط

الطب التطوري فتح جديد في المجال الطبي

الطب الدارويني ونظرية التطور 

نظرية التطور تحظى بقبول شبه تام في المجتمع العلمي، ولكن الكثير من الناس ينكرون صحتها بسبب خلفياتهم الدينية او لقلة معرفتهم بها.

في هذا المقال سنحاول ان نبين احد التطبيقات العملية لهذه النظرية، وهو “الطب الدارويني”، هذا المجال الجديد والناشئ وذلك لتوضيح المدى الذي وصلت اليه هذه النظرية من الموثوقية.

يدرس  “الطب الدارويني” التكيفات او آليات الدفاع الطبيعية التي طورها البشر بواسطة الانتقاء الطبيعي لمواجهة الامراض، وبسبب تعرض الانسان للعديد من الامراض خلال فترة حياته العادية، اضافة الى عدم معرفته بالطرق العلاجية النافعة في سالف الازمان، كان لزاماً على التكيف ان يجد حلولاً ناجعة ازاء هذه المشكلات التي تقلل من فرص البقاء.

تعتبر الامراض الناجمة عن تغيرات في البيئة والتي يعجز الجسم عن التأقلم معها بالسرعة اللازمة، اوسع مجال لعمل “الطب الدارويني”، فأجسادنا، طرق تفكيرنا، مخاوفنا … الخ كلها متكيفة للعمل مع البيئة القديمة في “غابات السافانا” التي تطورنا فيها، ويمثل المجتمع المعاصر بيئة مغايرة لما تكيفنا من أجله. وكمثال على ذلك، اننا نخاف من الافاعي والعناكب اذا ما واجهناها حالياً، مع ان السيارات والقوابس الكهربائية هي الاجدر بأن نتجنبها لكثرة عدد الوفيات التي تحصل بسببها. ذلك ان الافاعي والعناكب كانت مصدر خطر دائم طوال تاريخنا التطوري فان عقولنا مبرمجة على الخوف منها، وقد يحصل الشيء نفسه بالنسبة للمخاطر المعاصرة ولكن بعد زمن طويل.

خطوات على طريق العلم الجديد

الطب التطوري في انتشار واسع في المجتمع العلمي

ظهر “الطب الدارويني” وبزغ نجمه منذ ثلاثة عقود تقريباً، وقد حقق نجاحاً ملفتاً للنظر وتم الاهتمام بالأبحاث التي تعتمد عليه، حتى انشيء “مركز الطب الدارويني” التابع لجامعة زيورخ، كما تم التركيز في “قمة الصحة العالمية” التي عقدت  عام 2009 على الطب التطوري او الطب الدارويني، وكان من اهدافها مساعدة الاطباء والباحثين الطبيين على معرفة تطور الانسان.

كان البروفيسور في جامعة ميشيغان راندولف نيسي  ـ المتخصص في الطب الدارويني ـ احد المشاركين في هذه القمة، وقد صرح قائلاً: “المساهمة الاولى (لهذا النوع من الطب) هي مساعدة الاطباء والباحثين على ادراك ان الجسم ليس آلة صممها مهندسون، بل انه جهاز تبلور بحسب الاصطفاء الطبيعي، وبعض اجزائه تشوبها علل”

هذا الفهم الجديد للإنسان سيوفر الارضية المناسبة لعلاجه بطرق افضل وأكثر انسجاماً مع طبيعته البايولوجية.

 

 

الامراض ونظرية التطور

نظرية التطور وعلاج الامراض

هنالك العديد من الامراض التي لا يمكن فهمها بدون مراجعة نظرية التطور، فأساس تكونها والتكيف معها موجود في التاريخ الطبيعي للإنسان، ومن هذه الامراض:

1 ـ الحمى: جميع الناس في الغالب يصابون بالحمى او ارتفاع درجة الحرارة في اجسامهم عدة مرات طوال حياتهم، وأول التدابير المتخذة هي اخذ علاج خافض للحرارة مثل الاسبرين، وهنا تبدأ المشكلة. وعلى الرغم من وصف الاطباء لخافض الحرارة كعلاج إلا ان هنالك جزءا مفقودا يجب الالتفات اليه.

ان كريات الدم البيضاء والمواد المضادة لا تنشط في درجات الحرارة الاعتيادية وذلك لأنها خلايا بالعة للميكروبات، اي انها ستبتلع خلايا الجسم ان كانت نشطة على الدوام، ولكنها تنشط عند درجة حرارة (38.5) مئوية. ولهذا عند دخول اي ميكروب او جرثومة الى داخل الجسم فان درجة حرارة الجسم سترتفع لتوفر البيئة المناسبة لعمل الجهاز المناعي.(الانسان ومعجزة الحياة ص 96 و ص 97.)

وهذا ما يدعو بعض السحالي المريضة من ذوات الدم البارد الى الالتصاق بصخرة حامية كي تتدفأ مما يرفع درجة حرارة أجسامها، وهذا يؤدي بدوره الى محاربة المرض، ومن المرجح ان تموت السحالي التي لا تعثر على مكان دافئ تحتك به.

مثال اخر من عالم البشر، “قام باحث بحقن بعض المفحوصين عمداً بفايروس البرد (الرشح) وأعطى نصفهم عقاراً مخفضاً للحرارة، والنصف الآخر حبة لا تحتوي على مواد فعالة. عانى أولئك الذين تناولوا عقاراً مخفضاً للحرارة المزيد من الاحتقان الأنفي، واستجابة مضادة للبكتيريا أكثر سوءاً، واستمراراً أطول قليلاً للبرد.(علم النفس التطوري ص 221.)

 2 ـ علاقة السمنة بالتطور:

من يعيش في بيئة يسهل فيها الحصول على الطعام من المحلات التجارية قد لا يعلم ما عاناه اسلافنا في الزمن القديم. حيث يشكل العيش في بيئة قليلة الموارد تحدياً كبيراً، ولتلافي مثل هذه المشكلة يجب ان يحصل الانسان على اكبر كمية من السعرات الحرارية من خلال السكريات والدهنيات، ولان هذه العناصر كانت نادرة فقد تكيفنا لنتذوقها بطعم لذيذ، اما الان فالتكيف يعود علينا بنتائج سيئة، فأطعمة مثل الحلويات والبيتزا والهمبركَر متوفرة بغزارة وهذا ما ادى الى انتشار السمنة. وفي هذا الصدد تقول كريستينا فارينار المتخصصة في علم الوراثة: “من الممكن أن السمنة قد ارتبطت في الماضي، لمّا كانت هناك ندرة في المواد الغذائية، باختيار نوع من الجينات التي تسهّل إلى أقصى حد تخزين الطاقة. ولكن نظرا لكوننا نمتلك حاليا ما يكفي من المواد الغذائية الغنية بالطاقة، فقد أصبحت المشكلة لدينا معكوسة”.

 يضاف الى كل هذا تحليل وليام لينارد من جامعة نورذسترن الاميركية لظاهرة السمنة، حيث انه يرى في سهولة الحصول على الطعام اليوم مقارنة بالطاقة المستهلكة للحصول عليه في العصر الحجري سبباً اخر لوجود السمنة.

3 ـ فقر الحديد في الدم: عند المرض يزداد عدد البكتيريا القادرة على دخول جسم الانسان، وبما ان الحديد هو غذاء البكتيريا المفضل، فقد طور البشر وسيلة جيدة لتجويع البكتيريا. عندما يصاب شخص بالتهاب ميكروبي فان الجسم ينتج مادة كيميائية تقلل من نسبة الحديد في الدم. وفي الوقت نفسه يخفف الناس تلقائياً من الاطعمة الغنية بالحديد، مثل اللحم والبيض. كما يخفض الجسم من امتصاص اي حديد تم استهلاكه. كل هذه الوسائل والإجراءات تساهم في سرعة العلاج .

يلحق بهذه الامراض، وباء الربو العالمي الذي يعتقد بأنه ظهر نتيجة جهود الطب الفعالة في التخلص من الديدان الطفيلية كما يرى البروفيسور راندولف نيسي.

كل هذه الجهود والانجازات تمثل نصراً حاسماً لنظرية التطور، وعلى من ينكرها عدم الاستفادة من نتائجها في المجال الطبي.

المصادر:

1 ـ كتاب علم النفس التطوري ـ ديفيد باس.

2 ـ الانسان ومعجزة الحياة ـ د.خلوق نور باقي.

3 ـ خبر في موقع اذاعة سوا تحت عنوان (مناقشة الطب الدارويني في قمة الصحة العالمية) http://www.radiosawa.com/content/article/73936.html

4 ـ مقال في صحيفة شمس الحرية تحت عنوان (الطب يطبق اكتشافات داروين لفهم سبب انتشار الربو التحسسي في العالم)

http://www.shams-alhorreya.com/wesima_articles/index-20091018-68358.html

5 ـ مقال في جريدة الصباح تحت عنوان (أســـرار المومياوات المصرية والطب التطوري)

 http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=21110