كان يُعتقد منذ وقت طويل أن الدماغ عضو مميّز في الجسم لا صلة له بالجهاز المناعي، لذلك يتم الحديث مرارا عن حاجز الدم في الدماغ وخاصية “المناعة” التي يتميز بها كما لو كان موجودا في بعد آخر، بعيد تماما عن متناولنا. قيل لنا أن الخلايا العصبية قَيّمة لا مجال لخسارتها لصالح الفيروسات والبكتيريا. لذلك فمن المفترض أن يكون الدماغ داخل فقاعة واقية من نوع ما، معزول بشكل كلي عن العدوى والنشاط المناعي للجسم. لكن، وكما يحدث كثيرا في ميدان البحث العلمي، ثَبت أن واقع الأمور أكثر تعقيدا من ذلك، فمع مرور الوقت ومع زيادة عدد الأبحاث في هذا المجال، تم اكتشاف علاقات جديدة بين الجهاز العصبي وجهاز المناعة.

 

من المعروف أن واحدة من أكثر الدفاعات المناعية الأساسية للجسم -حمّى- تُؤثّر على كلّ من المزاج والسلوك، عنصرين لهما ارتباط وثيق بعمل الدماغ. عندما نكون تحت تأثير الحمى، يكون شعورنا مختلفا كليّا عن شعورنا في الحالة العادية. نفقد الشهيّة، والطاقة، وحتى الحماس، لأشياء كنا نستمتع بالقيام بها عادة. هذا ليس حادثا عرضيا وليس فقط نتيجة لارتفاع درجة حرارة الجسم، إذ يُمكن مثلا لممارسة التمارين الرياضية في يوم حارّ أن ترفع درجة حرارة الجسم أكثر مما تقوم به الحمى، مع ذلك فهي لا تسبّب الخمول والفتور المصاحبين للإصابة بالحمّى.

 

نحن، غالبا، لا نفكر في هذا الأمر بهذه الطريقة، لكن المشاعر المرتبطة بالحمى هي محض أعراض نفسية لا غير. تُغيّر الحمى مزاجنا ومشاعرنا الداخلية، لكنها تغير سلوكنا أيضا، وكنتيجة مباشرة لها نكون أقل قابليّة لمغادرة المنزل والقيام بأي عمل مهما كان صغيرا، أو حتى مقابلة شخص عزيز علينا. كل ما نودّه عندها هو أن تستلقي على السرير ونرتاح لكي تتحسّن حالتنا. القيمة التطورية لهذا الأمر واضحة، فعن طريق دفعنا نحو الراحة نُحافظ على طاقة مهمّة تُستثمر في الحين من طرف الجهاز المناعي للدفاع عن الجسم. يمكن القول إذن أن الأعراض النفسية للحمى هي ربّما وراء إنقاذ حياة العديد من البشر، والحيوانات كذلك.

 

قد يكون هناك أيضا جانب اجتماعي للحمى، فبإدخالنا في حالة من التعب والخمول، تعمل الحمى على الحد من تفاعلنا مع الآخرين. هذا، في الواقع، إجراء وقائيّ ذكي، لأنه إذا كانت الإصابة معدية، سيساعد هذا الإجراء البسيط على الحد من نطاق انتشارها وجعلها محصورة داخل أجسامنا فقط، عوض نقلها للآخرين. في معظم الحالات، يكون أقاربنا البيولوجيون من بين الأشخاص الذين نتفاعل معهم بكثرة، ما يرفع من إمكانية نقل العدوى إليهم في حالة تفاعلنا معهم وقت إصابتنا بالحمى.

 

حصَلت الفكرة التي تقول أن النشاط المناعي يمكن أن يغيّر السلوك الاجتماعي على دَفعة مهمة، حيث اكتشف باحثون من جامعة فرجينيا كيف يمكن لجزيء حيويّ يدخل في تركيب الجهاز المناعي -إنترفيرون غاما- أن يؤثّر بشكل مباشر وعميق على السلوك الاجتماعي للفئران.

تُعتبر الانترفيرون جاما (IFN-γ) واحدة من أشهر جزيئات الجهاز المناعي، وهي عبارة عن بروتين مضاد للفيروسات يمكن له أن يؤثّر على عدد كبير من خلايا الجسم. تلعب هذه الجزيئات دور منارة تحذير تُعلم الخلايا عند اقتراب حدوث عدوى، بالإضافة إلى عملها كمنظّم رئيسي للاستجابة المناعية، حيث يتم تحريرها من قبل أنواع مختلفة من خلايا الدم البيضاء كلما تم اكتشاف حدوث عدوى. عندما تمسّ الخلايا الأخرى، تُجبر الانترفيرون جاما هذه الأخيرة على رفع دفاعاتها والاشتراك في نشاطات دفاعية تهدف إلى إيقاف وتدمير الجسيمات الدخيلة.

 

وجد الباحثون أن التشويش على شبكة إشارات الانترفيرون جاما يجعل الفئران أقل اجتماعية، والأهم من ذلك أن محدودية السلوك الاجتماعي تلك أثرٌ مباشر لعملية التشويش، وليس نتيجة لخلل حركي أو زيادة القلق، ما دفعهم للقول أن جزيئات (IFN-γ) تؤثّر بشكل حصري على الرغبة في قضاء الوقت مع الآخرين. قام الباحثون بعدها باستنتاج أن تلك الجزيئات تنتمي لشبكة إشاراتٍ في الدماغ تَربط، تحديدا، بين النشاط المناعي والسلوك الاجتماعي، هادمين بذلك أسس الفكرة القائلة بوجود حاجز بين الدماغ والجهاز المناعي.

 

لهذا الاكتشاف آثار بعيدة المدى، إذ من المثير للاهتمام أن الانترفيرون جاما يُمكن أن تعمل على الحدّ من السلوك الاجتماعي للثدييات عند مكافحة العدوى. هذا سيوسّع من مجال البحث وسيؤدّي إلى نتائج أبعد من ربطها بالحمى فقط، لأن واحدة من السمات المميّزة لعمل جهاز المناعة هو تداخل عدد من الآليات لتحقيق أهداف مشتركة. تلك نتيجة مباشرة لتطوّر جهاز المناعة الذي لدينا والذي ظلّ، على مدى ملايين السنين، يواجه فيروسات وبكتيريا مرّت بعملية تطور مماثلة. في الواقع، إذا ما صحّ هذا الاستنتاج، فأظن أن الباحثين في مجال الفيروسات  (virologists) سوف يكتشفون قريبا الطرق التي تتّبعها الفيروسات بغرض تعطيل عمل الانترفيرون جاما من أجل تعزيز التفاعل الاجتماعي لمضيفهم لكي يسْهل عليها نقل العدوى.

 

ستشمل تأثيرات هذا الاكتشاف أيضا ميادين دراسة أنواع الشخصية الاجتماعية، وتنوع التركيب العصبي للأفراد (neurodiversity). قادت دراسات حديثة على مرض التوحّد إلى تغيير التفكير التقليدي عن أسباب ظهور هذا الأخير،مُعوّضين الفكرة التي تربط ظهوره بحدوث “اضطراب” من نوع ما بتفسير يقوم على فكرة “تنوّع التركيب العصبي”  للأفراد واختلافه من شخص لآخر. صار الكثير من الباحثين يرون أن التوحّد هو، في الواقع، مجرّد نوع واحد من سلسلة متّصلة من أنواع الشخصية تضمّ ،كذلك، شخصيات ذات تركيب عصبي سليم (neurotypical).

 

يلعب التطور، عن طريق الطفرات العشوائية، دور آلة تخْلق التنوّع باستمرار. يبدو ممكنا، من المرجح حتى، أن الشخصية وكفاءة الجهاز العصبي يمثّلان جزءا من هذا التنوّع، إذ أن عبقرية البيولوجيا البشرية تتمثل في كون التطور لا يُنتج نمطا واحدا لا غير. عظَمة الكائن البشري تتجلى في قدرته على التكيّف، فباتباع توجيهات الدماغ يُمكن للإنسان أن يتأقلم مع الظروف المحيطة به، كيفما كانت هذه الظروف. لذلك يُعتبر التنوّع ضروريا لضمان استمرار الجنس البشري.

 

إلى جانب دورها التحريضي المقاوم  خلال حدوث العدوى، فيبدو أن الانترفيرون جاما تعمل بشكل مختلف داخل جسم كل واحد منا. كانت هناك تكهنات بأن اختلاف مستويات نشاط هذه الجزيئات قد يفسّر سبب تعرّض بعض الأشخاص لإستجابات حساسيّة ومناعيّة مفرطة، كما أن هذا الاختلاف الملاحظ في نشاطها قد يُساعد على التنبؤ بمن سينجو من حادثة تعفن الدم -حالة مرضية تتميز بحدوث التهاب يعمّ الجسم بأكمله نتيجة عدوى جرثومية في الدم- ومن لن يفعل. يمكن أيضا أن تكون التغيرات على مستوى إفراز الانترفيرون جاما مرتبطة مع حالة السقم والوهن العام التي يعاني منها البعض، لكن الأساس الجينيّ لهذه الحالة لم يتم اكتشافه بعد.

 

مع ذلك، فمعرفة أن الانترفيرون جاما لديها أيضا تأثير مباشر على السلوك الاجتماعي يُشير، ضمنيا، إلى إمكانية أن يكون لها دور في تحديد معالم شخصية الفرد وكذا درجة تنوّع التركيب العصبي التي تميّز دماغه. إذا كان تنوّع مستويات الانترفيرون جاما يرتبط مع تنوّع السلوك الاجتماعي، إذن فمن الممكن القول أنه قد تم اكتشاف آلية عمل رئيسيّة جديدة في الدماغ. إلا أن هذا التفسير يبدو لي مُتقنا أكثر من اللازم إذا أخذنا بعين الاعتبار القصة التي بدأنا بها هذا المقال والدرس المستفاد منها: من النادر أن تكون الحياة بنفس بساطة أفكارنا.

 

رغم ذلك، فنشوء تصوّر بيولوجي مُشترك يربط بين الجهاز المناعي والسلوك الاجتماعي يعكس مدى العبقرية الخلاّقة المميّزة لسيرورة التطوّر. لذلك، في المرة القادمة التي تكون فيها طريح الفراش، تذكّر حجم المساعدة التي تقدّمها جزيئات الانترفيرون لأحباّئك من خلال العمل على تحريض دماغك على البقاء بعيدا عنهم.

المصدر

Nathan H. Lents, Ph.D., “New Study Reveals How Immune System Affects Social Behavior“, psychologytoday.com, Aug 08, 2016