في ربيع عام 2014، لاحظت جوردان يونغير (Jordan Younger) تساقط شعرها بشكل كثيف، طبعا لم تكن ردة فعلها باردة، في ذلك الوقت كانت تعتقد تلك الشابة البالغة من العمر 23 عاماً بأنها تتناول الأطعمة الأكثر صحية، وهي الوجبات الخالية من الغلوتين ومن السكر والزيت والقمح والبقوليات وتتناول النباتات الخام. النباتية الشقراء، الشابة المعروفة ببلوجر (الصحة) في مدينة نيويورك هي واحدة من الآلاف على الانستغرام (حيث كان لديها 70,000 متابع) الذين يجتمعون تحت هاشتاغ (#eatclean) أي “تناول الطعام النظيف”، وعلى الرغم من أن يونغير لا تملك أي مؤهلات كخبيرة تغذية إلا أنها باعت أكثر من 40,000 نسخة من برنامجها الغذائي المدعو (نظافة) في خمسة أيام مقابل 25$ للنسخة الواحدة، وهو عبارة عن وصفة مؤلفة من النباتات الخام المعتمدة على حمية ترتكز على العصير الأخضر.

جوردان يونغير

جوردان يونغير

لكن الحمية (النظيفة) التي قامت الشابة ببيعها كطريق إلى العافية قد جعلتها مريضة. بعيداً عن كونها في تمام الصحة إلا أنها كانت تعاني من اضطراب خطير في الطعام: أورثوريكسيا (orthorexia) هوس الأكل الصحي ووسواس تناول الأطعمة النقية والبالغة الكمال. سببت تلك الحمية المعتمدة على النباتات النيئة الخام التوقف لفترة عنها، وأعطت لجلدها لوناً برتقالياً بسبب البطاطا الحلوة والجزر الذي كانت تستهلكه (الكربوهيدرات الوحيدة التي سمحت لنفسها بتناولها). وفي نهاية المطاف، قصدت مساعدة أخصائي نفسي، وبدأت تدريجياً بتوسيع دائرة طعامها التي كانت تسمح لنفسها بتناوله وبدأت بالسمك. كانت مدركة أن المشكلة ليس في كونها نباتية فحسب بل بنظام الحمية الصارم والقاسي على نحو خاص والذي فرضته على نفسها. لكونها شابة تعافت تدريجياً من اضطراب الطعام الذي كانت تعاني منه، لكنها واجهت ورطة جديدة (ماذا سيعتقد الناس إذا علموا بأن النباتية الشقراء كانت تأكل السمك؟) فمهّدت لمتابعيها في مدونتها من خلال عنوان لماذا لا أنتقل بعيداً عن النباتية؟ خلال ساعات من إعلانها لحميتها الجديدة تلقت الشابة رسائل غاضبة من النباتيين يطالبونها باسترجاع نقودهم مقابل برنامجها الصحي السابق وثمن القمصان التي اشتروها من موقعها (التي تحمل شعارات بارزة مثل “oh kale yes”). فقدت آلاف المتابعين وتلقت مجموعة كبيرة من الرسائل الغاضبة بشكل يومي ومن بينها تهديد بالقتل. رد البعض على اعترافها بأنها كانت تعاني من اضطراب هوس الأكل الصحي باتهامها بأنها (قطعة شحم خنزير) لا تملك نظاماً وقواعداً لتكون بصدق (نظيفة).

طالما يتناول الناس الطعام فإن هناك الكثير من الحميات وعلاجات الشعوذة. لكن في السابق كانت توجد على سبيل المثال على شكل نظريات تآمر على حدود وهامش ثقافة الطعام.

لكن حملة (الطعام النظيف) مختلفة بسبب أنها تأسست كتحدي للطرق الشائعة للطعام وبسبب شعبيتها الواسعة خلال الخمس سنوات الماضية، كل هذا قد مكنها من اجتياز الحدود. استمدت قوتها من وسائل التواصل الاجتماعي وكانت أكثر طغياناً في مزاعمها وأكثر شعبية وانتشاراً من أي مدرسة سابقة مختصة بالنصائح الغذائية الحديثة.

ببساطة، الطعام النظيف (clean eating) يدور حول عدم تناول شيء سوى الطعام غير المعالج (أياً كان ما يحمله هذا المصطلح من غموض). بعض إصدارات الطعام النظيف نباتية، بينما النسخ الأخرى تتبنى أنواع من اللحوم (البريَة هي المفضلة) وشيئاً غامضاً آخر يدعى (bone broth) (حساء العظام). في البداية، بدا هذا النوع من النظام الغذائي وكأنه متواضع ويعتمد على صناعته في المنزل بدلاً من أنظمة حساب السعرات الحرارية، يمكنك تأكل ما شئت من المواد المصنوعة في المنزل.  لكن ما لبث أن أصبح وبشكل واضح أكثر من مجرد حمية، لقد أصبح منظومة اعتقاد ينشر فكرة مفادها أن الطريقة التي يأكل بها معظم الناس لا تؤدي الى زيادة الوزن فحسب بل هي ملوثة وبذيئة. وفيما يبدو ظهر فجأة عالم كامل من زيت جوز الهند ومن الوعود المشتبه بها ومن الكوسا البريطانية المقطعة بشكل حلزوني لكي تكون كالسباغيتي.

في أحداث سابقة بالكاد تذكر، وتحديداً عام 2009، قام جيمس دويغان (James Duigan) مالك نادي (Bodyism) في لندن والمدرب الشخصي في ل إيل ماك فيرسون (Elle Macphereson) [سيدة اعمال وموديل استرالية] بنشر أول كتاب له نظيف ونحيل (Clean And Lean). كونه الشخص الذي تبنى هاشتاغ الطعام النظيف #eat_clean كان دويغان يجادل ناشراً حول كتابه لاحتوائه على مكونات مثل اللفت والكينوا، التي لم يسمع أحد من قبل بوجودها، لكن الكينوا اليوم يتواجد في كل مكان في المحال التجارية وأصبح اللفت متوفراً مثل الخس. تقول الروائية سوزي بويت (Susie (Boyt ساخرة “أنا أتوق لتلك الأيام التي كان فيها الطعام النظيف يعني ألا نأكل كثيراً من كل ما يوضع أمامنا”.

تقريباً، ما إن أصبح الطعام النظيف شائعاً وموجوداً في كل مكان، حتى أثار ردات فعل عنيفة. عام 2015 عبَّرت نايجيلا لاوسون (Nigella Lawson) (متخصصة في شؤون التغذية) عن الأكل النظيف على أنه مقرف باعتباره حسب وجهة نظرها شكل من أشكال الحكم الفاشي على مظهر الجسد وتقول “الطعام ليس قذراً”. لقد هوجم الطعام النظيف من قبل العديد من النقاد مثل الخباز ومؤلف كتاب الطبخ روبي تاندو (Ruby Tandoh) (الذي قام بكتابة العديد من المقالات عن هذا الموضوع في مجلة vice في أيار 2016)، حيث قال إن الطعام النظيف هو مجرد تحريض للإصابة باضطراب الطعام.

يشير البعض الآخر أن منهج الأكل الصحي قد تأسس على علم زائف. في حزيران، أشارت جمعية القلب الأمريكية (American Heart Association) أن زيت جوز الهند المحبب كالبانا سيا (كعلاج مزعوم يعالج الأمراض ويطيل العمر) والذي يتبناه كل آكلي الطعام النظيف، ليس له تأثيرات إيجابية متوازنة معروفة، وأن استهلاكه قد ينتج عنه ارتفاع معدل البروتين الدهني LDL.

وبعد عدة أسابيع تالية، قام أنطوني وورنر (Anthony Warner) مستشار تغذية ذو خلفية علمية ويكتب في مدونة الكترونية تسمى رئيس الطهاة الغاضب، بنشر كتاب هاجم فيه الطعام النظيف مطوَّلاً، واصفاً إياه بأنه عالم من صحون الكينوا وهراء المغذيات التي تملأ عصر المعلومات الحديث.

قدَّم الأخصائي في علم الوراثة الدكتور جايلز يو (Giles yeo) في جامعة كامبريدج، حلقة في (BBC Horizon) هذه السنة والتي تبحث عن دليل علمي لكل مدارس الطعام النظيف المختلفة، ووجد أن كل شيء يندرج بين الوصفات غير المؤذية إلى التزوير والإهمال الخطير.

جايلز يو

جايلز يو

كما أنه أبلغ عن وصفة الدكتور روبيرت يونغ (Robert O Young) والتي تُدعى وصفة النظام الغذائي القلوي والتي تنشر فكرة أن المرض يأتي من تناول الأطعمة الحامضية. بعد أن تم تشخيص إصابة نعيمة محمد بالسرطان في العشرينات من عمرها، وهي تعمل في الجيش البريطاني، دفعت نعيمة ليونغ أكثر من 77000$ لمعالجتها (العلاج كان يتضمن وجبات الأفوكادو والتي كان يدعوها يونغ زبدة الإله). تلك الوصفة المسماة (pH miracle) والتي روجّها في أمريكا عام 2012. ماتت نعيمة بعد سنة وبعدها تم سجن يونغ في حزيران هذا العام بتهمة مزاولة الطب بدون رخصة. بينما قد يمثل هو حالة مبالغ فيها، يتبين لنا أن كل مرشدي الصحة -بحسب برنامج الدكتور جايلز يو- يرددون قصصاً إشكالية مبنية على أسس خاطئة.

عندما احتدت الصحف المناهضة للطعام النظيف، حاولوا الترويج لأنفسهم مجدداً معلنين أنهم لن يستخدموا مجدداً مصطلح (نظيف) في وصفاتهم التي كانت السبب في بيعهم الملايين من الكتب. المدوّنة الغذائية وسيدة الأعمال إيلا ميلز (Ella Mills) التي تملك موقع   (AKA Deliciously Ella) باعت كرات جوز الهند الخاصة بها والمؤلفة من جوز الهند والشوفان في المحال التجارية البريطانية وذلك بمقدار 1.79 جنيه استرليني لكل كرة وقد قالت في برنامج الدكتور يو بأنها شعرت أن كلمة (نظيف) لم تكن تعني شيئاً وإنما كانت تقصد طعام طبيعي فحسب وحقيقي وغير معالج. ولكنها تحتج قائلة “الآن تعني الكلمة الحمية، تعني موضة أو هواية”.

لكن على أي حال، تم دحض مصطلح نظيف منطقياً وتم نبذه على الملأ، هذا الشيء بحد ذاته يبين إشارات الأفول. عندما تقرأ في قسم الطبخ لأي كتاب في متجر كتب سوف ترى كيف أن العديد من كتاب الوصفات يستمرون بالوعود بأننا سنحصل على النقاء الداخلي وجمال المظهر الخارجي. حتى ولو كنت فعلياً لم تحاول تجريب الطعام النظيف فإنه من المستحيل أن تتجنب هذه النزعة العامة، لأنها قد غيرت الطعام المتاح لنا جميعاً والطريقة التي يتحدثون بها إلينا.

يُباع الأفوكادو اليوم في بريطانيا بشكل أكبر وأفضل من البرتقال، أخبرتني مؤخراً سوزي ريتشاردز (Susi Richards) رئيسة التطوير والإنتاج في المحال التجارية التابعة لسينسبري (Sainsbury) (سوبرماركت يبيع لوازم المنزل بما فيها الخضراوات) بأنه في هذه السنة (2017) أثار دهشتها الطلب على المنتجات التي تناسب نمط حياة الطعام الصحي التي قد تنامت وتسارعت في المملكة المتحدة. العائلات التي كانت تستهلك في إحدى المرات رقائق البطاطا الوفل (potato waffles) تقوم الآن بتجريب رقائق القرع الجوزي (squaffles) أي شرائح من القرع مقطعة بشكل يشبه الوفل (waffle). ماركة الخلاطات (Nutribullets) المصممة لصنع ما يسمى بالعصير المانح للبريق والنعومة اصبحت احياناً في مقام الملاعق الخشبية بأهميتها للمشترين.

لماذا يثبت الطعام النظيف بصعوبة قدرته على التدمير؟ عرف هادلي فريمان (Hadley Freeman) في بحثه، الطعام النظيف عكجزء من ثقافة ما وراء الحقيقة (التي تعتمد على إيمان الناس ومعتقداتهم بدلاً من الحقائق) والتي يتمتع مؤيدوها بعدم التأثر أو حتى يصلون إلى درجة من العداء مع الحقائق والخبراء. لفهم كيف أن الطعام النظيف قد ترسخ وتجلّى بتلك الصلابة، من الضروري أولاً أن تفكر وتسأل ما هو الشيء المرعب في الطعام بالنسبة لملايين الناس في العالم المعاصر؟ السؤال الأكثر إثارة هو ليس بالتأكد فيما إذا كان الطعام النظيف هراءً أم لا، لكن لماذا يؤمن العديد من الناس به؟

نحن لسنا الجيل الوحيد الذي يبحث بشكل مثير للاشمئزاز عن الطعام غير الصحي ويتمنى استبداله بمواد مغذية آمنة بشكل كامل. في خمسينيات القرن التاسع عشر كان يعتقد الكيميائي البريطاني آرثر هيل هاسال (Arthur Hills Hassal) بأن كل ذخيرة الطعام في لندن كانت متخمة بالسموم والتزييف. الذي يثير الدهشة، أنه كان على حق فقد أجرى سلسلة من التحقيقات لصالح مجلة طبية (Lancet) واكتشف أن أكثر ما كان معروضاً للبيع كطعام وشراب ليس كما يبدو في الظاهر، فالقهوة مصنوعة من السكر المحروق والهندباء؛ القثاء المخلل كان مصبوغاً بالأخضر وذلك بملونات النحاس السامة.

آرثر هيل هاسال

آرثر هيل هاسال

قادت سنوات من التحقيق حول الخداع والتي يقوم بها هاسال إلى حالة مرضية من الذعر جعلته يرى السموم في كل مكان وقّرر أن الحل هو بخلق مجموعة من المنتجات الغذائية غير الملوثة. أسس شركته الخاصة عام 1881 (Pure Food Company) أي شركة الطعام النقي والتي تستخدم فقط المكونات ذات النوعية التي لا يُشك بأمرها. قام هاسال بمزج الماء المخفف والمصفّى بلحمة سميثفيلد (Smithfield) بصفنه الأجود لصناعة جلاتين لحم الأبقار (Beef Jelly) الأنقى ومنتجات أخرى تبدو مقرفة مثل معينات اللحمة الليفية، والتي كانت تسمى بكرات الطاقة في إنكلترا في العصر الفيكتوري. في عام 1881 كانت شركة الطعام النقي تلك مثل مئات من الأعمال والمهن المتعلقة بالطعام الصحي ما عدا حقيقة أنها انهارت خلال عام بسبب عدم الشراء منها.

نحن الآن مجدداً نعيش في بيئة حيث أصبحنا نشعر أن الطعام العادي شيء مدمر وهو الذي يفترض أن يكون داعماً لنا ويمكن الاعتماد عليه. على خلاف الذين عاشوا في العصر الفيكتوري بالأساليب والعادات التي لا يمكننا ان نماثلها بالكامل، فنحن لا نأبه بأن قهوتنا هي مجرد خدعة، فشأنها شأن كل أنماط الغذاء الذي نتناوله والذي قد يكون مضراً لنا. أحد الأمور التي تجعل الموجة الجديدة من كتب الطعام الصحي جذابة هو أنهم يؤكدون للقارئ بأنهم يقدمون لهم أسلوباً جديداً من الطعام من دون الشعور بأي خوف أو ذنب.

المبدأ الأساسي في أنظمتنا الصحية الحديثة هو أن أسلوبنا الحالي في تناول الطعام يسممنا ببطء. كتبت الأختان هيمسلي (Hemsley Sisters) وهما من “الابطال” في الانظمة الغذائية تلك وتحديدا ما يعرف بـ (الكثافة الغذائية):”الكثير من الطعام الذي في متناولنا اليوم هو دون المستوى من الناحية الغذائية”. من الصعب ألا توافق على هذا الافتراض بأن معظم غذائنا الحديث هو بشكل عام دون المستوى حتى وإن كنت لا توافق على الحل المقترح من قبل الأختين هيمسلي وهو الغذاء الخالي من الحبوب، كل حمية ونظام غذائي يحمل في طياته نواة من الحقيقة والتي غُزلت مع الكثير من الخيال. يقول الدكتور جايلز يو Giles Yeo:”هذه هي الفتنة الكبرى”.

الطعام النظيف سواء أسميناه بهذا الاسم أم لا، هو ربما أفضل ما ينظر إليه على أنه رد فعل مختل لما لدينا من طعام هو الأكثر اختلالاً. عند دخولك إلى متجر في العالم الغربي تصادف الأجنحة المليئة بالوجبات المالحة المليئة بالزيوت والحبوب السكرية المصنوعة من الخبز الذي لم يتم اختباره ولا اختماره، كما تجد وجبات رخيصة ومشروبات محلاة وتجد لحوم الحيوانات المحجوزة بشروط غير إنسانية.

في العقود التي تلت الحرب، معظم البلدان في العالم خضعت إلى ما سماه بروفيسور التغذية باري بوبكين (Barry Popkin) بالانتقال الغذائي إلى الأغذية ذات الصبغة الغربية التي تتمتع بسكر عالي، لحمة، دهون، ملح، زيوت مكررة وإعدادات فائقة المعالجة والقليل من الخضراوات.

قام هذا الفيض من الوجبات والشركات المنتجة للأطعمة العالمية المتعددة باستبدال مكان الجوع الذي كان يطغى على الأجيال السابقة بمأدبة ضارة من المشروبات الحلوة والأطعمة الملائمة التي تعلمنا من عمر صغير أن نشتهي المزيد من الشيء نفسه. أينما حل هذا النوع من الأطعمة المتنقلة فإنه يجلب معه ارتفاعاً مثيراً في الأمراض التي تتدرج من الحساسية إلى السرطان.

في الدول المتقدمة أصبح عددٌ كبيرٌ من الناس، وسواء أرادوا أن يفقدوا الوزن أم لا، أصبحوا خائفين من الطعام الحديث وما يفعله بأجسادنا: سكري النمط الثاني (سكري البالغين)، البدانة، أمراض القلب والأوعية الدموية مع عدم ذكر الكثير من الاتهامات التي سببها الغذاء الحديث الذي يندرج من الزهايمر إلى داء النقرس. عندما تسبب الأطعمة السائدة مرضاً للناس فليس من المستغرب أن يقوم العديد منا بالبحث عن طرق أخرى للأكل لنُبقي أنفسنا أصحاء وبعيدين عن الأذى. قلقنا الجماعي والمشترك حول الأطعمة قد أثاره الانطباع العام الذي خلفته النصائح العلمية السائدة المتعلقة بالغذاء والتي ضخمتها عناوين الصحف التي لا يمكن الوثوق بها. أولاً، ما يُسمّون بالخبراء يدعوننا لتجنب الدهون ثم السكر في حين يصبح جميع الناس أصحاء بشكل أقل وأقل. ماذا سيقول هؤلاء الخبراء بعد ذلك؟ ولماذا يجب علينا أن نصدقهم؟

دخلت في خضم هذه الظروف والمناخ السائد من القلق والارتباك مجموعة من المعلمين يقدمون رسائل عن البساطة الرائعة وإعادة الطمأنينة: كٌلّ بهذه الطريقة وسوف أعيدك نقياً ومعافى مجدداً. من الصعب أن تحدد بدقة اللحظة التي بدأ فيها (الطعام النظيف) لأنه بالأحرى ليس غذاءً واحداً فهو مصطلح منحوت استعار أفكاراً من العديد من الأغذية السابقة الموجودة: القليل من الأطعمة القديمة البدائية هنا، والقليل من حمية اتكينز (Atkins diet) هناك مع بقايا قليلة من الوصفات النباتية لستينات القرن الماضي.

في بداية قرننا الحالي، شاعت هناك نسختان مميزتان ومترابطتان من الطعام النظيف في المملكة المتحدة، الأولى كانت تعتمد على أسس الطعام (الحقيقي) والثانية على فكرة التخلص من سموم الجسم (detox). ما إن دخل مفهوم النظافة عالم الطعام حتى أصبح القضية الوحيدة في وقته قبل أن تنتشر الفكرة كالعدوى عبر الانستغرام ويستطيع جمهور الطعام النظيف أن يشاركوا بإتقان صور العصائر الخضراء وصحون السلطات الملونة كقوس قزح.

بدأت أول نسخة (والأكثر اعتدالاً) للطعام النظيف عام 2007 عندما قامت توسكا رينو (Tosca Reno) وهي كندية وموديل للياقة البدنية بنشر كتاب بعنوان (The Eat Clean Diet) وصفت فيه كيف خسرت هي 34 كغ وكيف قلبت صحتها من خلال تجنب كل الطعام المكرر والمعالج بمبالغة وخصوصاً الطحين الأبيض والسكر. وجبة الطعام النموذجية الخاصة برينو قد تكون دجاج مقلي مع خضراوات وأرز بني أو قد تكون مؤلفة من بسكويت طحين اللوز مع كوب شاي. بعدة طرق كانت حمية الطعام النظيف تشابه العديد من كتب الأغذية التي جاءت قبل والتي تنصح بالكثير من الخضراوات وبالوجبات المنزلية المقسمة بشكل معتدل، لكن الاختلاف في وصفة رينو والذي سماها أنطوني ورنر جزء من العبقرية وبأنها تتصف رغم كل شيء بالشمولية والتنوع في أسلوب حياتنا.

في أثناء ذلك، ظهرت نسخة ثانية من الأكل النظيف والتي تزعمها طبيب القلب السابق من الأورغواي والذي يُدعى أليخاندرو جونغير (Alejandro Junger) وهي برنامج ثوري لإعادة التمكين الطبيعي للجسم لشفاء نفسه. وقد نُشر هذا البرنامج عام 2009 وذلك بعدما أثنت الممثلة جوينيث بالترو (Gwyneth Paltrow) على نظامه الغذائي المعتمد على تنظيف الجسم من السموم وذلك على موقعها (Goop) والذي يُعنى بالصحة وأسلوب الحياة الصحية.

نظام جونغير كان أكثر صرامة من نظام رينو والذي يدعو ولبضعة أسابيع بتنفيذ “حمية التخلص الجذرية” والمعتمدة على وجبات السوائل والاستبعاد الكامل للكافيين والكحول والألبان والبيض والسكر وكل الخضراوات المنتمية للفصيلة الباذنجانية (البندورة الباذنجان … الخ) وأيضاً اللحوم الحمراء (التي تخلق أحماضاً في البيئة الداخلية حسب اعتقاده).

خلال هذه المرحلة، ينصح جونغير بحمية السوائل على نحو كبير سواء كانت مؤلفة من عصائر تُصنع في المنزل أو من أحد أنواع الحساء أو من المسحوق الخاص به. بعد فترة التخلص من السموم ينصح جونغير وبحذر إعادة تقديم محرضات السموم مثل الطحين والذي يعتبر المحرض الكلاسيكي لكل ردات فعل الحساسية وكذلك الألبان والتي تعتبر طعاماً مشكلاً للحوامض (حسب رأيه).

عند قراءة كتاب جونغير تشعر بأن كل شيء صالح للأكل في عالمنا قد يكون ساماً كما كان الحال مع المؤلف هاسال، العديد من مخاوف جونغير يمكن أن نعذرها. يكتب جونغير بصفته طبيباً لديه معرفة مباشرة بالأوبئة المتعلقة بالغذاء مثل السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية والسكري وامراض المناعة الذاتية بشكل عام. الكتاب مليء بدراسات الحالات التي تعود لأفراد اتبعوا نظام جونغير في التخلص من السموم وأصبحوا أكثر خفة ورشاقة وسعادة. “من المرشح لاستخدام هذا البرنامج؟ “هذا السؤال يطرحه خونفير والإجابة هي “كل شخص يعيش في حياتنا المعاصرة ويأكل من الطعام المعاصر وكل سكان العالم الحديث”.

وما يثير الدهشة أنني وجدت نفسي خاضعاً ومقتنعاً نتيجة الاسلوب التبشيري الذي يطغى على نظام خونغير، لكن ليس الى درجة ان ادفع 475$ مقابل برنامج الواحد والعشرين يوماً (والذي لن ينتشر خارج أمريكا الشمالية) ولست مقتنعاً أيضاً إلى الحد الذي يجعلني أقلع عن فطوري اليومي المؤلف من القهوة المسببة للالتهاب أو من التوست المخمر والمزعج ومن الزبدة المسببة للحموضة والتي أشعر بسببها بأنني بصحة جيدة بشكل مذهل. عندما أخبرت جايلز يو (Giles Yeo) كم وجدت أن كلمات جونكر مغرية قال: “هذا هو سحرهم! جميعهم كائنات بشرية مؤثرة، أنا أعتقد أن مرشدي الطعام النظيف يؤمنون بأنفسهم”.

خلال الخمسين عاماً الذين الماضية كانت العناية بالصحة السائدة في الغرب مأخوذة بشكل غير مفهوم بالدور الذي تلعبه الحميات والأغذية بمنع الأمراض. عندما بدأت حملة #eat_clean تتحدث إلى عدد متنامي من الناس الذين كانوا يشعرون بأن النمط الحالي لطعامهم هو السبب وراء مشاكلهم من اكتساب الوزن إلى آلام الصداع والتوتر والتي لا ينفعها الدواء التقليدي. في ظل غياب الإرشاد الغذائي من قبل الأطباء فمن الطبيعي قيام الأفراد بتجريب الابتعاد عن هذا الطعام أو ذاك.

من عام 2009 إلى عام 2014 تضاعف إلى ثلاثة مرات عدد الأمريكيين الذين تجنبوا الفلوتين رغم عدم معاناتهم من الأمراض الزلاقية. لقد أصبح شائعاً تناول الحليب غير الطبيعي مثل حليب الشوفان أو حليب اللوز. لدي أصدقاء يعانون من حساسية اللاكتوز أي عدم هضم السكر في منتجات الألبان، كما أن لدي أصدقاء نباتيون يقولون بأن الطعام النظيف قد سهّل عليهم شراء مكونات كان يتوجب عليهم فيما مضى أن يذهبوا إلى متاجر خاصة بالطعام الصحي للحصول عليها.

الأمر الصعب الآن هو عدم القدرة على إيجاد معلومات يمكن الوثوق بها والمتعلقة بحميات خاصة لا تملك الحقيقة كاملة ومصممة لإرضاء العامة وينقصها الصدق.

قامت آن دولامور (Anne Dolamore) بمراقبة مدى تأثير الطعام النظيف وبشكل سريع على نوعية سوق الكتب المتعلقة بالأطعمة، دولامور ناشرة مستقلة من ضمن الناشرين عن الطعام في مجلة غروب ستريت (Grub Street) التي مقرها لندن. قامت بنشر كتب متعلقة بالطعام منذ عام 1995 في الوقت الذي كانت فيه نزعة التحرر من الطبخ تعتبر ثقافة ثانوية. في الأيام التي كانت تسبق تطبيق (Google) شعرت دولامور التي كانت طالما تؤمن بأن الطعام هو الدواء، بأن الحميات الخاصة التي كان يقدمها مؤلفون يملكون تفويضاً سليماً قد تخدم الهدف المرجو.

عام 1995 نشرت مجلة غروب ستريت كتاب طبخ للطعام اليومي لمرضى السكري (Everyday Diabetic Cookbook) والذي بيع منه أكثر من 100,000 نسخة في المملكة المتحدة، تلاه كتاب آخر حقق أيضاً نجاحاً كبيراً وهو كتاب الطبخ اليومي للتحرر من القمح والغلوتين (Everyday Wheat-Free and Gluten Free Cookbook) والذي ألفته ميشيل بيردالي جونسون (Michelle Berriedale-Johnson) الذي نشر عام 1998.

في عام 2012 تغير سوق الكتب المتعلقة بالطبخ والصحة في المملكة المتحدة بشكل مفاجئ، بدأ ذلك بالنجاح المذهل الذي حققه كل من ناتاشا كوريت (Natasha Corrett) وفيكي إديسون (Viki Edgson) في كتابهم (Honestly Healthy) والذي بيع منه حوالي 80,000 نسخة. الناشر في فورث ايستت (4th Estate) ذكر أن النزعة السابقة الكبيرة لنشر ما يتعلق بالطعام في بريطانيا قد كان عن الخَبز وإعداده، لكن ازدهار الخَبز قد مات بين ليلة وضحاها في الواقع وحلّ محله كتب تختص بالتحرر من السكر.

في مجلة (Grub street) كانت آن دولامور تراقب بدهشة كتب الطبخ الأكثر رواجاً والتي تعود لسيل لا ينتهي من الشقراوات اللاتي يتمتعن بالرشاقة، العديد منهن على ما يبدو يبتكرن حميات تعتمد على خبرتهن المحدودة. عندما قام كل من رينو وجونغير بإرساء أسس الطعام النظيف ليصبح نزعة عالمية واسعة الانتشار قامت وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت بالتكفّل بالباقي. معظم مؤلفي كتب الطعام النظيف في بريطانيا والتي حققت نسبة مبيعات كبيرة قد بدأوا كمدوّنين أو ناشطين على الانستغرام، معظمهم نساء جميلات في أوائل العشرينات من عمرهن واللاتي يقتنعن بلا شك بأن الحميات التي اخترعنها قد عالجتهم من الكثير من الأمراض المزمنة.

كل مرشدي الصحة هؤلاء يعلقون أهمية على ملح هيمالايا الوردي والروايات التي تؤكد كيف أن تبديل طعامك يمكن أن يبدل حياتك. كتبت أميليا فرير (Amelia Freer) في كتابها الأكثر مبيعاً والذي نشر عام 2014 بعنوان (Eat Nourish Glow) (باعت منه أكثر من 200,000 نسخة): “للطعام قوة تصنعك أو تكسرك”. كانت حياة فرير مليئة بالنشاط والعمل كونها المساعدة الشخصية لأمير ويلز، عندما أدركت أن بطنها تبدو وكأن هناك كرة بداخلها بسبب ولائم العشاء السريعة المؤلفة من الجبنة والتوست أو من الطعام المصنع. عند الإقلاع عن الطعام المعالج والأطعمة سهلة التحضير (كالسمن النباتي المهدرج .. الخ) بالتزامن مع الإقلاع عن الغلوتين والسكر، ادّعت فرير أنها قد وجدت الأسرار التي تجعلك تبدو أكثر شباباً وتشعر بأنك أكثر صحة.

ربما أفضل قصة متعلقة بالحمية الغذائية وأكثرها شهرة والتي سبب تحولاً جذرياً هي قصة إيلا ميلز (Ella Mills) التي تملك أكثر من مليون متابع على الانستغرام. عام 2011، تم تشخيص مرض متلازمة تسارع معدل ضربات القلب الموضعي الانتصابي (postural tachycardia syndrome) لديها، والذي يتسبب بالدوار والإجهاد. بدأت تنشر ميلز عن الطعام بعد اكتشافها أن الأعراض تتحسن بشكل جذري عندما بدلت غذاءها المثقل بالسكر إلى غذاء يعتمد على النباتات الطبيعية. ميلز التي اعتادت أن تكون نموذجاً ومثلاً أصدرت بعدها حميتها (التحرر من Free-from) والتي كانت لا تبدو رتيبة أو مبنية على الحرمان لكن تحمل في طياتها النجاح والطموح. ومع الوقت صدر أول كتاب لها في كانون الثاني 2015 حيث ساعدها متابعوها الكثر على بيع أكثر من 32,000 نسخة في أول أسبوع من نشره.

لقد كان هناك شيء ينم عن الفوضى والعبثية يدور حول تسويق تلك الكتب. ما الذي كانوا يبيعونه ويزعمون أنه بديل للصناعات الغذائية القذرة. حتى الطعام النظيف بحد ذاته هو مشروع تجاري ربحي على نحو واسع يُروّج له باستخدام مدوّنين شباب جذابين في الصور في البرامج وعلى منصات تعليمية تكلف ملايين الدولارات. أخبرتني الناشرة الأدبية زوي روز (Zoe Ross) أنها بدأت حوالي 2015 تلاحظ أن السوق كان عبارة عن بقايا الانستغرام وأعمال مستنسخة عنه وخصوصاً فتيات جميلات جداً وشابات يقمن بالترويج للطعام المنسّق ولنمط الحياة هذا.

بعد سنوات على الهامش، عاد الطبخ الصحي الذي يعتمد على أسس صحية الصحي بالحصول على جمهور واسع. في عام 2016، 18 من أصل 20 من أكثر الأشخاص شراءً لكتب الطعام والشراب من شركة الأمازون ببريطانيا كانوا يركزون على الحمية والطعام الصحي. والمثير للسخرية هو أن هذا النوع من الكتب لدولامور وغيرها لم تعد تباع بشكل جيد، لأن رواج المنشورات عن الصحة هي السائدة على وسائل التواصل الاجتماعي. كانت متاجر الكتب مثقلة بالكثير من كتب الطعام النظيف التي شعر حتى مؤلفوها بأنها قد تعددت كثيراً. كتبت أليس ليفينغ (Alice Liveing) البالغة من العمر 23 عاماً وهي مدربة شخصية في كتابها عام 2016 “كُل جيداً كل يوم ” (Eat Well Everyday). كانت تدافع عن فكرة (أن أكثر ما أحتاجه هو أن أتنفس في هذا السوق المكتظ بشكل لا يصدق). حسب خبرتي المحدودة، عند التصفح في كتابها يبدو وكأنه يشابه عدد لا يحصى من كتب الآخرين وحميتها كانت: كرات الطاقة المؤلفة من التمر واللوز ورقائق الكرنب الأجعد والشمندر وساندوتش اللحمة مع جبنة الفيتا (Feta).

لكن مجدداً، ألا يجب علينا أن نُثني على ما حققه الطعام النظيف من معجزة تحويل الشمندر والكرنب الأجعد إلى أشياء مرغوب بها؟ البيانات التي قام بها محللون من شركة كانتر وورلد بانيل (Kanter World Panel) أظهرت أن مبيعات بريطانيا من الشمندر الطازج قد ارتفع بشكل مثير من 42.8 مليون جنيه استرليني عام 2013 إلى 50.5 مليون جنيه استرليني عام 2015. سوف يقول البعض أنه في الدول النامية حيث يتناول معظم الناس وجبات فقيرة بشكل فظيع تفتقر إلى الخضراوات ويكثر فيها السكر فإن هذا الاتحاد الجديد للصحة والطعام قد قدم شيئاً جيداً. جايلز يو الذي أمضى بعض وقته يطبخ البطاطا الحلوة المبهرة مع إيلا ميلز في برنامجه على (BBC) يوافق أن العديد من وصفات الطعام النظيف التي قام بتجريبها “هي فعلياً طريقة ظريفة وشهية لطبخ الخضراوات” يتساءل يو لماذا لا يكتف ناشرو كتب الطعام النظيف ببساطة بقولهم (أنا أنشر كتب للنباتيين) بدلاً من ادعائهم عن الطاقة التي تمنحها الخضراوات والجمال الذي تضيفه وقدراتها على منع الأمراض؟ الخطر يكمن في حقيقة أنهم “يرتكزون في كل شيء على العلم الزائف” هذا ما قاله يو: “إذا بنيت شيئاً على أسس خاطئة فإن هذا الشيء يشجع الناس أن يتخذوا إجراءات مبالغ بها ومن هنا يبدأ الأذى “.

لا يمكنك أن تؤسس نظام عقائدي جديد بهذه الكلمات “أنا أنشر كتاب طعام جيد للنباتيين”، بل تحتاج إلى شيء أقوى. أنت تحتاج إلى صناعة عقيدة وتحتاج أن تهمس بنعومة. اطحن القرنبيط وبإمكانك الحصول على أرز خال من الكربوهيدرات! تجنب كل السكريات وسوف تصبح بشرتك مضيئة!  ومن بين أشياء كثيرة يثبت الطعام النظيف كم أن الملايين منا سريعي التأثر وضائعين وكيف يشعرون حيال الطعام وهذا بدوره يعني كيف نشعر حيال أجسادنا. نحن مفككون لدرجة أن نضع إيماننا وثقتنا بأي خبير يعدنا بأننا سنصبح أنقياء وجيدين.

أستطيع أن أحدد بدقة تلك اللحظة التي تبدلت مشاعري تجاه الطعام النظيف من التردد والازدواجية إلى الكره المطلق. كنت مرة في مهرجان شلتنهام الأدبي بصحبة عالمة التغذية رينيه ماكغريغور (Renee MacGreor) (التي تعمل مع رياضيي الأولمبياد ومع الذين يعانون من اضطرابات الطعام)، عندما بدأ حشد من حوالي 300 من جماهير الأكل النظيف بالسخرية منا والصراخ علينا. لقد كنا في مناظرة عن الطعام النظيف مع خبيرة التغذية مادلين شاو (Madeline Shaw) صاحبة كتاب (احصل على البريق واستعد لبريق دائم) (Get The Glow and Ready Steady Glow).

رينيه ماكغريغور

رينيه ماكغريغور

لكن تحت هذا اللمعان والوميض كان يوجد بعض الملاحظات والقيود التي وجدتها مثيرة للقلق والريبة. تقول شاو: “كما أي وقت مضى كل وصفاتي خالية من السكر والقمح ” فقط لتعطي وصفة الكعك الخالي من الغلوتين الذي يحتوي على 200 غ من السكر المستخرج من جوز الهند تلك المادة التي تُقدّر بنسبة أكبر من معدل حبيبات السكر الأبيض، لكن عمليات الأيض في الجسم تجري بطريقة متماثلة لكليهما. كنت ما أزال منزعجاً بشأن الخطوة الرابعة من فلسفة الطعام الخاصة بشاو والمؤلفة من تسعة نقاط والتي تقول بأنه يجب تجنب كل أنواع الخبز والمعكرونة: تلك المأكولات ذات اللون البني الفاتح والمليئة بالمركبات الكيميائية والمواد الحافظة وبالقمح المعدل جينياً. كتاب شاو لا يميز بين الرغيف الأبيض المقطّع وبين خميرة الطحين الأسمر المصنوعة في المنزل.

عندما تقابلنا في مهرجان شلتنهام، سألت شاو لماذا أخبرت الناس بالانقطاع عن كل أنواع الخبز، وقد أصابتني الدهشة عندما أنكرت أنها قالت مثل هذا الشيء (خبز الجاودار هو المفضل لديها هذا ما قالته!)، سألت ماكغريغور شاو ما الذي كانت تقصده عندما كتبت بأنه يجب على الناس أن يحاولوا أكل البروتين النظيف فقط واللحمة غير المقلية بشكل كبير وكانت إجابتها محيّرة. أضافت ماكغريغور ان اهتمامها الرئيسي كان عبارة عن معالجة محترفة للذين يعانون من اضطراب الأكل وقالت إنها رأت بشكل مباشر كيف أن القواعد والقيود التي يفرضها الطعام النظيف تسبب غالباً الاستمرار بضعف الشهية أو فقدان الشهية بالكامل.

قالت شاو:” لكنني لأستطيع إلا أن أرى الشيء الإيجابي بعيداً عن الحزن. عند هذه النقطة توجه الجمهور الذي كان مضطرباً عند حديثي انا وماكغريغور بشكل كامل إلى مخاصمتنا، وأصبح يصيح بنا ويطالبنا بالتنحي. في متجر الكتب بعد مهرجان شلتنهام، عندما أتى بعض الجمهور لشكر شاو لإعطائها ذلك البريق لهم، كدت أنفجر بالبكاء عندما قام شخص بالإشارة بإصبعه إليّ قائلاً بأنه يجب عليّ أن أخجل من نفسي، حتى قامت امرأة أكبر سناً (43 عاماً) بانتقاده. على التوتير في تلك الليلة، قام بعض جمهور شاو بالتعليق بشكل ازدرائي عن مظهر ماكغريغور ومظهري وذلك بإطلاق هاشتاغ #أنت_تكون_كما_تأكل (#youarewhatyoueat). فإذا كان مظهرنا أقل جاذبية من شاو، فمن الواضح بأننا لا نملك أي شيء ذو قيمة لكي نقوله عن الطعام (لا يهم إذا كانت ماكغريغور في الحقيقة تملك إجازة في الكيمياء الحيوية والتغذية).

بعد التفكير ملياً بتلك الحادثة، أدركت أن الحشد لم يكن غاضباً منا بسبب عدم موافقتهم على تفاصيل ما نقوله (فمن الواضح جداً أنك لا تستطيع أن تضع السكر في وصفات خالية من السكر) لكن كانوا غاضبين بسبب كرههم لحقيقة أننا كنا دائماً ما نجادل حول الموضوع. الإصرار على الحقائق أعطى انطباعاً سلبياً بقسوة. لقد حطمنا إيمانهم بالبريق والنضارة التي استقوها من شاو. الشيء اللافت أنه في العديد من كتب الطبخ المتعلقة بالصحة يقابلها دليل علمي سائد عن الحمية يبدو أكثر أو أقل ارتباطاً بالموضوع. لا لشيء، وإنما لأن معلمي ومرشدي الصحة يرون أن رضا العلم على جزء من مكونات حمياتهم يكون سيئاً جداً في المقام الأول.

تعترف إميليا فرير في كتابها (Eat Nourish Glow) “بأننا لا نستطيع أن نثبت بأن الألبان هي السبب في الأمراض التي تتراوح من القولون العصبي إلى آلام المفاصل” لكنها تستنتج في النهاية وبكل الأحوال بأن الانقطاع عن منتجات الألبان يستحق التجريب من باب الحيطة والاحتراس. في سياق ومضمار آخر تكتب فرير ” لقد تم إخباري أن المعرفة العلمية تأخذ حوالي 17 عاماً لكي تصل ” وتصبح معرفة عامة، لذا يجب تقديم نصيحة تجنب الغلوتين. ما إن ندخل المجال الذي تتواجد فيها السلطة والخبرة، حتى يُّشك بأمرنا تلقائياً، وهنا يمكنك تقريباً أن تدعي أي شيء والعديد من أصحاب الأكل النظيف يفعلون ذلك.

تلك الليلة في شلتنهام، رأيت أن الطعام النظيف أو أي اسم ينطوي تحته، لديه مقدار ضئيل من طائفة تجاوز الحقائق (post-truth cult)، حيث يمكن لأي طائفة أن يكون لها جانب مظلم ومسبب للخلافات إذا أثرت أشياء غير مرضية ومثيرة للغضب والسخط العام تجاهها. بعدما بُثّ على الهواء برنامج جايلز على (BBC)، أخبرني عن دهشته بأنه خاضع للتنمر والتصيّد القاسي على الهواء، يقولون أننّي مُمّول من قبل شركة دوائية كبيرة ولذلك لا أستطيع أن أميز فوائد الحميات الغذائية ولا أستطيع تفضيلها على الأدوية. طبعاً كانت هذه أكاذيب بالكامل، فهو موظف في جامعة كامبريدج وممّول من قبل مجلس الأبحاث الطبي في بريطانيا.

من الواضح وبشدة أن الطعام النظيف وإن كان لديه نوايا خيّرة، فمن الممكن أن يسبب خطراً حقيقياً للحقيقة وللبشر. تقول ماكغريغور ” خلال الثمانية عشر شهراً الماضية، كل زبون دخل عيادتي وكان يعاني من اضطرابات في الطعام، كان يتبع أو يريد أن يتبع مذهب الطعام النظيف” في كتاب ماكغريغور (اضطراب الغذاء Orthorexia) تلاحظ هي: بينما اضطرابات الطعام تسبق وجود نزعة الطعام النظيف وقواعد الأكل كالابتعاد عن منتجات الألبان وتجنب الحبوب، إلا أنها أصبحت وبسهولة ذريعة لتقييد تناول الطعام. وعلاوة على ذلك، فإنها قواعد غير جيدة وتعتمد على ادعاءات غير مؤكدة وغير علمية مثل تناول حليب اللوز الذي أيدوه بشدة كالبديل الأفضل لحليب الأبقار. تقول ماكغريغور أن هذا تجده أفضل من ادعاء (الماء الباهظ الثمن) الذي يحتوي على 0.1 غ بروتين في كل 100 مل، مقارنة بحليب الأبقار الذي يحتوي على 3.2 غ في كل 100 مل. لكنها تجد صعوبة بالغة في اقناع زبائنها بأن تقييد أنفسهم بنظام الطعام النظيف هو أمر سيء بالنسبة للصحة أكثر من اقتناعهم بالطعام المفرط والوجبات المتوازنة والمتنوعة وأنه لا يوجد داع للخوف من تناول الآيس كريم أو حتى الشوكولاته.

من الواضح أنه ليس كل من اشترى كتب الطعام النظيف أصبحت لديه مشكلة اضطراب الغذاء. لكن هذه الحركة التي تقول في مقدمتها بأن الطعام العادي هو غير صحي قد عكرت صفو الطعام الصحي لكل شخص آخر وذلك من خلال زرع فكرة أن الحمية الجيدة هي واحدة من الأفكار المؤسسة والمعتمدة على الجزم والحتمية.

الكارثة الحقيقية للطعام النظيف هو ليس بخطئه الكامل، لكن بسبب احتوائه على نواة من الحقيقة يقول جايلز يو “عندما تقوم بتبسيط كل الثرثرة الزائفة هم محقون تماماً عند قولهم بأنه يجب علينا أكل الكثير من الخضراوات والقليل من السكر واللحوم” كان يقول ذلك بينما يرتشف قهوته السوداء في مكتبه في معهد كامبريدج لعلوم الأيض (Metabolic Science) حيث يقضي هو أياماً يبحث في أسباب السمنة. يوافق يو آكلي الطعام النظيف بفكرة أن البيئة المحيطة مليئة بالطعام الرخيص والوافر والمليء بالسكر والدهون وأن ذلك هو السبب في انتشار البدانة والأمراض. المشكلة تكمن في أنك لا تستطيع أبداً أن تستخلص الأشياء والأفكار المعقولة وتتجاهل البقية. يقول أنطوني ورنر:” موجة الطعام النظيف جعلت الطعام الصحي يبدو شيئاً مكلفاً وباهظاً ومن الصعب تحقيقه، سواء استخدمت كلمة نظيف أم لم تستخدم، حيث يوجد تعصب حول الطعام تجذّر وترسّخ بشكل واسع “.

منذ أسابيع قليلة، سمعت بشجار بين رجل كهل كان يوبّخ صديقاً له بسبب عدم اتباعه حمية غذائية أفضل، كان الحديث بينهما لا يصدق ولا يمكن أن تتخيل أنه يدور بين الرجال. كان الرجل الأول يخبر الثاني الذي يفضل بيرغر التنحيف بأنه لا شيء وبأنه قطع من اللحم العفنة، وقال أنه باستطاعته أن يحصل على أي شيء يريده من الخضراوات والطبخ من دون زيوت. ويكمل كلامه بأن الدهون هي دهون في النهاية، ثم رثا حال أولئك الحمقى الذين يحاولون أكل شيء صحي مثل السلطة ثم يتلفونها بإضافة الملح لها وينهي كلامه:” إذا كنت تتناول طعاماً سيئاً ولو ليوم واحد في الأسبوع، فإنك سوف تدمر كل ما تفعله من جهد”.

القضية الأساسية هي كيف يمكننا أن نقاوم هذا النوع من الحكم المطلق وطغيان نظام الحمية الغذائية من دون الرجوع إلى الاحتفاء بالطعام الحديث الطائش الذي يسبب بشكل واضح العديد من الأمراض. في عام 2016، سجل أكثر من 600 طفل في بريطانيا كمصابين بالسكري من النوع الثاني، قبل عام 2002 لم يكن هناك حالات مسجلة لأطفال يعانون من السكري من النوع الثاني من وضع ما سببه مرتبط بالطعام.

نظامنا الغذائي في حاجة ماسة لإصلاحه، هناك خطر فيما إذا قاتلنا هراء الطعام النظيف، بأن ينتهي بنا المطاف ونبدو كمدافعين عن الطعام التجاري الذي أخفق في مهمته الأساسية بتغذيتنا. قال إدوارد ليون (Edward Lyuen) والذي كان مريضاً سابقاً باضطراب غذائي، بكتابه الذي نشر عام 2014 (قهر اضطراب الطعام) بأن النصيحة القديمة (كل شيء باعتدال) (Everything in Moderation) لا يمكن أن تعمل في وسط الطعام هذا الذي قد يقودك التناول المعتدل له إلى أمراض مزمنة. عندما تُضاعف الأجزاء وتباع ألواح السنيكرز بالمتر (الشيء الذي رأيته مؤخراً في متجري المحلي التابع لشركة تيسكو) لن يكون الأكل باعتدال خياراً متوازناً. الجواب أو الحل ليس حمية أخرى كاملة لكن بتغيير فكرتنا عن محتويات الطعام الطبيعي والمعتدل.

ارتفع بيع القرع الصيفي في بريطانيا بنسبة 20% من عام 2014 إلى عام 2015 مصحوباً بارتفاع الطلب على آلة (Spiraliser) التي تحول الطعام إلى خيوط مشابهة للمعكرونة. لكن الاستهلاك الإجمالي في بريطانيا وأرجاء العالم بطريقه للزوال (مع نسبة 64% من البالغين في بريطانيا الذين لا يخططون لأكل خمس وجبات)، هذه النسبة أقل مما كانت عليه في الخمسينات من القرن الماضي، عندما كانت الوجبات اليومية المطبوخة والطازجة شيئاً يقابل توقعات معظم الناس بفعاليتها وكانت تعتبر من المسلمات.

من بين الفئات والطبقات الغنية الذين يتناولون مسبقاً طعاماً صحياً أكثر من معدل الحميات الغذائية، خلقت آلهات الانستغرام نموذجاً جديداً من الحمية المتقنة التي يتبعونها. بالنسبة لباقي الناس فإن هذه الحمية هي ببساطة نموذجاً مثالياً خارج متناول اليد. وراء أغلفة كتب الطعام النظيف البراقة والجذابة، يوجد إقصاء اقتصادي قاسي يقول بأن الأشخاص الذين لا يستطيعون شراء عشبة القمح أو السبيرولينا المستخلصة من البكتيريا الزرقاء، لا يمكنهم أن يكونوا حقاً أصحاء.

الحديث الذي سمعته في النادي الرياضي يوضح طريقة التفكير الخطيرة تلك لأنها تحجب في الحقيقة الرسالة التي تتضمن تغييراً بسيطاً في الطعام يمكنه أن يكون له تأثير مفيد وكبير. إذا كنت تظن أنك لن تستطيع أن تكون بحالة صحية حتى لا تأكل شيئاً ما عدا الخضراوات فإن الحقيقة ستفوتك (حسب ما أظهره دليل في علم الأوبئة) والتي مفادها أن هناك فوائد جوهرية من رفع استهلاك الخضراوات والفواكه إلى حصتين في اليوم.

من بين الكثير من الإهانات والمخالفات، كان الطعام النظيف عبارة عن سلسلة من الادعاءات حول الطعام سواء كان ينص على تناول كل الأطعمة أو لا شيء منها، وهذا الادعاء يؤكد على حقيقة أن معظم البشر كعادتهم يستندون على الوهم.

 

المقال الأصلي:

Bee Wilson, “Why we fell for clean eating”, theguardian.com, 11 Aug 2017

ترجم هذا المقال بترخيص من صحيفة الجارديان للعلوم الحقيقية