قرأتم في المقالين السابقين (1 ، 2) بداية فلسفة الأخلاقيات التطورية على يد كل من تشارلز داروين وهربرت سبنسر. كانت آراء سبنسر أكثر أنانية ولم تستطع تفسير السلوكات الغيرية. وكاستجابة لآراء داروين وسبنسر، شاعت فلسفة تحسين النسل وسببت تقهقرا في فهم الأخلاق على أساس تطوري. كما أدَّى ظهور أفكار الحتمية البيولوجية إلى اعتبار حرية الأفعال جزءا جوهريا في الأخلاق. بالإضافة إلى أهم المشكلات المبكرة كمشكلة هيوم والمغالطة الطبيعية لجورج مور.

في هذا المقال ننتقل من الفلسفة إلى علم الأحياء والجينات. سنلاحظ أن التقدُّم في مجال الأحياء والأحياء الاجتماعية سهَّل إيجاد تفسيرٍ للسلوك الغيري الذي كان معظلة في الماضي. وأيضا سنقرأ محاولات فلسفية للتعامل مع المغالطة الطبيعية والحتمية البيولوجية.

الغيرية واضحةٌ أخيرًا

الغيرية altruism في السياق التطوري يُقصد بها أن تسعى لنفع فردٍ آخر بغض النظر عن منفعتك الشخصية. وعكسها الأنانية selfishness. وتختلف الغيرية عن التضحية sacrificing التي تعني أن تنفع الآخرين على حساب مصلحتك (جويس، 2006). في منتصف تسعينات القرن العشرين بدأت الأخلاقيات التطورية تستعيد قوتها وتماسكها في كل من علم الأحياء والفلسفة. ففي علم الأحياء، قدَّم عالِم الأحياء التطورية ويليام هاملتون W. D. Hamilton مبدأ اللياقة المتضمِّنة inclusive fitness لتفسير الظواهر التي لم تكن قابلة للتفسير من قبل مثل الغيرية. كما هبَّ العديدُ من الفلاسفة لتحدِّي مشكلة المغالطة الطبيعية.

ما هي اللياقة ؟ وما هي اللياقة المتضمنة ؟

يُقصد باللياقة fitness في الأحياء التطورية “انتقال الجينات إلى الجيل التالي.” (تومبسون، 1999). فالكائن الذي يتميز بالقدرة على التكيُّف التي تمكنه من نقل جيناته إلى الذرية هو الذي يوصَفُ باللائق fit أو بالذي يملك لياقة بيولوجية.

واللياقة المتضمِّنة تحتوي (تتضمَّن) كل الميزات المادية (الجسدية) والسلوكية (النفسية) التي يملكها الأقارب الجينيُّون لنقلها إلى الجيل التالي. وببساطة، يمكن وصف فكرة اللياقة المتضمنة بأنها “إذا كان سلوك الفرد (أ) يساعد في نقل جينات أحد الأقارب الجينيين (ب)، فإن سلوك الفرد (أ) جزء من لياقة الفرد (ب).” أو “إذا كان كل من (أ) و(ب) يتشاركان عددا كبيرا من الجينات، فإن سلوك (أ) الذي يعزز لياقة (ب) يعزز أيضا لياقة (أ).” (المرجع نفسه).

على سبيل المثال، عندما يساعد شخصٌ ما قريبه الذي يشاركه في 25% من جيناته (العم/ة، الخال/ة)، فإن هذا الشخص يشارك في زيادة لياقة قريبه الجيني (يزيد من فرص انتقال جيناته إلى الذرية)، وكنتيجة لسلوكه النافع -أيًّا كان- فإنه يزيد من لياقته الخاصة (نظرا للنسبة المشتَرَكة من الجينات، فإن الشخص الآخر يحمل جزءا من جيناته). وهكذا، فإن السلوك الغيري يكون جيدا كلما كان عائده على لياقة الفرد نفسِهِ نافعا (المترجم). كما تزداد الغيرية كلما ازدادت النسبة المشتركة من الجينات (أو القرابة الجينية). فالغيرية تجاه أبيك الذي يشاركك في 50% من جيناتك قد تكون أكبر من الغيرية تجاه ابن خالتك الذي يشاركك فقط في 12.5%. (للمزيد حول نسب مشاركة الحمض النووي، راجع هذا المقال).

لكن كما يتضح في فكرة اللياقة المتضمنة، لا يجب فهم الغيرية أخلاقياً بوصفها نوعا من التضحية بلا مقابل، فهي مصطلحٌ “سطحي” لأنَّها “أنانية” في الأصل (الاقتباسات من المرجع نفسه). فقد صمم التطور البيولوجي السلوك الغيريَّ قبل كل شيء لخدمة لياقة الفرد نفسه (المرجع نفسه).

هل هناك مشكلات أخرى؟

بحلِّ مشكلة الغيرية، تتبقى مشكلتان في طريق الأخلاقيات التطورية. الأولى هي مشكلة المغالطة الطبيعية naturalistic fallacy، والثانية هي مشكلة الحتمية البيولوجية وتعارضها مع الأخلاق (“المطالبة بالحرية الفردية”).

يناقش باول تومسون Paul Thompson أستاذ علم الأحياء والفلسفة بجامعة تورونتو هاتين المشكلتين في الورقة البحثية التي أترجم منها في هذا المقال، والمعنونة بـ (الأخلاقيات التطورية: أصولها ووجهها المعاصر EVOLUTIONARY ETHICS: ITS ORIGINS AND CONTEMPORARY FACE).

تراجُع المغالطة الطبيعية!

ظلت مشكلة المغالطة الطبيعية naturalistic fallacy تعيق نمو الأخلاقيات التطورية عشرات السنين. حتى أنها سُمِّيت “كعب أخيل الأخلاقيات التطورية”، أي نقطة ضعفها القاتلة. لكن حلَّها ممكن. والخطوة الأولى لحل مشكلة فلسفية صعبة تبدأ من مقدِّمات هذه الفلسفة. أو كما يقول باول تومسون: تبدأ بـ “إنكار الفرق بين القضايا الأخلاقية والقضايا الواقعية.” وهذا الإنكار يؤدي تلقائيا إلى إنكار تمييز ديفيد هيوم بين “ما يجب أن يكون عليه الشيء ought وماهية الشيء is، بادِّعاء أن تقرير ought، ببساطة، هو نوع فريد من تقرير is.” (المرجع نفسه).

مشكلة المغالطة الطبيعية لا تكف عن “الأسئلة المفتوحة”  التي لا نهاية لأجوبتها. فإذا قلنا: “لتكوين نظام اجتماعي مستقر، فإن أفراده يجب (ought) أن يتصرفوا بالطريقة (س).” بطبيعة الحال، سيخضع هذا الادِّعاء للتجربة، فإن كان السلوك (ٍس) لا يجعل المجتمع مستقرا فإن الادِّعاء خاطئ تجريبيا. لكن البعض يظن أن هذه القضية خاضعة لأسئلة موور Moore. فمثلا، قد يسأل: “لماذا النظام الاجتماعي المستقر جيد؟ ولن يرضى الناقدون بإجابة “لأنه يضمن الصلاح لأفراده.” فهذه الإجابة ستخضع لسؤال آخر “ولماذا يكون هذا جيدا؟”. وهكذا كل إجابة لن تكون مرضية وستخضع للمزيد من الأسئلة اللامنتهية (المرجع نفسه).

لكن استمرارية الأسئلة لا تنتصر لمغالطة موور الطبيعية. لأن هذه السلسلة اللامنتهية من الأسئلة والإجابات لا تختلف عن الأسئلة والإجابات اللامنتهية في القضايا الواقعية. مثل:

“أنا: لماذا يرتدي ذلك الرجل معطفا وقبعة أزرقين؟

أنت: لأن هذا هو الزي الرسمي لعمله.

أنا: ولماذا هو الزي الرسمي لعمله؟

أنت: لأن مسؤول التوظيف قرر الزي الذي يجب على الموظفين ارتداؤه.

أنا: ولماذا اتخذ هذا القرار؟

أنت: لأنه يرى أن هذا الزي يلهم العامة بالثقة فيما يقومون به.

أنا: ولماذا يرى هذا؟” (المرجع نفسه).

وتستمر الأسئلة والإجابات بلا نهاية. ولكن عدم وجود إجابة نهائية لا ينفي وجود إجابة ذات معنى فيما يتعلق بالسياق. ففي نقطة معينة، ستبتعد الإجابات عن سياق السؤال المبدئي، وستكون المزيد من الأسئلة غير ضرورية لتحقيق الهدف من السؤال المبدئي (المرجع نفسه).

ومن هنا يكون السؤال “هل سلسلة التبريرات لتقرير ought تختلف عن سلسلة التبريرات لتقرير is؟”. والأساس الوحيد المحتمل لإجابة تأكيدية هو إثبات أن سلسلة تقريرات ما يجب أن يكون عليه الشيء ought يجب أن تنتهي بتقرير نهائي. ولكن، إذا كان كل تقرير في السلسلة قابلا لإعادة تشكيله كمسألة تجريبية، فإن من الواضح أن القبول بوجود إجابة نهائية لن يكون إلا مجرد قضية إيمان، وهذا غير ممكن تجريبيا. وإلى هنا تفقد أسئلة مور المفتوحة قوتها (المرجع نفسه). 

مشكلة الحتمية البيولوجية 

الحتمية البيولوجية biological determinism تعني أن الفرد لا يملك الخيار في سلوكه، وأن هذا السلوك محتوم مسبقًا ومكتوب في الجينات. دعونا نلقِ نظرة على مثالٍ تكنولوجي معاصر. تعمل لعبة الشطرنج في الكمبيوتر بسياسة التنبؤ بنتائج عدد كبير من النقلات التي يقوم بها اللاعب الخصم بناء على ترتيب معين واستجابات متوقَّعة. واستنادا إلى تقييم المستقبل الذي يحسبه الكمبيوتر، سيقوم النظام بنقلةٍ في الحاضر للوصول إلى المستقبل الذي تنبأ به (المرجع نفسه). وباختصار، فإن الكمبيوتر في هذه الحالة يخضع لنوع من الحتمية (المترجم)، إذْ ستتحدد أفعاله الحاضرة بالمستقبل (أو بالمستقبل المتوقَّع على الأقل).

كما أن الكمبيوتر مصمَّم بواسطة برامج يكتبها البشر، فإن البشر مصمَّمون بالتطوُّر. فالذين لديهم قدرات عصبية مبرمجة لإدارة المعلومات (القدرة والمرونة ليكونوا مبرمَجين) سيكونون أفضل من الذين ليست لديهم مثل هذه القدرات. وإنها لَفائدة تطورية واضحة “أن يكون أحدهم قادرا على تقييم العواقب المحتملة لأفعاله، وأن يعمل على أساس هذه المعرفة.” (المرجع نفسه).

الخلاصة، الحتمية البيولوجية لا تؤدي إلى عدم إمكانية الاختيار. فالنظام المعرفي في الإنسان يجري عمليات معقدة جدا لاستقراء المستقبل وتوفير الخيارات، وهذه الخيارات مبنية على المعرفة المتحصلة (المرجع نفسه)..

وعلم الأحياء الاجتماعية sociobiology (ومن ثم الأخلاقيات التطورية، المترجم) “البعيدُ كل البعد عن التعارُض مع مثل هذه الخيارات اللازمة لأخلاق البشر يوضِّح الوجود الواضح للاختيار في إطارٍ حتمي. وبالفعل، إن علم الأحياء الاجتماعية  يشكل أساسًا لتأكيد الإرادة volition، الفعل الحر، ومن ثم المسؤولية عن الأفعال.” (المرجع نفسه).

 

المصادر:

المقال مترجَم بتصرُّف عن المصدر الأول. والإضافات التوضيحية تنتهي بالإشارة إلى “المترجم”.

https://people.creighton.edu/~idc24708/Genes/Ethics/reading%201.pdf

مصادر أخرى:

Joyce, Richard (2006) The Evolution of Morality (Massachusetts Institute of Technology) p. 14.