“مع الانضباط الذاتي، يصبح كل شيء ممكنا”

                                    ثيودور روزفلت

لطالما سمعنا عن فضائل ضبط النفس وأهمية التحكم بالذات من معلمينا وأهلنا أو الأشخاص الذين ساهموا بتربيتنا وتقويمنا.

لقد تشرّبنا هذه القيمة التي تعكس حسن الخلق في كل مجالات حياتنا. أنا شخصيا أبذل جهدي عند تعبئة طلب الالتحاق بالجامعة أو التقديم لفرصة عمل أن أزيّن سيرتي الذاتيّة بخبرات امتلكها تسير بحذاقة وبطريقة غير مباشرة إلى قدر الإرادة والتحكم الذاتي اللذين أمتلكهما.

انها حكمة قديمة توارثناها عبر الأجيال بأن قدرة الطفل على التحكم بنفسه هي دلالة على التربية الصحيحة والأبوة والأمومة الناجحة.

ما هو ضبط النفس؟

ضبط النفس هو ممارسة السيطرة على النفس عن طريق كبح الدوافع والميول والأفعال. وتهدف هذه السلوكيات المثبطة لتعزيز فائدة طويلة الأجل للفرد. يقال إن ضبط النفس يُمارس عندما يغير الشخص الطريقة التي يتصرف بها بشكل تلقائيً، ويُشار إلى القدرة على ممارسة ضبط النفس على أنها قوة الإرادة. لطالما تبنّى التربويون القناعة بأنّ ضبط النفس هيّ خاصيّة أساسية علينا أن نغرسها في الأطفال منذ الصغر ليعود عليهم بالفائدة في حياتهم العلمية والعملية مستقبلا.

“الإنسان المتحكم بنفسه هو انسان محترم وناجح”

اشتهرت في السنوات الماضية تجربة قام بها عالم نفس أمريكي تدعى “تجربة المارشملو” وشهد الاعلام الغربي جنونا إعلاميا في تغطية هذه التجربة التي جذبت انتباه المجتمع من مختلف الخلفيّات وبالأخص الأهل والمربين. تم الترويج للدراسة بأن اختبارا بسيطا في الطفولة قادر على التنبؤ بمستوى نجاح الطفل مستقبلا في شتى النواحي العلمية والمهنية والاجتماعية. تختبر التجربة قدرة الطفلة على كبح جماح نفسها من تناول حلوى المارشملو عند تركها لوحدها دون إشراف ووعدها بأنها ستحصل على قطعة حلوة إضافية إذا تمكنت من عدم تناول الأولى لمدة ١٥ دقيقة. وجد الباحثون القائمون على الدراسة، والذين قاموا بمتابعة عوامل حياتية مختلفة للأطفال الذين شاركوا بالدراسة، بأن الأطفال الذين كانوا قادرين على التحكم في رغبتهم في تناول الحلوى نشأوا ليكونوا أكثر نجاحًا مقارنة بالأطفال الذين استسلموا للإشباع الفوري. سرعان ما توصلت وسائل الإعلام إلى استنتاج مفاده أن النجاح المستقبلي للطفل يمكن التنبؤ به منذ سن مبكرة بمجرد اختبار مدى قدرة الطفل على إبداء ضبط النفس منذ الصغر.

هذا التأثر بأهمية تعليم وممارسة ضبط النفس منتشر حتى في البيئات التعليمية، حيث يتم تصميم الصفوف الدراسية لتعزز ضبط النفس سواء في السلوك الصفّي أو في الأداء الأكاديمي. ويستمر هذا إلى مرحلة البلوغ حيث يقوم أصحاب العمل ولجان القبول الجامعي في معظم الثقافات باختيار موظفين وطلاب يمتلكون سمات تدل على القدرة على ضبط النفس والسيطرة على الدوافع، وأخذها كدلالة على طبيعة شخص مجتهد وكادح.

ضبط النفس سيء لذاكرتك

ظهرت بحوث جديدة في السنوات الأخيرة تتحدى هذه الأفكار عن ضبط النفس من خلال اظهار أدلّة على أنّ ممارسة ضبط النفس في المهمات التي تتطلب استخدام موارد الذاكرة قد تستنزف الموارد المعرفية ذاتها اللازمة لأداء المهمة وقد تؤدي بالفعل إلى إضعاف أداء المهمة. استخدم الباحثان القائمان على الدراسة، اجنر و تشيو، مهمة قائمة على الكمبيوتر “go / no-go” تطلبت الدراسة من المشاركين الاستجابة عن طريق الضغط على زر عندما يظهر وجه ذكر على الشاشة والامتناع عن الضغط على الزر عند ظهور وجه أنثى. بعد مشاهدة ما مجموعه 120 وجهًا مختلفًا، تم صرف انتباه المشاركين بمهمة لا علاقة لها بالمهمة الأولى، لمدة خمس دقائق. بعد ذلك، تم إعطاء المشاركين اختبارًا مفاجئًا في الذاكرة، حيث طُلب منهم عرض مجموعة من الوجوه المختلفة سؤالهم إن كانوا قد رأوا ذلك الوجه في المهمة الأولى أم لا.

وجد إيجنر وتشيو أن ذاكرة المشاركين للوجوه التي اضطروا إلى ممارسة ضبطهم لنفسهم بالامتناع عن الضغط على الزر عند ظهورها كانت سيئة للغاية. أثار هذا فضول الباحثين حول ما يحدث في الدماغ والذي قد يسبب ذلك. ولذا، وفي المرحلة الثانية من الدراسة، طلبوا من المشاركين أن يقوموا بنفس المهمة، لكن هذه المرة داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي والذي يقيس نشاط الدماغ بشكل غير مباشر بينما يقوم المشارك بأداء المهمة. وجد الباحثون وجود صلة مباشرة بين الوجوه التي تم نسيانها في وقت لاحق وزيادة تفعيل شبكة الدماغ المعروفة بالتثبيط. ارتبط هذا التنشيط المتزايد أيضًا بكبح عمل منطقة الدماغ التي يتم تنشيطها عندما يتم ترميز الذاكرة- الترميز هو تحويل الخبرات الحسية الجديدة المدركة الى بنية يمكن تخزينها داخل الدماغ، لإيصالها إلى الذاكرة طويلة المدى، وتعرف هذه المنطقة باسم قشرة الفص الجبهي البطني (ventrolateral prefrontal cortex)، في التجارب التي تطلبت من المشاركين الامتناع عن الضغط على الزر.

أظهرت الأبحاث السابقة أن ضبط النفس يتغذى من مورد محدود ومستنفذ. يعتمد معدل نفاذ هذا المورد وشدة التأثير على السلوك الذي يتم تثبيطه، على عدد السلوكيات التي يتم التحكم فيها في الوقت نفسه. قد يفسر هذا فشل اتباع نظام حمية غذائي بأن يؤدي الى فقدان وزن دائم كما أثبتت الدراسات؛ نظرًا لأن اتباع حمية غذائية يعتمد اعتمادا كاملا على قوة الإرادة، ولأن قوة الإرادة محدودة، فمن المؤكد أن أي استراتيجية تعتمد على الاستعمال المستمر لها ستفشل بمجرد انتقال الانتباه إلى شيء آخر. هذا ينطبق على أشكال مختلفة من ضبط النفس كما هو موضح في دراسة أخرى؛ عندما طُلب من المشاركين محاولة تثبيط أفكارهم، كانت محاولتهم اللاحقة في حل لغز غير قابل للحل أقل اصرارا من المشاركين الذين التي لم يطلب منهم تثبيط أفكارهم قبل حل اللغز والذين استمروا في المحاولة لفترات أطول. يشير هذا إلى أن أشكالاً مختلفة من ضبط النفس تستخدم مصدرًا مشتركًا. تُظهر النتائج الجديدة التي توصل إليها إيجنر وتشيو أن التحكم الذاتي لا يتنافس على الموارد فحسب، كما تم العثور عليه سابقًا، ولكنه أيضًا يكبح موارد الذاكرة بعلاقة عكسية فكلما ازداد التحكم الذاتي، قلّ الأداء المعتمد على الذاكرة.

استثناء للقاعدة

هذا لا يعني أن ضبط النفس هو أداة عديمة الفائدة يجب تجنبها لأنها تستنفد الموارد الرئيسية الأخرى (التخطيط والذاكرة واتخاذ القرارات)، ولكن تصور القدرة في تثبيط الذات هو مفتاح النجاح هو تصور خاطئ. يعد ضبط النفس أداة قيّمة يجب اتباعها ولكن يجب ممارسة الحكم الصائب عند استخدامها حتى لا يتم استنفاد موارد الفرد بالكامل. إن الفهم الأفضل لكيفية عملها يضمن عدم نضوبها بحلول الوقت الذي تقترب فيه من الموعد النهائي المهم سواء كان امتحانا مدرسيا أو تسليم تقرير أو مشروع في عملك. بالإضافة إلى ذلك، إذا ألقينا نظرة فاحصة على كيفية عمل ضبط النفس وظيفيا نرى أنه قد يكون من المستحسن ممارسة ضبط النفس في بعض المجالات لتحقيق نتائج أفضل، ولكن في المجالات الأخرى قد يكون من الأكثر ذكاءً أن نعتمد على موارد أخرى.

كيف يعمل ضبط النفس؟

يشبه عمل ضبط النفس العضلات التي تستنفد بالجهد، وتصبح أقل كفاءة مؤقتًا، وتحتاج إلى الراحة بعد التمرين. وبالتالي، لا ينبغي أن تستهلك بمعدل أسرع من المعدل الذي يمكن تجديده. بالإضافة إلى ذلك، يجب إعادة تجديد الموارد قبل أن تتمكن من العمل بكامل طاقتها مرة أخرى. ومثل العضلات التي يمكن أن تتعرض للإصابة في حالة استخدامها عند الارهاق، يعد ضبط النفس نظامًا عرضة للتعطل. الإفراط في ضبط النفس إلى حد الاستنزاف، إذا كانت الظروف المحيطة تمنع الشخص من التعافي بعد ممارسة ضبط النفس على سبيل المثال، يؤدي هذا إلى نقص في الموارد والذي يؤدي بدوره الى فقدان القدرة على ضبط النفس بشكل مزمن.

يجب أن نتذكر أن المهام المختلفة لها مطالب مختلفة على نظام ضبط النفس، ومقدار الطلب الذي تضعه المهام المختلفة على هذا النظام يرتبط بمدى ارهاق النظام بسبب الاستنزاف. هذا يعني أن المهام التي تتطلب مزيدًا من ضبط النفس ستعاني بدرجة أكبر عندما ينضب النظام مقارنة بالمهام التي تحتاج إلى قدر أقل من ضبط النفس. وهذا ما يفسر السبب في أن الميل إلى الإفراط في الأكل يؤثر على الشخص الذي يمارس حمية غذائية أكثر من تأثيره على غيره من الأشخاص عندما يتم استنزاف مواردهم، لأن الأول يمارس ضبط النفس في حين أن الأخير ليس كذلك.

والخبر السار هو أن فقدان القدرة على ضبط النفس ليس طويل الأمد بل يتم عموما استعادة الموارد المفقودة. وإذا مارست هذه العملية بذكاء، فإن التحكم بالنفس عندما يليه فرص كافية لاستعادة المصادر بشكل تام يمكن أن يؤدي ببطء ولكن بثبات إلى زيادة القدرة الكلية للشخص على التحكم في نفسه.

لماذا يهمك ذلك؟

بينما تسلط الدراسة التي يتم تناولها في هذا المقال الضوء على الأفكار المغلوطة حول ضبط النفس والذي قد يؤثر بدوره على النصائح التربوية والتعليمية التي يتبعها الأهل والمعلمين في تعاملهم مع أطفالهم، يجب التنويه الى أننا لا نتطرق الى الممارسات المثلى لضبط النفس حيث أن الأمر شائك ومليء بالممارسات والتطبيقات المختلفة في شتى مجالات الحياة والتي تتطلب دراسة أعمق للعوامل الإدراكية وكيفية تفاعلها مع بعضها ومع العوامل الخارجية. النظر إلى ضبط النفس والذاكرة بشكل مجازي وكأنهما مستودعان من اكسير يساعدنا على تخطي العقبات الإدراكية وإعادة النظر في المسلمات العلمية التي نتوارثها و نتداولها فيما بيننا.

 

على الرغم من أن فهم اعتمادية ضبط النفس والذاكرة على المصدر نفسه والقابل للاستنفاذ، و الذي قد يساعدك على العمل بشكل أكثر ذكاءً من خلال تخصيص مواردك ببراعة، إلا أن الصلة بين ضبط النفس والذاكرة قد توفر أيضًا رؤى مهمة في علاجات أفضل لحالات مثل اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD). لقد وجدت الدراسات أن الأشخاص الذين يعانون من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه يتذكرون بشكل أفضل عندما يتململون- القيام بحركات صغيرة بالجسم، وعادة باليدين والقدمين.

في حين أن الآثار المترتبة على هذا لم يتم استكشافها بشكل كامل حتى الآن، تشير النتائج إلى أن برامج العلاج التي تركز على تعليم الأفراد الذين يعانون من اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه على تجاوز رغبتهم في التململ قد تقوم باستنفاد الموارد الأخرى. في حين أن مثل هذا الاتصال تكهني، فإن السماح للأطفال المصابين باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه بالتململ قد يحسن من اهتمامهم وأداء الذاكرة.

باختصار، يجب ممارسة ضبط النفس، لكن كالكثير من الأشياء الجيدة يجب استخدامه باعتدال وبحكم جيد. حيث ان الاستخدام المفرط للنظام من الممكن أن يؤدي إلى انهياره، والأهم من ذلك أنه يمكن أن يتسبب في سحب الموارد من الأنظمة الأخرى، مثل الذاكرة. على الرغم من أن الآثار ليست واضحة حتى الآن، إلا أن إجراء مزيد من التحقيقات قد يحمل المفتاح لفهم وتصميم علاجات أفضل لاضطرابات مثل اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه.

فشل تجربة المارشملو

بعدما أثارت تجربة المارشملو اهتمام الآباء والأمهات والتربويين لعقود بوعود متمثلة في أن إرادة الطفل وضبط النفس يحملان مفتاح النجاح في حياة الطفل عندما ينمو. وان الأطفال الأقدر على ضبط أنفسهم وأظهروا القدرة على مقاومة الإغراءات كبروا ليصبحوا مراهقين لديهم قدرة أكبر على التركيز ولديهم نسبة ذكاء أعلى وأكثر اعتمادا على أنفسهم …الخ، نشرت دراسة مؤخرا لباحثين من جامعة نيويورك وجامعة كاليفورنيا – إيرفين والتي أظهروا فيها فشل تكرار الدراسة، حيث كان الارتباط بين القدرة على ضبط النفس في الطفولة والنتائج السلوكية في مرحلة المراهقة أصغر بكثير ونادراً ما يكون ذات دلالة إحصائية. يشير الباحثون إلى أن المزاعم الزائفة لاختبار المارشملو تعني أن الأهل والمدارس ودور الحضانة يهدرون الوقت إذا حاولوا تدريب أطفالهم على ضبط النفس وتأخير الإشباع. تأتي هذه الدراسة في خضم “أزمة التكرار” التي يمر بها مجال علم النفس حيث فشلت الكثير من الدراسات مؤخرًا في تكرار نتائجها أو إعادة إنتاجها.

بالرغم من أن الدراسة تشير إلى أن القدرة على تأخير الإشباع وضبط النفس قد لا تكونان سمتان مستقرتان أو قادرتان على التكهن بالنتائج السلوكية للطفل مستقبليا. الا إنها بالتأكيد تفتح طرقًا جديدة للتحقيق ومحاولة فهم النتائج التي توصل لها الباحثون في الدراسة الأصلية. في مقالها في مجلة الأتلانتيك بعنوان ” لماذا ينجح الأطفال الأغنياء باختبار المارشملو؟” تناقش الكاتبة جيسيكا كلاركو بأن الثراء المادي وليس القدرة على ضبط النفس هما الدافع وراء قدرة بعض الأطفال على تأخير الإشباع. تقول كلاركو “فشل تكرار اختبار المارشملو يعتبر أكثر من مجرد فضح لفكرة سابقة مغلوطة بل إنه يشير إلى تفسيرات أخرى محتملة لسبب عدم تحفيز الأطفال الأفقر لانتظار المارشملو الثانية. بالنسبة لهؤلاء الأطفال، تحتوي الحياة اليومية على ضمانات أقل: قد يكون هناك طعام في المنزل اليوم، ولكن قد لا يكون هناك في الغد، لذلك هناك خطر يأتي مع الانتظار. وحتى لو وعد الأهل بشراء كمية أكبر من طعام معين، فإن الحاجة المالية تضطر الأهل أحيانا لعدم الوفاء بوعدهم”.

المراجع

  • Chiu YC, Egner T (2015) Inhibition-induced forgetting results from resource competition between response inhibition and memory encoding processes. The Journal of Neuroscience 35(34): 11936 –11945
  • Chiu YC, Egner T (2015) Inhibition-induced forgetting: when more control leads to less memory. Psychol Sci 26:27–38.
  • Mischel W, Shoda Y, Rodriguez M (1989) Delay of gratification in children. Science 244(4907), 933–938.
  • Muraven M, Baumeister RF (2000) Self-regulation and depletion of limited resources: Does self-control resemble a muscle? Psychological Bulletin 126(2): 247-259
  • Sarver DE, Rapport MD, Kofler MJ, & Raiker JS, Friedman LM (2015) Hyperactivity in Attention-Deficit/Hyperactivity Disorder (ADHD): Impairing Deficit or Compensatory Behavior? J Abnorm Child Psychol 43:1219–1232
  • Watts, T.W., Duncan, G.J., Quan, H. (2018). “Revisiting the Marshmallow Test: A Conceptual Replication Investigating Links Between Early Delay of Gratification and Later Outcomes”. Psychological Science 29 (7), 1159-1177.
  • https://www.theatlantic.com/family/archive/2018/06/marshmallow-test/561779/
  • https://www.theatlantic.com/health/archive/2016/06/you-cant-willpower-your-way-to-lasting-weight-loss/488801/?fbclid=IwAR1DZkylnYrFDfZv2evhlhvDhCyr1JTAqC1jjoOOPbteq6PJJRmCY1Arx8c