المحقق الروحي أو التّحرِّ الرّوحي هو وسيط روحّي مزعوم يساعد هيئات إنفاذ القانون على حلّ الجرائم.

المحقق الروحي سيلفيا براون

سيلفيا براون

في كتابهما (The Blue Sense: Psychic Detectives and Crime)، سجّل آرثر ليونز Arthur Lyons  ومارسيلو تروزي Marcello Truzzi العديد من الأسباب التي تساهم في حصول أشخاص بدون أي قوى روحية على الشهرة من خلال مشاركتهم في كشف الجرائم. في كثير من الحالات، تكون معظم الشّهادات المقدّمة لوسائل الإعلام، والتي تصبّ في مصلحة الوسيط الروحي، مزوّدة من طرف المحقّق نفسه، وليس من مصدر مستقلّ. نادرا ما تشكّك وسائل الإعلام في مزاعم الوسيط الروحي، أو تحاول مسائلته. وكمثال على ذلك: إعلان الوسِيطة المزعومة، سيلفيا براون (Sylvia Browne)،عدّة مرات، استخدام قواها الروحية في حلّ الجرائم. لكن من النادر أن نرى من يتحدى مزاعمها هذه كما حدث لها سابقا في مجلّة (Brill’s Content).

قامت هذه المجلّة بالتدقيق في عشر حلقات من برنامج (The Montel Williams Show) ألقت الضوء على عمل سيلفيا براون كمحقّقة روحية، والذي امتدّ لـ 35 قضية -بدون التركيز على آرائها حول العالم الآخر.

في 21 من تلك القضايا، كانت التفاصيل التي قدّمتها غامِضة جدا بحيث لا يمكن التحقق منها. في 14 قضية المتبقية، قال رجال المباحث وأفراد العائلة المعنيّين بهذه القضايا أن براون لم تقدّم أي مساعدة تذكر في التحقيق. يقول مايكل كورن Michael Corn، أحد المنتجين في برنامج انسايد ادشن (Inside Edition)، والذي أنتج قصّة تفضح المحققين الروحيين:”هؤلاء الأشخاص لا يحلّون القضايا، ووسائل الإعلام تخطيء بِخصوصهم بِاستمرار“. إضافة إلى ذلك، قال مكتب التحقيقات الفيدرالي والمركز الوطني للأطفال المفقودين أنه، إلى حدّ علمهم، لم يسهم هؤلاء المحققين في حل ولو قضية واحدة لشخص مفقود.” صفر”، هذا هو عدد القضايا التي قاموا بحلّها حسب قول العميل كريس ويتكومب (Chris Whitcomb). ويضيف: ” يظهرون على التلفاز، وأشاهد كيف تسير الأمور وما يزعمون. لكن، لا شيء. قد تكون مزاعمهم صالحة لأغراض أخرى، غير أنّ مكتب التحقيقات الفيدرالي لا يستفيد من خَدماتهم“.

أدلت براون بادّعاءات كثيرة في برنامج لاري كينك شو (The Larry King Show) حول قدرتها الفائقة على حل الجرائم، بما فيها الإدعاء بأنها قامت بحل قضية تفجير مركز التجارة العالمي سنة 1992. اعترض جيمس راندي (James Randi) على ادّعاء براون، الذي صرحت به في البرنامج، حول عملها مع ستيفن زانثوس (Stephen Xanthos)، المشتغل بقسم شرطة رومسن (Rumson) بولاية نيوجيرسي (New Jersey)، وقولها أنها على وشك حلّ إحدى القضايا. يقول: “لم يعمل أيّ شخص يدعى زانثوس مع قسم الشرطة ذاك، رغم أنه كان هناك شخص آخر، تمّ طرده من قسم شرطة مغاير بولاية نيوجيرسي، يحمل نفس هذا الاسم. بِالبحث  أكثر في هذا الزعم التخيّلي لِسيلفيا، اكتشفنا أن زانثوس كانت لديه رخصة محقق خاص في وقت سابق، لكن صلاحيتها انتهت في سنة 1994”. ويضيف: “من المثير للاهتمام أن نشير إلى أنه إذا كانت أقوال براون صحيحة حول عمل هذا الرجل معها، كما ذكرت في البرنامج، فإنه سيكون عرضة لاتهامات بارتكاب جناية من الدرجة الثالثة وفقا لقانون ولاية نيوجيرسي- تعادل السطو أو سرقة سيارة. ليس الأمر كما لو أننا صدّقنا ادعاءات براون، لكن يجب عليها أن تكون أكثر ذكاء حين تختلق مثل هذه الأكاذيب”. ربما كانت براون تحاول استدراج راندي لِتصديقها، أو ربما كانت تحاول جعل نفسها تبدو بمظهر جيد عن طريق اختلاق أحداث لا صحة لها.

رغم كشف حقيقة أن ما تقوله ليس سوى أكاذيب عدّة مرات، إلا أن شهرة براون لا يبدو أنها تتناقص. في سنة 2010، قام كل من ريان شافر (Ryan Shaffer)  وأغاثا جادويزوك (Agatha Jadwiszczok) بتتبع 115 قضية جنائية مزعومة عملت عليها براون. معدّل دقتها في هذه القضايا لم يتجاوز الصفر.

جيمس راندي و الرؤية عن بعد

جيمس راندي

هناك أسباب أخرى للسّمعة غير المستحقّة التي يحظى بها المحققون الروحيون، إضافة إلى استعراض إنجازاتهم على وسائل إعلام غير نقدية. أحيانا، يكون تخمينهم صحيحا. فلدى الجميع نسبة 50 في المئة في تخمين ما إذا كان الشخص المفقود “حيا” أو “ميتا”. الإحتمالات جيدة، إلى درجة أنه بحلول الوقت الذي يشترك فيه الوسيط الروحي في التحقيق يكون الشخص المفقود، على الأرجح، ميتا وقتها.

معظم الأحداث التي يتنبّأ بها المحققون الروحيون أحداث شائعة يتنبأ بها آلاف الوسطاء الروحيين كل سنة. الشخص المفقود سيكون إما “حيا” أو “ميتا”. إذا كان ميتا، فربما يكون مدفونا. إذا كان مدفونا، فعلى الأرجح في مكان بعيد كالغابة مثلا. القبور غير المحفورة جيدا شائعة جدا. وفوق هذا، كم عدد القَتلة الذين يأخذون الوقت الكافي لحفر قبر عميق؟ رغم ذلك، فالتنبؤ بأنه سيتم إيجاد جثّة في قبر غير محفور جيدا وفي منطقة غابويّة، يُعتبر من قبل بعض الأشخاص عملا مذهلا إذا ثبتت صحته). بعبارة أخرى، من المحتّم أن تكون بعض “رؤى” المحققين الروحيين على صواب؛ ما يكفي لِجعل أتباعهم السّذّج ينخدعون بأقوالهم تلك. ما يبدو أنه إحساس دقيق يرجع بالأساس للغموض والشيوع الّذين يكتنفان المعلومات المقدّمة ( مثلا: “أرى المياه قرب الجثة” أو “أرى أشجارا”)، بالإضافة إلى الحيّز المتاح بشأن ما سيتم عدّه توقعا ناجحا. بعض المحققين الروحيين بارعون في استخدام أسلوب اللبس والغموض في تصريحاتهم، ويمثلون “المعادل الشفهي لِاختبار رورشاخ (Rorschach test)” حسب قول بيت هاين هوبنز (Piet Hein Hoebens)، أحد معاوني تروزي في مشروع (Psychic Sleuths).

ينبّه ليونز وتروزي إلى أن التقارير حول نجاحات المتنبئين مبالغ فيها ويشوبها التحريف. إذ أن التصريحات الغامضة تصبح تصريحات واضحة، و الأخطاء تعوّض بتنبّؤات صحيحة، أما الوقائع التي لم تحدث قط فتصبح “أحداثا حقيقية”. غالبا ما يكون المحقق أو المحققة وراء إعادة صياغة الأحداث التاريخية. في بعض الأحيان، يدلي الوسطاء بتوقعاتهم بعد مرور الحدث ثمّ يدّعون أنهم أدلوا بها قبل ذلك. كمثال على ذلك: ادّعاء سيلفيا براون أنها تنبأت بوقوع أحداث 11 من سبتمبر.

يرجع جزء كبير من هذه السمعة غير المستحقة للمحققين الروحيين إلى زبنائهم: الشرطة أو أقارب ضحايا الجرائم. إذ أنهم يَعتبرون الأخطاء التي يقع فيها المتنبئون وسوء تقديرهم، توقعات ناجحة. كمثال: أخبرت براون امرأةً أن زوجها توفي جراء الإصابة بجلطة، رغم أنه في الحقيقة توفي نتيجة حدوث نزيف. وافقت الزوجة على أن قول براون صحيح مع أن الفرق بين الجلطة والنّزيف يعادل الفرق بين انسداد أنبوب قناة وانفجاره.

غالبا ما يتم اعتبار المصادفات تنبؤاتٍ ناجحةً. يشير تروزي وليونز إلى أن المعلومات التي يقدّمها المحقق الروحي تكون، في كثير من الأحيان، محصّلة من مصادر أخرى؛ عادة، من أحد عملاء إنفاذ القانون الذي يقدّم هذه المعلومات بشكل غير متعمد. كل ما يقوم به الوسيط الروحي عندها، هو إعادة سرد تلك المعلومات. بعض التنبؤات الناجحة في في الحقيقة مجرد نبوءات ذاتية التحقق. يجد أولئك الزبناء سبلا لتعديل الوقائع التي لديهم حتى تتوافق مع التصريحات المبهمة والغامضة التي يدلي بها الوسيط الروحي، الأمر الذي يوقعهم ضحية لِلتفكير الانتقائي  (selective thinking) تذكر ما يبدو أنه صحيح ودقيق، ونسيان ما كان خاطئا وغير صائب. علاوة على ذلك، فنشر وسائل الإعلام قصص النجاحات المزعومة لِلوسطاء الروحيين وتجاهل قصص فشلهم واحتيالاتهم، يعزّز من الشهرة التي يحصلون عليها والتي تعتمد على أدلة تافهة وغير ذات قيمة.

وفقا لِليونز وتروزي، فالمحققون الروحيون يستخدمون طريقة تشبه إلى حدّ كبير قراءة الطالع لتحصيل المعلومات -يقدّمون كمية كبيرة من معطياتٍ لا بدّ وأن يُوافق بعضها معلومات القضية التي يعملون عليها. تعتمد هذه الطريقة على التحيز التأكيدي، تحديد مواصفات شخص ما- تأثير فورير– والانحياز الذاتي. يَقبَل الشرطي الذي يتعرض لأسئلة الوسيط الروحي المتتابعة المعلومات التي تتوافق مع ما لديه من معطيات ويتجاهل ما لا يتوافق معها، ويعطي بذلك، عن غير قصد، تلميحات وإشارات إلى ما يجب أن يركّز عليه هذا الأخير.

بعض المحققين الروحيين مجرد محتالين، وفقا لليونز وتروزي. يستخدم بعضهم معاونين في إنجاز عمليات الاحتيال والخداع. يقدّم بعضهم رشاوى إلى المخبرين، ومنهم ضبّاط الشرطة، للحصول على معلومات تُمرّر على أساس أنها مُكتسبة بواسطة قوى روحية.

في حين أن هناك بعض رجال الشرطة الذين يصدقّون الوسطاء الروحيين، إلا أن أغلبهم  يستغلونهم لأغراضهم الشخصية. يحكي ليونز وتروزي قصة الشرطي الذي اعتبر رسم الوسيطة الروحية، نورين راينر (Noreen Reiner)، لدائرة دليلا صحيحا في إحدى القضايا، فقط لأن الشخص الذي قبض عليه كان يقود شاحنة خلط الاسمنت. في قضية أخرى، حسِبَ شرطيٌّ أن إشارات دوروثي أليسون (Dorothy Allison) صحيحة تماما، رغم أنها تكهّنت بأن الشخص المفقود كان ميتا في حين أنه كان حيّا ويعيش مع إحدى الطوائف الدينية. اعترف الشرطي فيما بعد أنه كان مندهشا من الخطأ الذي ارتكبته أليسون في تنبؤها حول موت ذلك الشخص، لكنه تساءل: ما الطريقة التي هو ميت بها؟ أهو ميت بيولوجيا؟ سريريا؟ أم هو ميت من التعب؟ مع ذلك، يبدو أن هذا النوع من التفكير الرغبوي القائم على التمني وخداع النفس يشكّل الاستثناء وليس القاعدة بين ضباط إنفاذ القانون. من المرجّح أن يلجأ رجال الشرطة لاستخدام الوسطاء الروحيين لكي يتستّروا على المصادر الحقيقية لمعلوماتهم، أو لحماية أحد المخبرين، أو لإخفاء حقيقة أن المعلومات تم الحصول عليها بطريقة غير شرعية. أما بعضهم فيلجؤون إلى الوسطاء، أو يدّعون أنهم وسطاء، قصد اللّعب على نفسية المشتبه بهم الذين لديهم ميول لِاعتقادات الخرافية، ودفعهم إلى الاعتراف.

يشير ليونز وتروزي كذلك إلى أن العديد من المحققين الروحيين يستعملون وسائل مثل: الاستقراء والاستنتاج، التخمينات، دقة الملاحظة، والاعتماد على الحدس، تماما مثل ما يقوم به رجال الشرطة. وفي بعض الحالات، تكون لدى المحققين الروحيين دِراية بأنماط معينة من الجرائم أكثر من رجال الشرطة الذين يوظفون خدماتهم.

على الرغم من الأدلة القوية التي تشير إلى أن معظم المحققين الروحيين هم ببساطة متوهمين أو محتالين، إلا أن ليونز وتروزي يقسّمان الوسطاء إلى قسمين: وسطاء حقيقيين، وشبه وسطاء. هذه الفئة الأخيرة تنقسم بدورها إلى وسطاء موثوقين (أولئك الذين لا يَعُون أنهم يستخدمون وسائل عادية للإدراك وجمع المعلومات والاستدلال المنطقي في عملهم)، ووسطاء مزيفين (المحتالون). لدعم تصورهم هذا عن أن بعض المحققين الروحيين، رغم قلتهم، هم وسطاء روحيين حقيقيين، فهما يشيران إلى أن بعض الناس لديهم إحساس حادّ فوق الطبيعي (الرؤية، السمع، الشم)؛ ما يطلق عليه علماء النفس فرط الإحساس (Hyperesthesia). أحد الأمثلة على ذلك هو الطبيب آرثر لينتغين (Arthur G. Lintgen) الذي كان قادرا على فحص مقطوعة موسيقية مجهولة، والتمكن من التعرف على الموسيقى، وفي بعض الأحيان على عازفها، فقط من خلال تدقيق النظر في الآثار التي كانت موجودة على الأسطوانة المسجلة. يعتبر المؤلّفان مثل هذه القدرة دليلا على إمكانية وجود قوى خارقة رؤية الفينيل (Vinyl Vision) ، لكن الدكتور لينتغين لديه تفسير آخر لهذه الحيلة يتجلى في فحص تشكيل الاسطوانة مع أخذ الوقت النسبي لعزف كل واحدة من الحركات أو كل فصل من التسجيل بعين الاعتبار.

           

ارثر ارلينغتون

ارثر ارلينغتون

 

اعتمد الدكتور لينتغين كذلك على وسائل استقراء واستنباط عادية لتحديد الأجزاء الغامضة من المعلومات كجنسية الأوركسترا التي عزفت المقطوعة الموسيقية. مع ذلك، فالدكتور لينتغين لم يقم بخداع نفسه أو الآخرين ودفعهم إلى تصديق أن الموهبة التي يتمتع بها لها علاقة بقوى روحية خارقة. صراحةٌ يبدو أنها فُقدت لدى الكثير من الأشخاص الذين نصّبوا أنفسهم مراجع معتمدة في الوساطة الروحية.

psychic detective, Skeptic dictionary