”لقد اختبرتُ وشعرتُ بالسحر الأيوني والذي يعني الإيمان بوحدة العلوم، والإقتناع الراسخ – أكثر من كونه إقتراحاً – بأن العالم مرتبٌ وقابلٌ للتفسير بواسطة عدد صغير من القوانين.“ إي أو ويلسون، كتاب Consilience، صفحات 4 – 5

السحر الأيوني: تاريخ مختصر للطبيعانية العلمية

إن الطبيعيين هم الأشخاص الذين يختبرون – بالدرجة الأولى – على حد تعبير إي أو ويلسون “الإحساس الأيوني”: شعور بالعجب والدهشة تجاه الأناقة الرياضية والشبكة المنظمة من السببية الطبيعية التي تحكم وتوحد جميع الظواهر، من الجسيمات إلى المجرات، ومن الجينات إلى الميمات. وإحساس الطبيعاني بالإعجاب تجاه العالم يحدث بالتزامن مع الإقتناع التام أن العالم المادي يستحوذ على الواقع استحواذاً كاملاً. فالعالَم الطبيعي، بوصفه الوحيد الموجود، يشتمل ويتضمن البشر الذين تتقيد وتنحصر أفعالهم وأفكارهم بنفس القوانين الفيزيائية التي تحكم الجسيمات الأساسية. نحن البشر – بالتأكيد – فريدون في كون أفعالنا تنم وتظهر العقلانية، الهادفية، والعديد من المدلولات الإجتماعية مثل تواصلنا عن طريق لغة بالإضافة إلى الممارسات الثقافية. فالطبيعاني – مع ذلك – يدرك بتفرد الجنس البشري بالعديد من البصمات، لكن مع الاحتفاظ برؤية عن أنفسنا ككائنات طبيعية بالكامل والذي يُمكن تفسير سلوكها من حيث المبدأ باستخدام الطرق العلمية الأساسية.

هذه أخبارٌ جيدة، وذلك لأن التقدم في العلوم الطبيعية على مدى الـ 500 سنة الأخير قد زودنا بطرق موثوقة لاكتساب المعرفة عن العالم الذي نحن جزءٌ منه. وبدلاً من مجرد فعل الإيمان، فإن قناعات الطبيعاني الفكرية مستوحاة من التقدم العلمي الراهن، بالإضافة إلى فشل النداءات والمناشدات إلى القوة الغيبية بأن تجعل القبول العقلاني هو المهيمن عبر الثقافات المختلفة أو حتى أن تحافظ على التماسك الداخلي والمعقولية. وتتجاوز نجاحات الرؤية الطبيعية للعالم مجرد كونها إنجازات فكرية. فإن إمتداد المعرفة النظرية الذي حققه البحث العلمي الحديث قد تم توظيفه بشكل لانهائي وإبداعي في تطوير وسائل وتكنولوجيا جديدة للتعاون الاجتماعي. وقد منحت هذه التقدمات البشر قوة غير مسبوقة في توقع، التحكم، بل وحماية الطبيعة وكل ذلك في صالح ازدهارنا على الأرض. لذا فإن تاريخ المذهب الطبيعي الذي أعرضه هنا ما هو إلا نظرة عامة على سلسلة من النجاحات، والذي يُمكن اعتباره ثمرة لتساؤلنا الطويل عن العالم الطبيعي وصراعنا الفكري لرؤية أنفسنا كجزء جوهري فيه.

سقراط

تمثال سقراط، في عمل روماني يعود للقرن الأول الميلادي

الإغريق القدماء

في محاولة إي أو ويلسون لوصف الطبيعاني على أنه الشخص الذي يختبر السحر الأيوني، فإن ويلسون يتبع تقليداً شائعاً في الإشارة إلى طاليس (الذي عاش وعمل بمملكة أيونيا الإغريقية في القرن السابع قبل الميلاد.) كجد للمذهب الطبيعي. تمسك طاليس برؤية غريبة مشهورة للكون، فاعتبر كل شيءٍ ما هو إلا صورة لمادة واحدة – الماء – معدلة بطرق لا نهاية لها. إن لقب “أول طبيعاني” مشكوك في أحقيته لطاليس وذلك أنه برغم رؤيته المادية لطبيعة الواقع، يُشاع أيضاً أنه قد حقق أول تنبؤ ناجح لخسوف الشمس باستخدام وسائل حديثة لاكتساب المعرفة: حسابات رياضية وملاحظات فلكية مفصلة. وبرغم أن طاليس يعتبر اختياراً قياسيا لافتتاح تاريخ المذهب الطبيعي، فإن ويلسون كان بمقدوره بسهولة أن ينسب الفضل لهؤلاء الأفراد المجهولين من المجتمعات البشرية المبكرة التي عاشت منذ 250 ألف سنة. الذين سخروا قدراتهم البيولوجية التطورية للفضول، العقلانية، ولغة تواصلية قد طوروا أنظمة راقية للتعاون الاجتماعي وسلسة من الأدوات – مثل الرماح، الحفارات، المزامير – اللذين سمحا لهم باستغلال قوى الطبيعة والتحكم بها لصالح زيادة خير ورفاهية مجتمعاتهم. ولذلك فإن الموقف التجريبي والعملي الدافع للمذهب الطبيعي يمكن فهمه على أنه تكيف وظيفي راسخٌ في صلب عقولنا.

ومع ذلك، فقد قام طاليس بالخطوة الحاسمة عن طريق تصور العالم الطبيعي بالكامل كمكانٍ من المادة عديمة الشعور والقوى الغير شخصية التي تعمل بشكل مستقل عن الإرادة الإنسانية أو الغيبية. وقد تبعه بعض الإغريق القدماء في ذلك، مجردين آلهة جبل الأولمبوس من أي دور تفسيري في نظرياتهم لمصدر النظام والمعنى في الطبيعية. والبعض – مثل السوفسطائي الشهير بروتاجوراس – اعتقد بإمكانية وجود المعرفة بدون الأنبياء الموحى إليهم إلهياً أو النصوص الثقافية المفروضة، مُصِراً أن تلك المعرفة يمكن أن تقوم على التفكير النقدي والحجة العقلانية واللذين أصبحا يُعرفان فيهما بعض بالجدل. وقد وضع الأساس لللاأدرية – بمعنى تعليق الإيمان بوجود آلهة نظراً لنقص الأدلة – عندما قال: “بخصوص الآلهة، إننى لا أمتلك أي وسيلة لمعرفة إنْ كانوا موجودين أم لا أو حتى من أي نوعٍ قد يكونوا. فالعديد من الأشياء تمنع المعرفة منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.”

بروتاجوراس

بروتاجوراس

وربما تعتبر تساؤلات وتأملات سقراط الأخلاقية خطوة كبرى نحو المذهب الطبيعي من لاأدرية بروتاجوراس. ففي محاورة أفلاطون يوثيفرو، يقوم سقراط بصياغة معضلة منطقية شهيرة تتحدى أي أخلاق تقوم بوضع الأساس الأخلاقي للبشر سواء في الإرادة أو الأوامر الإلهية. حيث يُلاحظ سقراط أن (1) الاشياء القيمة بالنسبة للحياة الإنسانية سوف تكون ذات قيمة إما بشكل مستقل عن إرادة الآلهة أو لن تكون كذلك. فإن كانت القيم البشرية (2) مستقلة عن إرادة الآلهة، فإن الآلهة لا يُمكن أن تكون هى المصدر الكلي غير المحدود للقيم، لأنه في هذه الحالة سوف تتواجد تلك القيم وإنْ لم توجد الآلهة. ومع ذلك، فإن الجانب الآخر من المعضلة يدين تفكك وعدم ترابط الأخلاق الإيمانية. حيث إن كانت القيم البشرية (3) غير مستقلة عن الإرادة الإلهية – بمعنى كونها تابعه بشكل أساسي لما تقرره الآلهة – حينها سوف يصبح لدينا اثنتيْن من العواقب المخالفة للحدس: (أ) قد تعتبر أفعال مثل القتل صالحة إن اعتبرتها الآلهة كذلك وسوف تكون صالحة في المستقبل إنْ ظلت الآلهة على نفس الاعتقاد و (ب) واجبنا نحو طاعة الآلهة لا يمكن تفسيره، فإن تم الإدعاء أن هذا الواجب فيه الخير للبشرية سوف تصبح لدينا دائرة مفرغة بمعنى أنْ يُطلب مننا أن نتبع إرادة الآلهة لأنها أرادت ذلك. لقد كانت ولازالت حجج سقراط في يوثيفرو بمثابة دحضٍ دائم لأي أخلاق ترى الفضيلة والصلاح الإنساني معتمد بشكل أساسي وجوهري على أوامر وأحكام القوة الآلهية.

وبرغم أن هؤلاء الفلاسفة الإغريق كانوا طبيعييـن بمعنى أنهم هجروا إختيار الإرادة الإلهية في تفسير الأحداث وتبرير الأخلاق، إلا أنهم احتفظوا بمقدارٍ ضئيلٍ من الروحانية (الصوفية) في تصور الطبيعة وقد مُنحت ذكاءً عملياً وحساً عاماً لا تدركهما الحواس وهما الأساس وراء الترتيب العقلاني للعالم الذي أعطى الشكل والهيئة للمادة ولولاهما لأصبحت فوضى عديمة الهيئة. إن منح العالم الطبيعي خصائص العقل المنطقى والحصيف قد تم هجره بواسطة الفيلسوف ديموقريطس الذي عاش قبل سقراط، وألهم مجموعة من المفكرين القدماء أُطلق عليهم اسم “الذريين”. وقد استمد هؤلاء الذريون مبادئهم الفلسفية من رؤية للعالم باعتباره مادياً بالكلية، خالياً من السحر والوهم، مفتقراً إلى جوهر ذهني أو روحي، ومكون على جميع المستويات من تجمعات مختلفة من الذرات التي تصطدم ببعضها البعض فيما عدا ذلك فهو فضاء فارغ. وقد اقترحت هذا الرؤية المادية الصارمة للكون بشكل ضمني أن الانتظامات الملحوظة في الطبيعة لم تكن نتيجة لنية إلهية، ولكن خصائصاً للمادة الجامدة نفسها. وقيل أن ديموقريطس: “كان يفضل أن يكتشف علاقة سببية واحدة بدلاً من الفوز بعرش فارس.”

ابيقور

ابيقور

كان الفيلسوف الهلنستي أبيقور أحد أتباع ديموقراطيس. كان أبيقور فيلسوفاً أخلاقياً علَّم أن جميع الأفعال يجب أن تحكم بقاعدة بسيطة: تصرف لكي تحافظ على أعلى مستويات المتعة واللذة في شخصك والمجتمع والتي تتوافق مع تجنب الألم. ولقد تصور الأبيقوريـين الأخلاق – مثلهم مثل معاصريهم ومنافسيهم الأخلاقيـين: الرواقيـين- قائمة بشكل أساسي على مبادئ طبيعية: فقد علمت كلتا المدرستيْن، برغم اختلاف الطريقة، بأن الحياة الإنسانية الصالحة تتبع من استخدام العقل للعيش في إنسجام مع – بدلاً من خصومة – المبادئ السببية التي تحكم الطبيعة والأفعال البشرية. فقد قال أبيقور على سبيل المثال: “إنْ لمْ تُحِلْ كل فعل من أفعالك في كل مناسبة إلى الغاية النهائية المنصوص عليها بواسطة الطبيعة (أي مباشرة اللذة)، ولكن بدلاً من ذلك في اختيار أو تجنب غاية أخرى، فإن أفعالك لن تتوافق مع نظرياتك، وذلك لأن نظرياتك سوف تكون خاطئة.” أحد المفكرين الذريـين الآخرين هو لوكراتيس، والذي كتب أطروحة طويلة، وراقية تشبه الشعر عن المذهب الطبيعي اسمها: في طبيعة الأشياء. تعبر قصيدة لوكراتيس بأسلوب بلاغي في العديد من الفقرات عن رفعة وسناء الرؤية الطبيعية للكون: كشبكة هائلة ومنسقة من الأسباب والتي يتواضع أمامها فهم الإنسان:

”ولقد أُخِذت الذرات بضربات بطُرق عديدة، وحُملت بواسطة وزنها من الأزمنة الأزلية إلى عصرنا الحاضر. لقد اعتادت الحركة والاصطدام ببعضها بكل السبل. فكونها منتشرة فوق مساحةٍ واسعةٍ خلال زمن شاسعٍ محاولة كل نوعٍ من الإرتباط والحركة. في نهاية المطاف، هذه التي تجمعت معا أنتجت الأشياء العظيمة مثل الأرض، البحر، السماء، وأجيال الكائنات الحية.“

المصدر:

Prado, I., (2006, June). History of Naturalism. Naturalism.org. Retrieved from https://www.naturalism.org/worldview-naturalism/history-of-naturalism