إكتشاف الأمواج الثقالية، أهمية هذا الإكتشاف، كيف إكتشفها العلماء، تعريف النسبية العامة والخاصة، رياضيات هذا الإكتشاف. كل هذا في هذا المقال الهام.

منذ أيام، أعلن مرصد الأمواج الثقالية لايغو (LIGO) عن اكتشاف القرن؛ وهو اكتشاف الأمواج الثقالية (Gravitational waves) و التي تنبأ اينشتاين بوجودها قبل مائة عام…
فماهي الأمواج الثقالية؟ و كيف سيمنحنا اكتشافها رؤية جديدة للكون؟
إن اكتشاف الأمواج الثقالية يعد بمثابة تتويج لجهود دامت عقود من الزمن و التي حاول خلالها علماء الفلك رصد هذه الأمواج و لكن دون جدوى، قبل أن يتم الكشف عنها في 14 سبتمبر 2016 عن طريق جهازي تحسس الأمواج الثقالية التابعان لمرصد لايغو LIGO وهو اختصار ل Laser Interferometer Gravitational-wave Observatory، الأول يقع في واشنطن و الثاني في لويزيانا بالولايات المتحدة الأمريكية. و تعتمد عملية رصد هذه الموجات على تقنية التداخل الليزري “Laser Interferometry”، بحيث يتم فصل شعاع ليزر (S) إلى شعاعين اثنين بواسطة مرآة نصف عاكسة (M) و إرسالهما بشكل متعامد بالنسبة لكل منهما، فإذا قطع هذين الشعاعين مسافة متساوية، ثم انعكسا عن المرآة (M1) و المرآة (M2) و عادا مرة أخرى إلى المرآة النصف عاكسة ثم إلى الكاشف (D) فإن الموجات التي يتكوناًن منها شعاعي الليزر يجب أن تكون متوافقة عند عودتها. لكن عند مرور موجة ثقالية على شعاعي الليزر فإن الطول الموجي لكل شعاع سوف يتغير بمقدار صغير جدا (أصغر من نواة الذرة ب1000 مرة) وهو ما سينتج عنه اختلاف المسافة التي يقطعها أحد الشعاعين عن الآخر، و عندما يصل الشعاعين إلى الكاشف سيستطيع العلماء رصد هذا الإختلاف… و لذلك يقوم مرصد لايغو LIGO بتصفية كل مصادر الاهتزازات الارضية الناجمة عن حركة القطارات و السيارات و الزلازل إلخ…
و الآن و للمرة الأولى تمكن العلماء المنظمون إلى التعاون العلمي لمشروع لايغو و بمساهمة بارزة من باحثي معهد MIT و جامعة كاليفورنيا للتقنية Caltech و كذلك مرصد VIRGO الأوروبي… من رصد اهتزازات الأمواج التقالية “بشكل مباشر” و تحديد مصدرها، فوفقا لحساباتهم فإن هذه الأمواج الثقالية نتجت عن اصطدام ثقبين أسودين فائقي الكتلة منذ 1,3 مليار سنة، تبلغ كتلتهما على التوالي 29 و 36 مرة كتلة الشمس! و النتيجة ثقب أسود فائق الكتلة : 62 مرة كتلة الشمس و ليس 65 مرة ! لأن الكتلة المتبقية ل GW152914، كما تمت تسميته، و التي تبلغ 3 مرات كتلة الشمس قد تم تحويلها إلى طاقة ثقالية (Gravitational binding energy) في شكل أمواج ثقالية تنتقل بسرعة الضوء…
منذ مئة عام من الآن تنبأ اينشتاين من خلال النسبية العامة بوجود الأمواج الثقالية، و لكن قبل أن نتحدث عن مفوم هذه الأمواج، دعنا نلقي نظرة عن “نسبية اينشتاين”
*** النظرية النسبية:
نشر اينشتاين نظريتين حول النسبية : النسبية الخاصة في عام 1905 و النسبية العامة عام 1915. تقول النسبية الخاصة بأن سرعة الضوء ثابتة بينما المكان و الزمان نسبيان، و هما يشكلان كيانا واحدا رباعي الأبعاد، و الذي أطلق عليه أستاذ اينشتاين “هيرمان مينكوفسكي Hermann Minkowski” اسم “الزمكان (Space-Time)”.
قد يبدو لنا من الوهلة الأولى أن طول الأشياء و مرور الزمن أشياء ثابتة لا تتغير: فكرة قيس قطرها 10 صم سيظل قطرها دائما 10 صم، و مقدار 1 ساعة سيمر دائما بنفس المعدل. و لكن هذا ليس صحيحا حسب النسبية الخاصة ! و ليست هذه هي الطريقة التي تعمل وفقها الطبيعة ! فقيس قطر الكرة ذات 10 صم و معدل سير الوقت يعتمد على سرعة الكرة، فلو كانت تسير بسرعة الضوء (أي ما يقرب 300000 كم/ثانية) فإن الزمن سيصبح صفرا بالنسبة لها بينما سيتمدد طولها و كذلك كتلتها إلى ما لانهاية ! و في هذا السياق عرض اينشتاين مبدأ تكافؤ الكتلة و الطاقة (E=mc²). هذا المبدأ أدى إلى العديد من التقنيات الحديثة التي نعتمد عليها اليوم كالطاقة النووية و مهدت لاختراع أجهزة الكمبيوتر… و قد تم التحقق تجريبيا من النسبية الخاصة عديد المرات حتى أصبحت الآن جزءا من حياتنا اليومية.
مع ظهور النسبية العامة سنة 1915, أخذ اينشتاين مبادئ النسبية الخاصة و أضاف إليها الجاذبية، فقام بتفسير الجاذبية على أنها عبارة عن انحناءات في الزمكان، فعند غياب المادة فإن فضاء الزمكان سيكون مستو أي أن درجة الإنحناء تساوي صفرا. أما عند وجود جسم مادي (كالشمس مثلا) فإن هذا الأخير سيسبب تقعرا و انحناءا في الفضاء فيجعل الأرض أسيرة في مدار لأنها توجد في وسط ذلك التقعر و بذلك تكون هذه الفكرة هي الفكرة الجديدة لكيفية عمل الجاذبية…
رياضيا، النسبية العامة معقدة بشكل كبير (على الأقل بالنسبة للباحثين التجريبيين)، و لذلك لازلنا نعتمد إلى يومنا هذا على معادلات نيوتن لحساب العديد من الأشياء كحركة الأقمار الصناعية أو كواكب المجموعة الشمسية لأن معادلات النسبية العامة هي أكثر صعوبة في التعامل من نظرية نيوتن… لكن لا بديل عن نظرية اينشتاين إذا تعلق الأمر بنمذجة الأجسام الفائقة الكتلة كالثقوب السوداء أو نمذجة شكل مدار كوكب عطارد أو أو تقلص الزمن (Time contraction) أو انحناء الضوء… كل هذا تم التحقق من صحته تجريبيا بشكل دقيق.
*** ماهي الأمواج الثقالية ؟
هي عبارة عن تموجات في الفضاء الزمكاني تنشأ عن طريق الأحداث الكونية العنيفة كانهيار النجوم و الأنظمة الثنائية (Binary systems) للنجوم النيوترونية أو الثقوب السوداء فائقة الكتلة المندمجة، أو الأقزام البيضاء. و تصدر أيضا عن الإنفجار العظيم… فتنتشر بسرعة تعادل سرعة الضوء مسببة اهتزازات في الزمكان. إذن مثلما تنشأ الأمواج الكهرومغناطيسية عن طريق شحنات متسارعة و بذلك تولد ذبذبات في المجال الكهرومغناطيسي، فالأمواج الثقالية أيضا تنشأ عن طريق الكتل المتسارعة و بذلك تولد ذبذبات في الزمكان.
رياضيا، تفطن اينشتاين إلى وجود الموجات الثقالية عن طريق جعل معادلته الغير خطية (non-linear equation) خطية (linear equation). الهدف من ذلك هو إيجاد نوعية الحل للمعادلة حسب شكلها الرياضي (يمكن أن تكون حل لمعادلة موجية، أو نقطية إلخ…) و تكتب معادلة اينشتاين كماهو موضح بالشكل (3).
بحيث :
Rμv : هو موتر ريتشي (Ricci tensor) و نعبر به عن انحناء الزمكان.
R : هو الكمية القياسية (scalar) لذلك الانحناء
gμv : هو الموتر المتري (metric tensor) و نستخدمه في قيس الأطول و الزوايا في فضاء رباعي الأبعاد.
Tμv : هو موتر الطاقة-العزم الحركي (Stress-energy tensor) و نعبر به عن توزع الطاقة و حركة المادة في الزمكان.
G : هو ثابت الجاذبية الكوني
c : هي سرعة الضوء في الفراغ
لاحظ اينشتاين إمكانية وجود حل للمعادلة إذا كان توزع الطاقة و حركة المادة كبيرا أي أن كتلة الجسم كبيرة جدا مع المحافظة على كمية الحركة (momentum) و هذا غالبا ما يحدث مع الأنظمة الثنائية.
عند جعل المعادلة خطية، هذا يعني أن الزمكان تقريبا من دون انحناء مع الحفاظ على قيمة صغيرة جدا تعبر عن اضطراب ضئيل في الزمكان و هي hμv << 1 و لذلك قام اينشتاين بإهمال كل القيم الأكبر من hμv (بما فيها Tμv) لإيجاد حل المعادلة (لأن حل المعادلة باعتباره قيمة صغيرة جدا لا يقارن بالكتلة المتسارعة و الطاقة العالية لذلك نقوم بحسابها دون اعتبار القيم الأكبر منها بكثير) و ستصبح معادلة اينشتاين على الشكل الآتي (أنظر المعادلة 3.1)
الآن سنعتبر أن Tμv=0 أي أن المادة و الطاقة غير موجودين في الزمكان و هنا سنتحصل على حل المعادلة كما هو موضح بالشكل 3.2. و من الواضح أنه حل لمعادلة موجية أي أن الاضطراب الضئيل في الزمكان (hμv) الذي نبحث عنه هو اضطراب على شكل أمواج ثقالية… و حين نعتبر أن c=1 (الهدف هو حساب سرعة تنقل الموجة الثقالية بالنسبة إلى سرعة الضوء) سنلاحظ أن سرعة الموجة هي : ω²=1 أي أن ω²=c² أي أن الأمواج الثقالية تنتقل بسرعة الضوء!
ملاحظة : لو لم تكن الأمواج الثقالية موجودة لوجدنا أن hμv=0.
العظيم في هذا الأمر لا يكمن فقط في عبقرية اينشتاين في توصله لحل المعادلة و لكن في كيفية أن يحدث مجرد حل لمعادلة رياضية ثورة علمية في تاريخ البشرية ! إن أجمل ما في الرياضيات أنها لا تتناقض مع نفسها، و الأجمل من ذلك أنها تتجسد بكائنات لها جمال و أناقة تعبر عن حقيقة ثابتة.
*** أول المؤشرات على وجود الموجات الثقالية:
ورد أول دليل غير مباشر على وجود الأمواج الثقالية في العام 1974 عندما رصد راسل هالس (Russel Hulse) و أستاذه جوزيف تايلر (Joseph Taylor) زوج من النجوم النابضة (pulsars) أي نجوم نيوترونية تدور حول نفسها بسرعة مهولة مصدرة موجات راديوية و اشعاعات بصفة منتظمة. قام العالمان برصد الموجات الراديوية و قد لاحظا تغيرات في الطول الموجي لهذه الموجات أي أن النجمين يقتربان من بعضهما أكثر فأكثر و يفقدان الكثير من الطاقة، و هذا يتناسب تماما مع ما تنبأ به اينشتاين حول الأمواج الثقالية مما مكن ذلك العالمين من نيل جائزة نوبل للفيزياء عام 1993. و كان ذلك يعد بمثابة اكتشاف غير مباشر لهذه الأمواج، حتى تمكن أخيرا مرصد لايغو LIGO من تأكيد وجودها و رصدها مباشرة كما أشرنا في بداية المقال.
*** أمواج ثقالية أم أمواج جاذبية؟
لقد شاع في بعض وسائل الإعلام و في مواقع التواصل الإجتماعي استخدام عبارة “أمواج الجاذبية” (Gravity waves) في إشارة للأمواج الثقالية (Gravitational waves) ، و هذا خطأ فادح! فلا يجب الخلط بينهما و ذلك لأن أمواج الجاذبية ليس لها أي صلة بالأمواج الثقالية و لا تستخدم في الفيزياء الفلكية بل في ميكانيكا الموائع (Fluid mechanics) و هي موجات تنشأ في الموائع أو في التماس وسطين (على سبيل المثال : الهواء و الماء)، فعندما يجد وسط مائع (الغلاف الجوي) حاجزا أمامه (المحيط) سيحدث هذا الأخير اضطرابا في تدفق الهواء و الذي سيؤدي بدوره إلى اضطراب في سطح المحيط فتتولد موجات جاذبية. أما الأمواج الثقالية فهي تحدث، كما قلنا، عن طريق الكتل الفائقة المتسارعة في الفضاء السحيق فتولد تموجات في الزمكان…
*** أهمية الإكتشاف:
مثل اكتشاف الأمواج الثقالية علامة لا تتوج عقودا من البحث فحسب، بل انها تفتح نافذة جديدة للنظر في الكون و تمهد لميدان علمي جديد في علم الفلك، فبعد أن كانت البشرية تنظر إلى السماء بواسطة المناظير و المراصد الفلكية عبر الضوء المرئي فقط ثم طورت أجهزتها لتتمكن من النظر إلى السماء عبر الضوء الغير المرئي بفضل النظرية الكهرومغناطيسية، هاهي تجد نفسها الآن أمام تحد جديد و هو التعرف إلى أسرار الكون عبر الموجات الثقالية. هذه الأخيرة لا تتأثر بمحيطها خلال سفرها عبر الكون و لا تتفاعل مع المواد التي تمر بها و هذا سيمكننا من التعرف بعمق إلى البنية الداخلية للنجوم و عدة ضواهر فلكية كالإنهيار الجاذبي للنجم (Gravitational collapse)، و ربما سنستطيع حل أكثر الألغاز غموضا كالثقوب السوداء أو المادة المظلمة (Dark matter) و الطاقة المظلمة (Dark energy) و كل ما لا نعرفه حول الإنفجار العظيم…
لكن البشرية تحتاج لتحقيق كل هذا إلى تطوير وسائلها التقنية حتى تستطيع مجابهة التحديات القادمة. حتى ذلك الوقت، ستبدأ الأجسام الغامضة التي تملأ الكون بإعطائنا أول أسرارها!

إعداد: وائل جمني

12744657_1104974929535754_2171438449759545920_n