في بداية الألفية الجارية قام رئيس جمهورية جنوب أفريقيا الأسبق تابو إيمبيكي (Thabo Mbeki) بجمع عدد من الخبراء المحليين والأجانب حول فعالية أدوية مرض الآيدز (Aids)، آل ذلك إلى رفض الحكومة لاستخدام المضادات الفيروسية (antiretrovirals) للقضاء على فيروس الآيدز حيث إن ما توصل إليه هؤلاء “الخبراء” هو أن مرض الآيدز ليس مرضًا فيروسيًا يسببه فيروس الHIV، ولكنه ضعف مناعي نتيجة سوء التغذية والفقر وأسباب اجتماعية واقتصادية أخرى، فبدلًا من تقديم العلاج المناسب للمرضى، اتخذت الدولة سياسات أخرى لحل ما يرونه السبب الرئيسي للمرض، كانت نتائج ذلك كارثية، رغم أن في ذلك الوقت كانت نسبة %18.8 من البالغين في البلاد مصابون بمرض الآيدز، فإن سياسات التابو أدت إلى وفاة 380,000  فرد وولادة 35,000  طفل مصابين بمرض الآيدز نقلًا عن الأبوين حسب ما قدره باحثون من جامعة هارفارد مقارنين بين جنوب أفريقيا والدول الأفريقية الأخرى التي تبنت سياسات سليمة في مجابهة هذا الداء.

تعد تلك السياسات مثالًا واضحًا على إصرار مجموعة من الأفراد – بشكل كارثي في هذه الحالة – على عكس ما يتفق عليه العلماء المختصين في هذا المجال، حاولوا تبرير نكرانهم للإجماع العلمي عن طريقة دعوة عدد من الخبراء، ولكنهم لم يكونوا أي خبراء، ممن دعاهم الرئيس الأسبق تابو إيمبيكي كان العالم من جامعة كاليفورنيا بيتر ديوسبرج (Peter Duesberg) المشهور برفضه لحقيقة كون مرض الآيدز مرضًا فيروسيًا وممن تأثر بهم الرئيس تابو في ذلك الوقت، فمجموعة الخبراء التي أصدرت هذا القرار لم تكن ممثلة لما يتفق عليه العلماء لإنها منتقاة بحيث تناسب آراءها ما يعتقده صانعو القرار، ولا يتوقف إنكار العلوم على الحكومات فقط، ولا على مرض الأيدز فقط، ولكنه يتخلل أيضًا الرأي العام، مثل إنكار فوائد التلقيح وربطها بمرض التوحد مما  جعل أقل من 50% فقط من الأطفال في مدينة لندن متحصنين ضد مرض الحصبة عام 2008. فيما تم تقدير أن 45% من المواطنين في الولايات المتحدة الأمريكية يرفضون نظرية التطور، وفي مصر كان 11% فقط يصدقون بها عام  2009 مما يجعله عائقًا أمام تدريسها رغم رسوخها في علوم الأحياء، ولا تختلف النسب كثيرًا عن ذلك في الكثير من الدول العربية الأخرى.

كما رأينا تحمل قضايا إنكار العلوم أهمية كبرى في السياسات الدولية والرأي العام لما يتبعها من قرارات وثقافات، فيجب علينا الآن معرفة ما هو إنكار العلوم فعليًا حتى لا نخلط بينه وبين الدعاوي الصادقة للنقد وإعادة النظر التي -عكس الإنكار غير القائم على أدلة- يدفع العلم للأمام، عرف الأخوان  كريس و مارك هوفناجل – محامي وطبيب على الترتيب- عملية إنكار العلوم على أنها تقديم مجموعة من الأدوات البلاغية على أنها حجة سليمة لإنكار الإجماع العلمي على موضوع ما، ذلك يتضح في مثال حكومة جنوب أفريقيا، فهم استعانوا بخبراء ليشاوروهم، وتبدو تلك خطوة سليمة لصناعة القرار، ولكنهم اختصوا عددًا من المتخصصين غير الممثلين للأجماع العلمي وممن شذت آراؤهم نحو آراء غير مثبتة، واعتمدوا عليهم فقط في صناعة هذه القرارات.

واختصاص الخبراء ذوي الآراء الشاذة – أو الخبراء المزيفين- إنما هو العنصر الأول من خمسة عناصر يتشاركها منكري العلوم عند عرض آراءهم، يأتي ثانيهم عند الميل إلى تفسير الإجماع العلمي بنظرية مؤامرة كبرى، فلا يفسرون هذا الإجماع باتفاق العلماء بعد بحث و مراجعة شديدتين لهذا الموضوع، ولكن لتواطؤ هؤلاء العلماء على دفع العلم عكس الحقيقة لتحقيق مصالح شخصية أو أيدولوجية لهم، ولا تكون عملية المراجعة لفحص الأبحاث وتمييز الغث من السمين، ولكن لتكون طرفًا أيضًا من هذه المؤامرة.

والعنصر الثالث هو أن يشترط منكرو العلوم على العلم متطلبات تفوق قدرته ليصدقوه، فنجد البعض ينكر التغير المناخي لعدم قدرتنا على معرفة درجات الحرارة قبل اختراع المحرار (thermometer) ولغياب اليقين من النماذج الرياضية المستخدمة في الإجابة على الأسئلة المناخية، في الحقيقة أن ما توصلت إليه الوسائل الحالية إنما هو إثبات قاطع لحقيقة التغير المناخي ولعدم وجود احتمالات أخرى، فهم متناسين أن هذه النماذج وهذه الأجهزة هما أقصى ما تستطيع المعرفة البشرية الوصول إليه، وأن تطالب بما يتعداها شرط غير معقول، فضلاً عن أن ما توصلت له مقبول وفق المنهج العلمي وأن ما يزعمه معارضوها يقع بالضد من ذلك.

يأتي العنصر الرابع متصلًا بأزمة جنوب أفريقيا التي ذكرناها عند اختصاص الخبراء المزيفين، فقد يلجأ ناكرو العلوم إلى أبحاث منفردة تتحدى الرؤية السائدة للعلم في هذا الموضوع، ليدعموا آراءهم بواسطتها، لعل أشهر مثال على ذلك هو مثال ورقة علمية للباحث أندرو ويكفيلد (Andrew Wakefield)  التي أوضحت علاقة بين لقاح الحصبة ومرض التوحد، ورغم كل الأدلة على سلامة اللقاح إلا أن ذلك كان له آثارًا كارثية على الرأي العام و على صحة المواطنين في بريطانيا وعودة وباء الحصبة إلى هناك، فقط ليتضح في النهاية  عدم سلامة ذلك البحث ذاته وتعرض الباحث للمساءلة القانونية فيما بعد.

وأخيرًا يأتي العنصر الخامس، ألا وهو اللجوء إلى الأخطاء المنطقية (Logical fallacies)، فطالما وصمت شركات التبغ الداعين لوقف التدخين وأسمتهم بالنازيين، وذلك لأن هتلر أيد بعض الحملات ضد التدخين في زمانه، ورغم أن هذا الادعاء لا يحمل أي دليل على سلامة التدخين من عدمه، ألا أنه مستخدم لوضع معارضي التدخين في رداء المخطئ من خلال تشبيههم بهتلر، ويوجد العديد من الأخطاء المنطقية الأخرى التي لا يسعنا ذكرها في هذا المقال.

نستنبط من كثرة الأمثلة المذكورة أن إنكار العلوم لم يعد ظاهرة منفردة تغطيها الصحف من حين لآخر، ولكنه متوغل بيننا، ويحمل آثارًا سيئة على شتي جوانب المجتمع، مما لا يدع خيارًا أمام العلماء والباحثين إلا ترك قلعتهم ودخولهم المنصات المختلفة (من الانترنت والتلفاز والصحف وغيرها) لتوفير المعلومات الصحيحة ونقل الرأي المستقر عليه بين العلماء إلى العامة، والرد على ادعاءات ناكري العلوم المختلفة لمنع تأثيرها الكارثي، يقدم داعمو العلم والعلماء في هذه النقاشات نوعين من البراهين لمجابهة إنكار العلم و مجابهة تأثيره على الجماهير من الناس: يشتمل النوع الأول على إظهار المغالطات المنطقية والعناصر المختلفة التي ذكرناها في حجة منكر العلم وإبرازها، والنوع الآخر يشمل الرد على الأكاذيب بالحقائق، فإذا أخبرنا أحداً عن ارتباط لقاحات الأمراض المختلفة بالتوحد فعلينا أن نخبره عن كفاءة هذه اللقاحات والدراسات التي أجريت على أعداد كبيرة من الناس والتي تفيد بسلامة هذه اللقاحات، ولكن أي من هذين الطريقين أفضل؟ وإن كان هذا خط الدفاع الأول فهل هي الطريقة الأمثل لمواجهة ظاهرة إنكار العلم؟ فالجماهير قد يحملون تعصبًا او ارتباطًا برأيهم حول هذه الأمور نتيجة لمعتقدات أو ايدلوجيات  أو مصالح خاصة لهم، ولربما محاولة تقديم الأدلة السليمة يجعلهم أكثر إضرابًا عن العلم وأكثر تصديقًا بآراءهم غير السليمة في هذه الحالة، وذلك هو عكس ما أراده داعم العلم في الأساس، فهل يجب أن يتخلى كليًا عن منصته، تاركًا أبواق ناكري العلوم وحدها؟

ليجيب عن هذا التساؤل جاء بحث في مجلة نيتشر العلمية (Nature) شهر يونيو الماضي أقامه الباحثين الألمانيين فيليب شميد (Philipp Schmid)  وكورنيليا بيتش (Conrnelia Betsch) على 1770 فردًا في ألمانيا والولايات المتحدة، قسموا المشاركين إلى 6 مجموعات، وعلى كل مجموعة قاسوا مدى قبول للأفراد للمساهمة في قضايا مثل التطعيم والاحتباس الحراري قبل وبعد عرض نص ينكر العلوم، وفي بعض المجموعات قاسوا تأثير وجود ما يؤيد العلم على هذه المجموعات، فمرة ذكر المؤيد الحقائق التي توصل والتي تفيد بحقيقة الاحتباس الحراري وسلامة اللقاحات، ومرة اعتمد المؤيد فقط على إظهار الأساليب غير السليمة في حجة المنكر – مثل التي ذكرناها بالأعلى، ومرة كان خليطًا بين الاثنين، قاست التجربة مدى تأثير مؤيد العلم وناكر العلم على الأفراد الذي يستند نكرانهم للعلم إلى معتقدتاهم و ايدلوجياتهم السياسية المسبقة، وقاسوا تأثيرهما على هؤلاء الذين لا يحملون آراء شاذة عن العلم.

جاءت النتائج داعية للتفاؤل، فرغم أن تأثير ناكر العلوم على ال6 مجموعات كان سلبيًا (أي احبطهم عن المساهمة في إجراءات ضد الاحتباس الحراري مثلًا)، ورغم أن أثرهم كان أكبر على الأفراد غير المصدقين للعلم من الأساس، إلا أن دور مؤيد العلم جاء ثمينًا في مواجهة هذا التأثير، وجاء دوره أكبر على الجماهير غير المصدقة للعلم ممن الأساس، معاكسًا لدور ناكر العلوم، وذلك يجيب على إحدى مخاوفنا التي طرحناها، فرغم توقعنا أن الجماهير الأكثر بعدًا عن العلم ستكون أقل تأثرًا بمؤيدي العلم، إلا أن نتائج هذه الدراسة تفيد العكس، كان دور مؤيدي العلوم أعظم خاصة لهؤلاء الجماهير الأكثر عرضة للمعلومات المغلوطة، وأوضحت المقارنة بين المجموعات أنه لا يوجد اختلاف بين أساليب تأييد العلوم المختلفة، سواء اعتمدت على الحقائق أم على عرض نقاط ضعف حجة الخصم أم على خليط منهما، فكلها تؤدي إلى نفس الدرجة من التأثير، وفي كل الحالات -رغم أن التأثير الكلي كان سلبيًا- فإن دور مؤيد العلم لا يمكن إهماله في مواجهة ظاهرة إنكار العلم تلك، مما يؤكد أهمية نشر المعلومات الصحيحة و مجابهة الخاطئة وعدم الإذعان لها مهما كان الجمهور صعبًا.

من نتائج هذه الدراسة أن التأثير العام لإنكار العلم سلبيٌ رغم جهود مؤيدي العلوم، مما يدعونا للبحث عن حلول أخرى للحد من هذه الظاهرة، وتأتي هذه النتائج في صورة تثقيف وتوعية الفئة من الناس الأكثر عرضة لمثل هذه الادعاءات، وذلك من خلال إعطاءهم المعلومات الصحيحة وتعليمهم تمييز الادعاءات الغثة غير المدعومة بأدلة بالمعلومات السليمة، وتدعيمهم بوسائل تمكنهم من الرد  على ادعاءات ناكري العلوم الخاطئة حين يتعرضون لها، ولكن ذلك لا يمنع الدور الهام لمؤيدين العلوم في المناظرات العامة و المنصات المختلفة ضد ناكري العلوم، فهي خطوة في صد هذه الادعاءات، ولعل تساوي أساليب تأييد العلم المختلفة بين ذكر الحقائق السليمة أو إبراز نقاط الضعف في حجة الخصم يجعل المجال مفتوحًا لعددٍ أكبر من الناس من التخصصات المختلفة، فكل متخصص يستطيع أن يرد على الأخطاء في مجاله بالمعلومات الصحيحة التي يجمع عليها العلماء، ولكن الكل يستطيع فهم ادعاءات ناكري العلوم والرد عليها نتيجة لاشتراكها جميعها في بعض أو كل نقاط الضعف الخمسة التي ذكرناها سابقًا، وقد أوضحنا كيف يمكن لمثل هذه الأفكار أن تؤدي لسياسات خربة وأفكار تهدد أرواح الناس، فيجب على كل مختص وكل عارف أن لا يتراجع في حماية تخصصه، فكل له أثر.

 

المصادر:

  • Chigwedere, P., Seage, G. R., Gruskin, S., Lee, T.-H. & Essex, M. Estimating the lost benefts of antiretroviral drug use in South Africa. J. Acquir. Immune Syndr. 49, 410–415 (2008).
  • Sarah Boselely, “Mbeki Aids Denial Caused 300,000 Death”, The Guardian, https://www.theguardian.com/world/2008/nov/26/aids-south-africa
  • محمد الحمامصي، المؤمنون بنظرية التطور في مصر ل يتعدى 11% فقط، إيلاف، https://elaph.com/Web/Culture/2009/2/413172.html
  • Diethelm, P. & McKee, M. Denialism: what is it and how should scientists respond? Eur. J. Public Health 19, 2–4 (2009)
  • Philipp Schmidd & Cornelia Betsch; “Effective strategies for rebutting science denialism in public discussions”; Nature Human Behavior; https://doi.org/10.1038/s41562-019-0632-4