لا يزال الكثير من الناس يتعرضون للخداع بتصديقهم أن العلم الزائف هو علم حقاً أو أنه يمثل بديلاً يمكن الإعتماد عليه، فهم لا يستطيعون التفرقة بين الخبرة الأصيلة وتلك المزيفة، ولا يستطيعون التمييز بين المصادر الموثوقة لتلقي المعلومات وتلك غير الموثوقة. لكن لماذا يتعرض الناس للخداع بمثل هذه السهولة ؟ مع أننا نعلم أن العقل البشري لديه آليات مختلفة للتحقق من المعلومات القادمة إليه، ونعلم أيضاً أن البشر يُمكنهم القيام بسلسلة من الاستدلالات للتمييز بين المعلومات الحقيقية والمزيفة، لكن يبدو أن هذه الآليات والاستدلالات ما زالت غير كافية لوقف ما يُعرف بالعلم الزائف.

تبحث هذه الدراسة في أسباب كون بعض هذه المعتقدات الزائفة مثل الخلقية والتداوي بالأعشاب والتنجيم وغيرها لها مثل هذا الانتشار والتجذر، ولماذا تسعى دائماً للتزين بثوب العلم أو التظاهر بكونها على قدم المُساواة معه. تُركز الدراسة هنا على العلوم الزائفة المعروفة كالإعتقاد بالخلقية والتنجيم على سبيل المثال، لكنها تتناول أيضاً المعتقدات غير المنطقية التي تُحاكي العلم فقط في بعض الأحيان. فئة العلم الزائف تتشارك نفس العائلة مع أشياء أخرى مثل عدم التصديق بالعلم، الشعوذة، نظريات المؤامرة والعلوم التافهة.

تركز هذه الدراسة على المعتقدات القائمة على العلم الزائف وذلك بوصفها كيانات قائمة بذاتها نسبياً، وتركز أيضاً على العوامل التي أدت لتشكلها وانتشارها. مثل هذا التناول للتطور الثقافي من ناحية المعتقدات له ميزتان:

  • أولا، أنه سيوضح أن تحول المعتقدات غير المنطقية إلى علم زائف لا يحتاج أي فطنة أو ذكاء لدى هؤلاء العلماء المُزيفين.
  • ثانيا، سيمكننا من وضع يدنا على الأسباب الحقيقية لانتشار مثل هذه المعتقدات.

يمكن لمثل هذه المعتقدات أن تتوافق جزئياً مع اهتمامات الناس المؤمنين بها لكن هذا لا يحدث دائماً، ففي بعض الأحيان تنتشر هذه المعتقدات الزائفة بالرغم من تعارضها مع مصالحنا حتى أنها يمكن أن تكون مُضرة لهذه (المصالح) أحياناً (كأن يقوم مثلاً أحد المؤمنين بالتداوي بالأعشاب بالسفر إلى منطقة موبوءة بالملاريا بدون أي دواء وقائي سوى ذلك المصنوع من الأعشاب). لهذا السبب بالتحديد نرجع السبب في التقليد الثقافي إلى المُعتقدات نفسها وليس الأشخاص المؤمنين بهذه المُعتقدات.

تتناول الدراسة المحاكاة الثقافية للعلم كالآتي: أولاً إلقاء نظرة على ما يُعرف باليقظة المعرفية والذي ينص على أن عقولنا لديها من الآليات ما يُمكنها من تقييم المعلومات القادمة إليها. ثانيا، التمييز بين الخبراء وغير الخبراء اعتماداً على تحليل جولدمان عام 2001 وكيفية تطبيق ذلك على العلم الزائف. ثالثا، مناقشة العوامل التي تجعل من محاكاة العلم أمراً مربحاً. تختم الدراسة بمناقشة كيفية تطبيق فهمنا لواقع التطور الثقافي لما يُعرف بالعلم الزائف.

اليقظة المعرفية

يعتمد البشر في معرفتهم على التواصل ببعضهم البعض، غير أن مثل هذا الإعتماد على التواصل يجعلنا مُعرضين أكثر لتلقي معلومات خاطئة من الآخرين إما بشكل متعمد أو بالصدفة. لذا فقد حبانا التطور بآليات تُمكننا من تقييم المعلومات التي نتلقاها من الآخرين. في ورقة بحثية لامعة لسبيربر (Sperber) وزملائه، اُطلق على هذه الآلية مصطلح اليقظة المعرفية. مثل هذه اليقظة تكون موجهة نحو كلاً من الشخص الناقل للمعلومة (المصدر) والمعلومة نفسها (المحتوى). بالنسبة للمصدر، نعتمد في تقييمنا له أساساً على سمتين رئيسيتين هما الأمانة والأهلية، وبالنسبة للمُحتوي، يتم تقييمه من ناحية الإتساق والتماسك. المُثير للدهشة أنه في الأطفال، تتشكل القدرة على اليقظة المعرفية جنباً إلى جنب مع تشكل قدرتهم على التعاون مع الآخرين، فيبدو أن آليات تقييم مصادر المعلومات هي جزء متأصل في الإدراك الطبيعي لدى الإنسان.

لا يكتفي البشر أيضاً بالتدقيق في المصدر بل بالمحتوى أيضاً. في بعض الأحيان يكون المحتوى إما خطأً أو صواباً من النظرة الأولى للشخص لكن هذه ليست القاعدة، فبالنسبة لأغلب المعلومات الجديدة التي يتلقاها الشخص، فإنه يقوم بمُراجعتها طبقاً لمعتقداته الخاصة. إذا لم تتوافق المعلومة الجديدة مع مُعتقده، فإنه إما أن ينبذ مصدر المعلومة أو يُراجع معتقداته للتحقق من صحتها، ويعتمد اتخاذ القرار هنا على مدى ثقة الشخص في المصدر ومدى قوة إيمانه بمُعتقداته الخاصة. يدل ذلك على أن الناس ليسوا مجرد مُستقبل ساذج لأي معلومة يتلقونها بل يقومون بتحليل كل معلومة طبقاً للمصدر ومصداقية المعلومة نفسها.

رغم ذلك، بالنسبة للعلم والعلم الزائف فإن الأمور تُصبح أكثر تعقيداً، فالمُعتقدات العلمية غالباً ما تكون صعبة الفهم للناس العاديين وهذا يجعل من عملية تقييم المعلومة أمراً مُستحيلاً. لذا يلجأ الناس لقبول أو رفض الحقائق العلمية مُعتمدين فقط على الثقة، لكن حتى مع عدم إمكانية تقييم المحتوى، فبوسع الشخص أن يظل يقظاً معرفياً وذلك عن طريق التمييز بين الخبراء الحقيقيين والمُزيفين.

تمييز الخبراء من غير الخبراء

يعتقد جولدمان بأن المبتدئين الذين ليس لديهم معرفة بمجال ما بإمكانهم التمييز بين الخبراء وغير الخبراء في مجال ما عن طريق خمسة طرق.

  • أولا، بإمكان الشخص الإطلاع على المناقشات المختلفة بين الخبراء في مجال ما، حيث يمكن تمييز الخبير في هذا المجال عن طريق تميزه في الجدال وقدرته على دحض نظريات مُعارضيه بالدليل القاطع.
  • ثانياً، بإمكان المبتدئ أن يطلع على مدى تأييد الخبراء في مجال ما لاقتراحات هذا الخبير (المزعوم).
  • ثالثاً، بإمكان المبتدئين التمييز بين الخبير وغير الخبير عن طريق الخبرة الكلية لهذا الشخص كالشهادات التي حصل عليها وتجربته في العمل.
  • رابعا، يمكن للمبتدئ البحث عن أي انحيازات أو مصالح شخصية يمكنها أن تؤثر على حكم هذا الخبير.
  • خامسا، الإطلاع على سجل هذا الخبير وآرائه السابقة، فكلما كان مُحقاً في الماضي، كلما كان الاحتمال أكبر أن يكون محقاً مجدداً في المستقبل.

لماذا العلم الزائف

الآليات والاستدلالات المُعرضة للخطأ

آلياتنا لليقظة المعرفية ربما تكون مُناسبة في حالات التواصل وجهاً لوجه، ولكنها تصبح غير كافية في حالات المعلومات الثقافية التي تنتشر على مستوى شعبي. في هذه الحالة، فإن المعتقدات التي تتوافق مع بديهياتنا تكون أكثر قابلية للانتشار من غيرها. تستغل المعتقدات العلمية الزائفة هذا الأمر، فعلى سبيل المثال، يستغل الخلقيون ميولنا الجوهرية والغائية لنشر أفكارهم، ولهذا السبب فإن معتقداتهم تصبح أكثر قابلية للتناول والتذكر وهذا ما يؤهلها لاحقاً لتنتشر وتحقق بعض الشعبية.

استغلال اليقظة المعرفية

يمتلك العلم سلطة معرفية كبيرة في المجتمع، ويرجع ذلك لفضله في تغيير حياة الناس للأفضل عن طريق التطبيقات التكنولوجية العديدة للعلم، وأيضاً بسبب التوقعات الصحيحة للعلم كالكسوف الشمسي مثلاً. لكن بسبب أن الناس لا يعلمون سبب هذه السلطة المُتوفرة للعلم، فإن المعتقدات غير المنطقية تستغل ذلك للترويج لنفسها. حتى أبسط قدر من الخبرة العلمية ظاهرياً قد يقود الناس للاعتقاد بأنهم يتعاملون مع معلومات موثوقة، لذا سيكون من الكافي للعلم الزائف أن يستعير فقط السمات الخارجية السطحية للعلم الحقيقي لكي يحظى بهذه السلطة المتوفرة للعلم.

العلم كحجة

يستخدم العلم الزائف الجدال كوسيلة لإقناع الناس بمصداقيته، حيث يسعى هؤلاء المُروجون له إلى نشر أفكارهم في دوريات علمية لاستخدام هذا لاحقاً لإقناع الناس بأن أفكارهم تقف على قدم المساواة مع البديل العلمي المقبول، ويتباهون بشهاداتهم الأكاديمية ليُوهموا الناس بأنهم خبراء حقيقيون. مثال على ذلك، ما حدث عام 2004 حيث نشب جدال علمي عندما قام ستيفن ماير   (Stephen Meyer) مدير معهد ديسكفري (Discovery Institute) بنشر مقال في دورية مجريات المجتمع البيولوجي في واشنطن (The Proceedings of the Biological Society (of Washington، وبالطبع استخدم المعهد ذلك لاحقاً للترويج لفكرة التصميم الذكي (الخلقية). تم سحب هذه الورقة البحثية لاحقاً عندما اتضح أن المُحرر والذي اتضح أنه متعاطف مع فكرة التصميم الذكي لم يتبع الطريقة التحريرية الصحيحة عند كتابته لها. مع ذلك، مازالت هذه الورقة موجودة على الموقع الرسمي لمعهد ديسكفري كأحد الدلائل العلمية المنشورة الدالة على صحة فرضية التصميم الذكي علمياً. في هذه الحالة وغيرها، يتضح أن الادعاءات العلمية تُستخدم كحجة أو وسيلة إقناع للترويج للمعتقدات غير المنطقية (ملاحظة: يتقمص معهد ديسكفري إسماً مشابهاً لمؤسسة ديسكفري الإعلامية الضخمة وهو لا يمت لها بصلة).

الإهمال المعرفي

معظم من يؤيدون العلم لديهم فهم شديد السطحية لجوانب العلم المختلفة، وهذا أمر طبيعي نظراً لتعقيد العلم ووسائله المختلفة. لذا حتى الناس الذين لديهم أفكار معينة حول الحقائق العلمية، فإنهم يقومون بتحويل هذه الأفكار إلى شيء أكثر توافقاً مع حدسهم، ولذلك السبب يقوم الكثير من  العلماء بتبني طريقة شرح أكثر توافقاً مع هذا الحدس عند شرحهم لمواضيع علمية معينة، لكن ذلك قد يؤدي لمفاهيم مغلوطة عند الناس في بعض الأحيان. مثال على ذلك، مصطلح الجين الأناني الذي قدمه ريتشارد دوكنز (Richard Dawkins) عام 1976 أدى بالعديد من الناس إلى الاعتقاد بأن الإيثار البشري ما هو إلا أنانية لكنها بشكل مُموه، لاعتقادهم بأن لدى البشر جين معين للأنانية!. يؤدي غياب المحفزات سواء كانت مؤسسية أو تحفيزية لتصحيح مثل هذه المغالطات إلى جعل الناس جاهلين معرفياً، ويُعطي فرصة لانتشار المعتقدات غير المنطقية.

العوامل المُثبتة: الانحياز التأكيدي ومعاداة الخبرة

الانحياز التأكيدي يجعل الناس يفضلون النظريات “العلمية” التي تتوافق مع حدسهم ومعتقداتهم، فعندما يشعر الناس أن عليهم تبرير مثل هذه المعتقدات فإنهم يلجأون للبحث عن المناظرات والمصادر التي تدعم هذه المعتقدات بدلاً من القبول بالمعلومات الجديدة التي تنفي صحة هذا المعتقد.

العامل الآخر هو مُعاداة الخبرة أي عدم الوثوق بالخبراء المعروفين إذا لم تتوافق آراؤهم مع معتقداتنا. بعض المؤمنين بالمعتقدات غير المنطقية يرتدون عباءة العلم، بينما يدعي البعض الأخر أن معتقداتهم تنشأ من “مصادر أخرى للمعرفة” وأن هذه المصادر أكثر مصداقية من العلم. في بعض الأحيان يستخدم هؤلاء كلا الاستراتيجيتين، فإذا لم يتمكن العلم من إثبات وجود القوى الخارقة مثلاً، فيقولون أن العلم له حدود وأنه ليس لديه سلطة في مجال القوى الخفية، ويستمر الجدال بتلك الطريقة.

التطور الثقافي للعلم الزائف

يتضح مما سبق أن السبب في وجود العلم الزائف هو ليس كون الناس أغبياء ومستعدين لتقبل أي شيء يُقال لهم، فهم مزودون كما قلنا بآليات تمكنهم من تقييم المعلومات طبقاً للمصدر والمحتوى نفسه. لكن في أي بيئة يوجد للعلم بها سلطة معرفية وحيث لا يمكن للناس فهم طبيعة هذه السلطة، فإن الأمور تصبح أكثر تعقيداً، وذلك لأنه في هذه الحالة يصبح الناس أكثر تشدداً في قبول أي معلومات جديدة ويُصبحون أكثر حسماً بالنسبة لمصادر هذه المعلومات. كل هذا يُهيئ ظروفاً مواتيةً لظهور العلم الزائف، حيث يسعى لارتداء عباءة العلم، وتظهر المعتقدات غير المنطقية بأنها ناشئة من مصدر يعتبره الناس جديراً بالثقة وهو العلم.

يستخدم المروجون للعلم الزائف المنشورات العلمية والمظاهر الأخرى للعلم لإقناع الناس أن أفكارهم هي في الحقيقة أفكار علمية صحيحة وموثوقة، ولذا يفضل الناس تقبل المعتقدات غير المنطقية التي تُحاكي العلم بدلاً من تلك التي لا تحاكيه. مسألة انتشار هذه المعتقدات أيضاً لا تتعلق فقط بالجدال والإقناع ولكنه يتعلق بالتحفيز أيضاً، فالناس لا يهتمون بالحقائق النزيهة والموضوعية قدر اهتمامهم بإيجاد معلومات ومعتقدات تدعم حدسهم وبديهياتهم، ويزداد أثر عدم الاهتمام بالحقيقة هذا بوجود “الجهل المعرفي”: حيث تقوم عوامل مثل الانحياز التأكيدي ومعاداة الخبرة بتثبيت وجود العلم الزائف والمعتقدات غير المنطقية.

على مستوى التواصل البشري تصبح الصورة مُعقدة نوعاً ما، فيُمكن أن يتواجد كل عامل من العوامل السابقة بدرجة مختلفة، ويمكن أن تتواجد كل هذه العوامل في الوقت نفسه.

إعداد: محمد أحمد نعمان.

المصدر

Blancke, Stefaan, Maarten Boudry, and Massimo Pigliucci. “Why Do Irrational Beliefs Mimic Science? The Cultural Evolution of Pseudoscience.” Theoria (2016).