إن الاستقراء هو إحدى طرق الإستنتاج والتي تستخدم أفكاراً أو حقائق مفردة للوصول إلى إستنتاج أو قاعدة عامة.

إن المعضلة الأساسية للاستقراء ترتكز بشكل أساسي على الطرق يعتمدها للوصول إلى توقعات واستنتاجات، وبتعبير هيوم “إعتماد الحالات التي لنا خبرة بها لتفسير الحالات التي لا خبرة لنا بها”.

إن مثل هذه الطرق أساسية في الإستنتاج العلمي كما هي كذلك في إدارة علاقاتنا اليومية. والمشكلة هي في كيفية دعمها أو تبريرها وهي تقود لمعضلة وهي: إن المبدأ الذي لا يمكن إثباته بالاستنباط، فهو مشروط، والحقائق الأساسية هي فقط ما يمكن إثباته إستنباطاً. كما لا يمكن إسناده بالاستقراء أي بالاحتجاج بأنها كان دائما أو عادةً موثوقاً في الماضي، فذلك من شأنه طرح السؤال بافتراض ما يجب إثباته.

بعد قرن من أول طرح لهيوم عن المسألة، وبيانه بعدم إمكان حلها، أعطى جون ستيوارت مِل صيغة أكثر دقة عن نوع مهم من مشاكل الاستقراء، فقد كتب: لماذا يكون هناك نموذج واحد كافي للاستقراء الكامل في بعض الحالات، بينما في حالات أخرى يكون هناك الآلاف من النماذج وبدون أي استثناءات منافية غير كافية لذلك، لنقارن بين هذين المثالين:

1- جميع من يركب الحافلة متجه إلى الإمام.

2- جميع من يركب الحافلة قد ولد في يوم فرديّ من الشهر.

أمّا في أيامنا هذه فقد انشطرت طرق الإستقراء وتضاعفت، إلى الحد الذي يكون فيه وضع تعريف للاستقراء أصعب مما يستحق. ورغم ذلك؛ فإن من المفيد ربط الاستقراء بالاستنتاج: فالمنطق الإستنتاجي كامل بشكل قابل للتوضيح حسب المنطق الأولي (first-order logic)، فالمقدمات التي تبنى عليها الحجة توحي بالاستنتاج. أما فيما يتعلق بالاستقراء، فلا توجد نظرية شاملة فيما يتعلق بالاستقراء المقبول، ولا يوجد مجموعة من القواعد المتفق عليها لاعتبار الاستنتاج الاستقرائي مقبولاً او جيداً، ولا توجد امكانية حقيقية لوجود نظرية كهذه. بالإضافة إلى كون الاستقراء مختلف عن إثبات أو برهان الإستدلال (في المنطق الأولي على الأقل) لا فقط في فشل الاستقراء بالوصول إلى الحقيقة (المقدمات الصحيحة قد تؤدي إلى نتائج خاطئة بالاستقراء) لكن في فشله تراتبياً، حيث إن إضافة مقدمة صحيحة جديدة إلى استقراء مقبول قد يجعله غير مقبولاً.

إن التصنيف لما هو إستقراء مقبول أو جيد قد يدعى بمشكلة التصنيف، فما الذي يفرق بين استقراء واستقراء سيء؟

السؤال لا تبدو له إجابة عامة مرضية، ورغم ذلك يوجد هنالك تصنيفات جزئية جديرة بالإهتمام.

الصياغة النهائية للمنهج الاستقرائي

يقتضي المنهج الإستقرائي المرور بالمراحل التالية:

  أ. الملاحظة: الملاحظة العلمية المأخوذة عبر الحواس أو عبر الأجهزة، والهدف من هذه الخطوة هو جمع المعطيات حول الظاهرة أو الشيء المدروس.

ب. الفرضية: بالاستناد إلى معطيات المرحلة الأولى يعمم العالم المعطيات المأخوذة مما تم رصده إلى ما لم يرصد فيما يعرف بالتعميم الاستقرائي، مثل القول أن “كل الإجسام تسقط بسبب ثقلها” تعميماً على ملاحظة سقوط قطع الحجر والخشب والحديد.

ج. إختبار الفرضية: إخضاع الفرضية للإختبار بعد بلورتها، وذلك لإثبات صدقها أو كذبها. وللخطوة هذه أهمية كبيرة لكونها الخطوة الحاسمة في النظر إلى الفرضية.

نقد هيوم للاستقراء

لقد كرس هيوم قسطا وافرا من مجهوداته لمعالجة هذه المشكلة، حيث يؤكد على أن التجربة تشكل مصدراً لتجاربنا الشخصية وأفكارنا. لكن هل الانطباعات الحسية التي نبني عليها تجاربنا تمثل تمثيلاً فقط وتصويراً ذهنياً لما نراه وما لا يمثل الحقيقة، أم أنها تمثل المعرفة الصادقة الوحيدة؟ هل نستطيع تعميم التجربة على حالات أخرى غير مجربة؟ يطرح هذا السؤال كارل بوبر، وينفيه هيوم بشدة حيث لا يرى مبرراً منطقياً له لعدم وجود ما يجعل الاشياء متصلة في أغلب الأحيان حتى تستوفي ذلك الربط والتعميم وتلك هي المشكلة الرئيسية التي يراها هيوم في الاستقراء، إنه فقط شيءٌ اعتدنا عليه من خلال تكرار الظواهر مثلاً واعتيادنا على ذلك التعميم. بصورة عامة فإن هيوم يعترف بمشروعية الاستقراء نفسياً أي على مستوى وعينا الشخصي، لكنه يراه غير منطقي.

نقد بوبر للاستقراء

أما كارل بوبر فهو ينتقد الاستقراء من ناحية ابستمولوجية (نظرية المعرفة) حيث يرفض استنتاج عبارات شاملة من عبارات مفردة مهما كان عدد تلك العبارات المفردة! ومثاله عن البجع معروف حيث يقول ما معناه أننا لا يجب أن نفترض أن كل البجع أبيض لأننا رأينا ذلك. ما سيحدث أننا سننطلق من مقدمات صادقة، ولكن النتيجة قد تكون كاذبة، أي أن نص الملاحظة بذاته قد يكون صحيحاً لكن النتائج التي تم بناؤها بحسب تلك الملاحظة ومن خلال التعميم لا يشترط أن يكون صحيحاً.

وينتقد بوبر موقف هيوم من الاستقراء لقبوله الاستقراء على المستوى النفسي الشخصي لأنه وبحسب بوبر يؤدي وبشكل حتمي إلى اللاعقلانية، وأن ما يتكرر وما نعتاد عليه سيشكل اعتبارات لا عقلانية بالنسبة لنا مثلما يحدث مع الاستقراء على مستويات أخرى. وهنا يركز بوبر على إعطاء أهمية كبيرة للملاحظة، لكن بقبولها في سياقها وبشكل منفرد ومع الاعتراف بعدم حيادية وعدم موضوعية الملاحظة فضلاً عن انتقائيتها. فما الحل إذاً بالنسبة لبوبر؟

لا تكون الملاحظة هي نقطة البدء في المسار العلمي، بل تكون جزءاً من التجربة بعد بلورة النظرية. ولا يكون دور الملاحظة والتجربة هو إثبات النظرية، بل تفنيدها! وذلك ضمن مبدأ بوبر الشهير حول قابلية التخطئة. وهكذا هو الحال في نظرته للتجارب، حيث يرى أنه مهما بلغت التجارب من دقة فهي تكون حاسمة وقطعية بشكل تام.

إذاً، هل يقوم العلماء بإنتاج فرضيات من العدم حول الظواهر والأشياء؟ بالتأكيد لن يكون كذلك، بل سيستندون إلى مشاهدات قد تضعهم على سلم التفكير والافتراض والبرهان، لكنهم لن يعتمدوا على مكنون تلك الملاحظة في صياغة النظرية مطلقاً! أي أننا عندما نجد بأن السماء زرقاء، فإن ذلك حسبه أن يجعلنا نتسائل حول زرقة السماء، لكننا لن ننطلق من اللون الأزرق ذاته لبناء تفسيراتنا، بل ستبنى التفسيرات على قياسات واطلاعات على محتويات الغلاف الجوي وتجارب حول سلوك الضوء حتى نصل إلى الحقيقة، لكن اللون الأزرق بذاته لن يقودنا سوى إلى تفسيرات طفولية، بالمقابل فإنه قد يستخدم في دحض بعض الفرضيات أثناء التجارب والقياسات والافتراضات التي نقوم بها على السلوك الضوئي وطبيعة المواد الموجودة في الغلاف الجوي.

المصادر

Definition of induction from the Collins English Dictionary

Leah Henderson “ The Problem of Induction”, Stanford Encyclopedia of Philosophy ,First published Wed Mar 21, 2018

د. عبد النبي مخوخ ‘مشكلة الاستقراء لدى كارل بوبر’ موقع ثقافات، نوفمبر 17, 2017.

K. Popper, La connaissance objective

D. Hume, Enquiry concernaing the humain understanding

D, Hume, A treatise of Human Nature

K. Popper, la logique de la découverte scientifique

K. Popper, Conjectures et réfutations