ناقشنا في الجزء الأول مفهوم المنهج العلمي وقلنا بأنه طريقة ممنهجة في جمع المعلومات ينتج عنها بناء نظرية للطبيعة على أساس تجريبي ثم التحقق من صحتها وذلك من خلال إثباتها. وقلنا أيضاً أنّ هذا المنهج قد نشأ في القرن السابع عشر بأوربا وذلك من خلال إسهامات العديد من العلماء بداية بكوبرنيكوس وإنتهاءً بنيوتن. ولقد ناقشنا بالفعل في الجزء السابق إسهامات كل من كوبرنيكوس وتايكو براهي في نشأة المنهج العلمي؛ حيث قدم كوبرنيكوس نموذج علمي قابل للإثبات عن طريق الملاحظة (مركزية الشمس)، ثم قام تايكو براهي بملاحظات دقيقة للإثبات هذا النموذج. واليوم سنناقش إسهامات كل من يوهانس كيبلر، جاليليو، ورينيه ديكارت.

تايكو براهي

تايكو براهي

يوهانس كيبلر والتحليل النظري للبيانات التجريبية

لمحة: وُلد يوهانس كيبلر بألمانيا (1571-1630). في عام 1589، انضم إلى جامعة توبينجن كطالب لاهوت ولكنه سرعان ما تفوق في الرياضيات. وقد قاده حبه لعلم الفلك إلى اشتغاله كمدرس للرياضيات وعلم الفلك بمدرسة بروتستانية في غراتس – النمسا. قام كيبلر بنشر عمله الفلكي الأول عام 1595، “اللغز الكوني”، حيث دافع عن نموذج كوبرنيكوس. كان كيبلر في ذلك الوقت مهتماً بالأشكال الهندسية المضلعة، والتي رأى كيبلر إمكانية استخدامها لتفسير البيانات الفلكية. لو لم يحصل كيبلر على البيانات التجريبية الدقيقة لتايكو براهي لما تمكن أبداً من إنشاء نظريته عن مدارات الكواكب البيضاوية الشكل.

إسهامات كيبلر: قام تايكو براهي بالكثير والكثير من القياسات الفلكية، وفي عام 1600 استأجر رياضي هو يوهانس كيبلر، وذلك لتحليل جميع بياناته. وتحليل البيانات معناه أن نقوم باستخلاص الشكل الأساسي الكامن في البيانات من أجل تعميمه، بمعنى أن البيانات المستخلصة من الملاحظات الجديدة يجب أن تنطبق وتتلاءم مع هذا الشكل الأساسي للبيانات. ولهذا فإن تحليل البيانات هو حلقة الوصل بين الملاحظة والنظرية.

بدأ كيبلر بالعمل مع براهي بعد قيامه بالانتقال هو وعائلته إلى بولندا. ولسوء الحظ فقد مات براهي بشكل مفاجئ في 24 أكتوبر، 1601. ونظراً لأن براهي كان الرياضياتي الإمبراطوري لبلاط الإمبراطور رودلف الثاني، فقد عُين كيبلر كخليفة له. استمر كيبلر في العمل على تحليل قياسات براهي. وفي أواخر عام 1602، وجد كيبلر قانوناً انطبق بشكل ملائم على القياسات – حيث الخط الواصل بين كوكب والشمس يقطع مساحات متساوية في أزمنة متساوية (أي تختلف سرعة الكوكب في دورانه حول الشمس تبعاً لبعده عنها، فإذا كان قريباً فإنه يدور بسرعة أكبر، وكلما زاد بعده عن الشمس قلت سرعته في الدوران. قانون كيبلر الثاني). وقد رأى كيبلر هذا القانون الطبيعي، كتعبير عن عقلية الله. بالإضافة إلى كونه قانوناً ظاهراتياً (أي يصف علاقة من الأنماط المنتظمة الملاحظة في الطبيعة)، فقد كان أيضاً قانوناً كمياً.

يوهانس كيبلر

فهم كيبلر أن هذا القانون كان خصيصة للمدارات البيضاوية. وقد استخدم نموذج كوبرنيكوس مدارات دائرية. ولكن في الحقيقة رأي كيبلر أن الكواكب تتبع مدارات بيضاوية. وفي نهاية ذلك العام، أكمل كيبلر مخطوطة جديدة، “علم الفلك الجديد”، واصفة المدارات البيضاوية – والتي لم تنشر حتى عام 1609 نظراً لنزاعات قانونية مع ورثة براهي حول حق ملكية بياناته (الملكية الفكرية).

ولقد كانت الصيغة الكمية لقانون طبيعي، خطوة أساسية في اتجاه المنهج العلمي. حيث أنّ المنهج العلمي ليس مجرد ملاحظات وصفية عن الطبيعة، ولكن أيضاً قوانين وقياسات كمية تصف الشكل الأساسي للقياسات (ذلك الشكل الأساسي هو القانون الفيزيائي للظاهرة الطبيعية).

جاليليو والقوانين العلمية المستمدة من التجارب

لمحة: وُلد جاليليو جاليلي (1564-1642) في بيزا بإيطاليا. التحق بجامعة بيزا لدراسة الطب، ولكن بدلاً من ذلك درس الرياضيات. وفي عام 1589، اُختير لرئاسة كرسي الرياضيات بجامعة بيزا. ثم انتقل إلى جامعة بادوفا في عام 1592، حيث درّس الهندسة، الميكانيكا، وعلم الفلك. وفي بادوفا، قام جاليليو بتقدم هام في فيزياء الحركة. وبعد نشره لتقريره عن أقمار المشترى عام 1610، ذهب جاليليو إلى روما لوصف تيلسكوبه والدفاع عن نموذج كوبرنيكوس. وقد قُبل بعد ذلك لأكاديمية مرموقة في روما، هى أكاديمية لينسيان.

ولكن في عام 1612، عارض بعض القساوسة الكاثوليك فكرة مركزية الشمس. وفي عام 1614، تم اتهام جاليلو بالهرطقة بواسطة الأب توماسو كاسيني. وفي عام 1616، طلب منه الكاردينال روبرتو بلارمينو عدم تدريس نموذج كوبرنيكوس. ولاحقاً في عام 1632، نشر جاليليو كتاب قارن فيه بين وجهتي النظر (مركزية الشمس ومركزية الأرض): حوار حول النظامين الرئيسيـين للكون، حيث جعل المتمسكين بنموذج مركزية الأرض يبدون كحمقى. ولقد شعر البابا في روما بالإهانة من ذلك، والذي أعتقد أنّ جاليليو سخر منه. وفي أكتوبر من ذلك العام، طُلب جاليليو للمحاكمة بخصوص الهرطقة، والتي انتهت بحبسه. ولقد خفف السجن إلى الإقامة الجبرية.

وللسنوات الستة عشر التالية الباقية من حياته، ظل جاليليو تحت الإقامة الجبرية في منزله بفلورنسا. وقد استغل وقته في كتابة ما سُيصبح أحد أشهر كتبه: علمين جديدين، والذي سوف يؤسس لقوانين الحركة الفيزيائية. وهذا العمل هو الذي سيؤسس عليه إسحاق نيوتن نظرياته الثورية.

إسهامات جاليليو: قبل نشر كيبلر لكتابه: علم الفلك الجديد، تم ابتكار التليسكوب في سنة 1608، بهولندا. وبمعرفة هذا الخبر، صنع جاليليو في إيطاليا واحداً بقوة تكبيرية ثلاث مرات التليسكوب العادي، والتي استخدمها لملاحظة الكواكب والقمر. ولقد كان أول من لاحظ أقمار المشترى الأربعة. نشر جاليلو ملاحظاته الفلكية في مارس 1610 في مقالة بعنوان: رسالة فلكية. إن التأثير المزدوج لمدارات كيبلر البيضاوية وأقمار المشترى لجاليلو قد أسسا لاعتراف المجتمع الفلكي بواقعية نموذج كوبرنيكوس. إلى هنا، فقد ذهب نموذج بطليموس إلى مزبلة التاريخ الفكري.

ولقد قام جاليليو بتأسيس أولى القوانين العلمية في الفيزياء. حيث قام بتجارب حول الحركة والجاذبية، واستنتج نظرية فيزيقية قائمة على نتائج التجارب. كان جاليليو أول من قدم إلى المنهج العلمي عملية القيام بتجارب كمية والتي يُمكن تعميم نتائجها باستخدام تعبيرات رياضية. فبعد التحليل الرياضي لقياسات براهي بواسطة كيبلر، فإن القوانين الفيزيقية لجاليليو تمدنا بمثال ثانٍ للمنهج العلمي الحديث.

ديكارت وابتكار الهندسة التحليلية

لمحة: وُلد رينيه ديكارت (1595-1650) بفرنسا. التحق بجامعة بواتييه وتخرج في عام 1616 برخصة في المحاماة. لم يمارس القانون والتحق بدائرة المحاكم في هولندا. قابل هناك إسحاق بيكمان، والذي أثار اهتمامه للرياضيات. في 1619، كان مسافراً إلى ألمانيا حينما خطرت له فكرة استخدام الرياضيات لحل المشكلات في الفيزياء. فقام بالجمع بين الهندسة الإقليدية وعلم الجبر، مُنشئاً موضوعاً رياضياً جديداً: الهندسة التحليلية. مما سمح بتمثيل المكان بنظام إحداثي ثلاثي الأبعاد، حيث أي نقطة في المكان يُمكن وصفها كأبعاد مرسومة ومسقطة على طول كل إحداثي ديكارتي.

إسهام ديكارت: وقد كانت الخطوة التالية في نشوء المنهج العلمي هى تطوير وتحسين لغة التحليل الكم، وذلك باختراع الهندسة التحليلية (ديكارت) وعلم التفاضل والتكامل (نيوتن) وتطبيقاتهم في التعبير عن النظرية الفزيائية. كان ديكارت معاصراً لجاليليو، وقد قام بخطوة مهمة للغاية لتطوير الرياضيات. فقد أنشأ الهندسة التحليلية وذلك من خلال إضافة التعبيرات الجبرية إلى الهندسة التقليدية لإقليدس. حيث اقترح ديكارت استخدام ثلاث متجهات أساسية في وصف المكان: x, y, z حيث كل متجه يقع بزاوية قائمة على الآخر. ولهذا فإن أي نقطة في المكان يُمكن وصفها بثلاثة أرقام (x, y, z) كإسقاطات على هذه المتجهات.

وما سيضيفه نيوتن بعد ذلك، هو بعد آخر للوقت (t). وبالتالي فإن حركة الجسيم في المكان يُمكن وصفها حينئذ بالسلسلة المتوالية من النقاط المشغولة بواسطة هذا الجسيم مع مرور الوقت. فعند الوقت مثلاً t1، سيكون موضع الجسيم (x,y,z1,t1)، ثم ينتقل إلى الموضع (x,y,z2,t2)، عند وقت t2، وهكذا. وسوف تمد الهندسة التحليلية الفيزياء وحساب التفاضل والتكامل بأرضية حاسمة للتمثيل الرياضي. فبدون الهندسة التحليلية وحساب التفاضل والتكامل، فإن علم الفيزياء الحديث لم يكن ليصبح ممكناً.

المصدر:

Betz, F. (2011).Managing Science Methodology and Organization of Research. New York, NY: Springer New York.