لكل داء دواء يستطبّ به إلا الحماقة أعيت من يداويها

ما هو الحمض النووي الخردة؟ ببساطة هي أجزاء وقطاعات في الحمض النووي لا تحتوي على شفرة لإنتاج البروتين اللابد أن لتركيب وظائف الخلايا الحية وتنظيمها. فما قصتها مع التطور والخلق إذاً؟

بحسب أحد تنبؤات نظرية التطور أنه طالما هناك سلف مشترك بين الكائنات الحية وان التطور تعديل على القديم فلابد أن يكون هناك دليلٌ على وجود قطاعات في الحمض النووي للكائن الحي سواء كانت قطاعات خاملة بسبب الطفرات عبر رحلة التطور او قطاعات فيها أثر من سلف له قديم. طيلة الـ 40 سنة الماضية لم يكن العلماء قادرين على التحقق من التنبؤ هذا في الكائنات الحية كلها، نظرا لعدم وجود التكنولوجيا التي تسمح لنا بالأمر. فما علاقة ذلك بالخلقية أو التصميم الذكي إذاً؟

في الواقع إن الحمض النووي الخردة هو أحد الأدلة التي تقوض وتنسف فكرة الخلق الخاص او التصميم الذكي. كيف ذلك؟ لو الكائنات الحية قد صممت من نقطة انطلاق (خلق) وليس تعديلاً على ما هو سابق فكيف سيكون فيها جينات خاملة غير ذات وظيفة وتكون متوارثة من الأسلاف؟

لو كنت راغباً بالعمل في شركة كمبيوتر كبيرة مثل ديل (Dell) مثلا، وطلبوا منك تصميم جديد لجهاز حاسوب فأتيتهم بحاسوب صخر القديم (الذي كانت وحدة الإدخال الرئيسية فيه هي أقراص الفلوبي ديسك) وأزلت منه كل شيء ما عدا مشغل الفلوبي ديسك واستبدلتها بقطع حديثة.. هل سيعد تصميمك ذكياً؟ هل بدأت من الصفر؟ أم عدلت على القديم؟ كذلك الحمض النووي مثل ما سنرى بامثلة قادمة وابحاث فاز أصحابها بجوائز نوبل وهي تتكلم عن هذا الموضوع.

تفاصيل الحمض النووي الخردة ونسبته

تصل نسبة الحمض النووي الخردة إلى أكثر من 90% من الحمض النووي بصورة مؤكدة و2% منه فقط هي التي تنتج بروتينات، أما الباقي من الحمض النووي للإنسان والذي لا يتجاوز الـ 7% فهناك خلاف بين العلماء هل نعتبره خردة هو أيضاً نظرا لعدم وجود وظيفة واضحة له أم لا نعتبره خردة ونقول ان له وظيفة ثابتة.

النسبة الكبرى من الجينات الخردة تصنف ضمن ما يلي:-

5% جينات كاذبة (pseudogenes) ليس لها أي وظيفة؛ 45% جينات التسلسلات القافزة (transposon sequences)، ولا وظيفة لها أيضاً؛ 9% تسلسلات جينية فيروسية متدهورة (degenerated viral sequences) وكذلك ليس لها وظيفة.

هناك أيضاً: 28% مما يعرف بتسلسلات الإنترون (intron sequences) وهي قطعة من الدنا تنسخ عند تكوين الرنا المرسال، إلا أنها تحذف من التركيب النهائي له، وأيضاً لا وظيفة لها في تكوين البروتينات ولو أضفناها لقائمة القطاعات غير المفيدة لبقي لدينا 13% فقط، المفيد منها يشكل 2% من الحمض النووي للإنسان مع 8% هناك اختلاف حولها.

ولا يفوتنا أن نذكر قطاعات تسمى بقطاعات الاختيار المشترك (Co-opted) وهي لا تتجاوز 0.5% وتأخد وظيفة جديدة لكن ليس لها علاقة بالبروتين.

هل هناك أدلة علمية على نسبة الحمض النووي الخردة؟

هناك الاف الأبحاث التي توثق الحمض النووي الخردة ولسنا قادرين على ذكرهم كلهم طبعا لكن سأذكر بعضهم في المصادر وأذكر هنا بعض الأمثلة:

هناك دراسة قامت بها ليندا بك وريتشارد اكسل عن مستقبلات الجهاز الشمي ووظائفه أخذا بها جائزة نوبل في الطب سنة 2004 (وهذا الجزء خاص بمن يتسائل عن عدم وجود جائزة نوبل ذات صلة بالتطور)، في الدراسة هذه تكلموا عن الجينات الزائفة الخاصة بالشم في الثدييات، الجين الخاص بالشم كان جين أحادي نشأ من سلف مشترك وحصل له تضاعف بالطفرات وكل جين ينتج بروتين مختلف عن الثاني من أجل الحصول على التنوع في حاسة الشم.

من المثير ان الفئران لديهم حوالي الفي جين نشط جعلوا حاسة الشم عندهم قوية جدا مقارنة بالبشر الذين يمتلكون 400 جين فقط! الغريب أننا نحمل في الإجمالي 800 جين يمثلون حوالي 3% من الجينوم الخاص بنا لكن لسوء الحظ هناك 400 جين فعال من بينهم فقط، والباقي أصبح في عداد الجينات الزائفة عن طريق الطفرات! أليس من الخاطئ أن ترمى 400 جين بهذا الشكل لو كان هناك تصميم ذكي؟

الأكثر إثارة للدهشة في جينات الاستقبال الشمي حسب الدراسة هو ليس المقارنة بين جينات الفأر والانسان بل جينات الدلافين. الدلافين كائنات تعيش في المياه وعندها جينات استقبال شمي خاصة بالمواد الكيميائية تحت المياه، لكن المفاجأة ان ليندا بك اكتشفت ان الدلافين عندها جينات استقبال شمي للروائح الطيارة (الروائح الموجودة على اليابسة)! كيف وهم يمارسون كافة تفاصيل حياتهم تحت المياه، يعني أنهم لا يصطادون في البر ولا يخرجون من المياه للبر حتى تكون عندهم الجينات هذه! الجينات هذه هي أيضاً جينات زائفة وليس لها دور في حاسة الشم، لكن الأدهى أنها تحمل نفس تسلسلات الحمض النووي لجينات الشم الموجودة عند الثدييات البرية.

لا غرابة في الأمر لو كنت تتبع العلم والتطور، لأن نظرية التطور تنبأت ان الدلافين والحيتان لها سلف مشترك كان يعيش على البر، وهذا البحث الخاص بليندا وريتشارد كان حائزاً على جائزة نوبل وقد أكد هذه الحقيقة. لكنك سترى الأمر قريباً لو كنت تؤمن بالخلق الخاص لكل كائن حي على حدة، ما هو المغزى والمعنى في وضع الجينات الزائفة هذه في كائنات بحرية بالنسبة لمن خلقهم؟

أضف أيضاً للأمثلة: حوت العنبر والحوت الباليني ليس لديهم اسنان والتطور افترض ان لدى أجدادهم أسنان وقد تم تعطيل الجينات المسئولة عن تكوين الأسنان لديهم وقد تم اكتشاف ذلك بالفعل ووجد العلماء الجينات المسئولة عن تكوين الأسنان ومثلما توقع التطور حيث وجدوها معطلة!

الأكثر دهشة على الاطلاق خاصة بالبلاتيبوس او خلد الماء الكائن الذي يبيض ويُرضع صغاره وعنده منقار مثل البط. هذا الكائن ليس لديه معدة ذات غدد هضمية مثل باقي الثدييات بل أن معدته تشبه بالون منتفخ مرتبط بالمريء فحسب. العلماء اكتشفوا أن هذا الكائن عنده جينات لتكوين أنزيمات الغدد الهضمية في المعدة مثل باقي الثدييات بالضبط، لكنها معطلة!! ونتسائل هنا، أي مصمم سيعطي للكائن هذا  معدة ليس لها وظيفة ثم يعطيه جينات تجعل للمعدة هذه وظيفة ثم يقوم بتعطيل هذه الجينات! الأمر أشبه بوضع جهاز تكييف في السيارة لكن دون وضع غاز الفريون فيه!

الأمثلة كثيرة على الجينات الزائفة التي تعد إحدى العناصر المكونة للحمض النووي الخردة، ويمكننا بحق أن نسرد ألف مثالٍ هنا دون توقف. الخلاصة ان اكثر من 90% من الحمض النووي لدينا لا يوجد له أي وظيفة او نفع يذكر ما بين جينات زائفة ونسخ مكررة من الحمض النووي وقطاعات ليس لها أي وظيفة. لن نقول 98% بل سنترك الـ 8% التي هناك بعض الخلاف حولها ونعتبرها مما له وظيفة.

مثال آخر سيفهمه المبرمجون بشكل جيد: نفترض انك تعمل في شركة ومطلوب منك برنامج يضيف رقم 5 على أي رقم يدخله الشخص الذي سيستخدم البرنامج. الموضع المطلوب إعداده لهذه الخطوة يتم في 3 سطور برمجة سواء بلغة الجافا او غيرها كالتالي:-

1- ستظهر رسالة للعميل تطلب منه أن يدخل الرقم المطلوب أن يضاف له 5

2 – العميل سيدخل الرقم

3 – سيطلع ناتج جمع الرقم الذي أدخله العميل على 5 على الشاشة

تخيل أنك تقوم بهذا العمل في 100 سطر! 30 سطر تكتب فيها كلام ليس له علاقة بالبرنامج. أيضاً 20 سطر تكرر فيها الرسالة 20 مرة للعميل تخبره ان يدخل الرقم. ثم تظهر الناتج للعميل 40 مرة وليس مرة واحدة. أوامر برمجية زائفة ليس لها أي علاقة بالبرنامج. هل من المفترض ان تجعلك الشركة تكمل العمل فيها وأنت تعمل بهذه الطريقة؟

ردود أفعال معارضي التطور

معارضة التطور تعتمد على الميديا والاعلام اكتر من البحث العلمي نفسه، يعني منذ سبعينيات القرن الماضي عندما ظهر مصطلح الحمض النووي الخردة كانت ردود الخلقيين أنه من الممكن أن نكتشف له وظيفة ولن يكون هناك في أي خردة ، أو أن هذه الخردة من الممكن أن تكون ضمن خطة الخالق (لا أدري أي خطة هذه) ويقول آخرون أننا من الممكن أن نعدل عليها في الحمض النووي، ولن نرد على الأخير طبعاً لغباء الطرح.

المهم أنهم دخلوا في طريق الحرب الإعلامية، حالما يظهر بحث يتكلم عن الـ 8% التي تكلمت عنها أعلاه يردد معارضو التطور أن التطور سقط وأنه خرافة وأنتهى!

في سنة 2003 وتحديداً في مشروع انكود (ENCODE)  قام بعض العلماء بما يشبه الموسوعة للجينوم البشري وقد صرف على العمل ما يفوق الـ 400 مليون دولار! وقالوا أنهم  سيكملون الموسوعة للاستفادة من أسرار الجينوم البشري، وكان المشروع سيصبح رائعاً لو بقي بعيداً عن تأثير الإعلام، حتى عام 2012 لم يكن هناك نتائج قوية قد ظهرت. لم يكن هناك نتائج لأن ممولي المشروع قرروا التوقف عن تمويله. كان لابد أن تظهر نتائج تؤثر في الإعلام وتجعل الخلقيين الأمريكان من دافعي الضرائب لا يعترضوا عن سبب تمويل هذا المشروع. لكن الباحثين تكلموا بالحقيقة وأول ما صرحوا به أنهم قالوا أن 80% من الحمض النووي اتضح أنه من الخردة وليس له أي وظيفة.

التصريح هذا جاء في الولايات المتحدة معقل الخلقيين وأتباع الكنيسة من معارضي التطور والتكنلوجيا. ربما كان من الأفضل للباحثين لو صرحوا تصريحاً آخر بدلاً من الحرب التي شنت عليهم وحول كلمة “وظيفة” التي ذكروها والتي يُمكن أن تبحثوا عنها في جوجل الآن بعبارة (الحرب حول كلمة وظيفة) (The war on word function).

نعود إلى الفكرة الأساسية، هل أنكر علماء المشروع وجود حمض نووي خردة؟ كلا، هل هناك عالم واحد يقول أن للـ 90% من الجينوم البشري وظائف بيولوجية؟ كلا

هل هناك عالم واحد أنكر الجينات الزائفة والتكرار والتتابعات في الحمض النووي؟ كلا، فمن ذا الذي يقول أن “الحمض النووي الخردة” قد سقط؟ والأهم من ذلك، فإن العلماء لم يجمعوا على أن الحمض النووي التنظيمي (regulatory DNA) من المحال أن تكون له وظيفة. بل على العكس إن غالبية العلماء يقولون طيلة النصف قرن الماضي أن هذه القطاعات في الحمض النووي من الممكن أن تكون لها وظيفة.

يقول لاري مورن استاذ علم الكيمياء الحيوي (Biochemistry ) في جامعة تورنتو بكندا تعليقا على هذا الكلام:

“لم يكن هناك وقت معين أجمع فيه العلماء حول أن الحمض النووي غير المشترك في ترميز البروتينات هو خردة. لقد عرفنا الحمض النووي التنظيمي منذ خمسين سنة والبحث الجديد لا يساهم بجديد في فهمنا العام بل أنه يتسق مع عقود من عملنا.

الحمض النووي الخردة قبل أن يكون دليلاً على التطور فهو دليل ضد الخلق. وايمانك بوجود مصمم او خالق عظيم سيكون منطقي أكثر مع التطور وليس مع الخلق الخاص الذي يعد من الصعب جداً تفسير الحمض النووي الخردة وفقه.

ما الحكمة من وجود ملايين القطاعات في الحمض النووي غير ذات الوظيفة سوى التكرار والنسخ (تخيل مقابلة عمل يطلبون منك فيها تكتب اسمك على ورقة 100 مرة!) وجينات زائفة معطلة وفيروسات خاملة وغيرها. لو أراد الخلقيون عايزين أن يثبتوا خطأ الكلام هذا فالموضوع سهل جداً. فقط ائتونا بأبحاث تثبت أن كلاً  مما يلي له وظيفة في كل قطاعات الحمض النووي:

defective DNA transposons

DNA and Rna viruses

Pseudogenes

transcribed intron junk

Highly Repetitive DNA

non-conserved Intergenic DNA

إضافة إلى تفسير بعض الأمور الراسخة في البيولوجيا مثل ال Genetic load، كيف ستفسره وليس هناك حمض نووي خردة؟ الطفرات الكثيرة التي تظهر عند الجنين والطفرات الضارة، أين كل ذلك وكيف؟

لو كان لجميع الحمض النووي وظيفة وتتم ترجمته لانتاج بروتينات فإن الطفرات الضارة ستُحدث كوارث. وبعد كل شيء لابد من الذكر أن هناك أجزاء في الحمض النووي لا تتعدى 6% من الجينوم كان يتوقع العلماء ظهور وظيفة لها حتى قبل ظهور مصطلح الحمض النووي الخردة ويُمكن أن تظهر أبحاث تتكلم عن اكتشاف فائدة لها.

مصادر ستجعلك تفهم الموضوع بشكل أفضل

المصادر هذه مهمة جدا لكل من يريد أن يفهم موضوع الحمض النووي الخردة وما هي الخردة ولماذا الخلاف أساساً وهل فعلاً سقط هذا المفهوم أم لا (مثلما يزعم الخلقيون):

Palazzo, Alexander F., and T. Ryan Gregory. “The case for junk DNA.” PLoS genetics 10.5 (2014): e1004351.

يمكن ده أقول واشمل بحث في الموضوع حتى الآن

مقالة مهمة جدا من نيو ساينتست بيشرح فيها بروفيسور دان جراور الاخطاء المتكررة التي يتم سردها حول الحمض النووي الخردة

Michael Le Page, “At least 75 per cent of our DNA really is useless junk after all“, 17 July 2017

مقالة من الاكاديمية الوطنية للعلوم وهو يناقش مشروع ENCODE وادعاءاته وهل فعلا انتهى مفهوم الحمض النووي الخردة؟

Doolittle, W. Ford. “Is junk DNA bunk? A critique of ENCODE.Proceedings of the National Academy of Sciences (2013): 201221376.

Required reading for the junk DNA debate