هناك بعض الفرضيات التي تأبى ان تمحى على الرغم من وجود أدلة دامغة ضدها. ومن هذه الفرضيات هي فرضية تطور الإنسان مما يُعرف بـ ” القردة المائية ” ويعتبر السير ديفيد اتنبره (David Attenborough) أحد المدافعين عن هذه الفرضية، وقد قدم سلسلة من أربع حلقات في هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تحت عنوان قردة الماء (The Waterside Ape.).

وتقترح هذه الفرضية بأن كل شيء تطور في الإنسان من المشي المنتصب وافتقارنا للشعر يرجع إلى تناول الطعام البحري والذي حدث بسبب فترة مائية عاش فيها أسلافنا. واقترحت هذه الفرضية قبل أكثر من 55 عام، ومنذ ذلك الحين شهدت دراسة تطور الإنسان الكثير من الاكتشافات والدراسات وقد وجدناها معقدة ومثيرة للاهتمام مما تفترضه فرضية قردة الماء.

في عام 1960 نشر عالم الأحياء البحرية اليستر هاردي (Alister Hardy) مقال في مجلة نيو ساينتيست (New Scientist) بعنوان: “هل كان الرجال مائيون بنسبة أكبر فيما مضى” ( Was man more aquatic in the past?)، فقد أعاد بناء قصة تطور الحيوانات البرية من الأسماك القديمة، فقد اعتبر ان الثدييات والزواحف والطيور ترجع إلى كائنات مائية: الاكصور والبلصور والتماسيح وثعابين البحر وطيور البطريق والحيتان والدلافين وخنازير البحر وأبقار البحر والفقمات، بالإضافة إلى الدببة القطبية وثعالب الماء وفئران الحقل المالية، وغيرها من الحيوانات التي تصطاد في الماء. ومن ثم أشار إلى الخصائص الفريدة للبشر وأسلافهم بنحو يختلف عن القردة الأخرى، واعتقد بأنها تكيفات البقاء في الماء لوقت أطول.

وقد وضع هاردي مجموعة من المميزات التي افترض بأنها “تكيفات مائية” (aquatic adaptations) منها: تمتعنا بالقدرة على السباحة، فقداننا لقسم كبير من شعر الجسم وترتيب ما تبقى بشكل متعرج يخفض مقاومة الماء، وجود طبقة من الدهون تحت الجلد. وحتى انه افترض ان قدرتنا على المشي بشكل منتصب تكيفت نتيجة للسباحة والغوص في الماء حيث انه يساعد على دعم وزن الجسم.

وقام هاردي بوضع فرضيته نتيجة لوجود فجوة في سجل الأحافير في ذلك الوقت للفترة لما بين 4-7 مليون سنة والتي عثر عليها في سنوات لاحقة. كما ان هاردي ختم ورقته بشكل منطقي بالقول بأن فرضيته مجرد تكهنات فقط “الفرضية للمناقشة، ولأختبارها تحتاج للمزيد من الأدلة”.

وبعد خمسون عام من اقتراح هاردي لفرضيته، والتي كانت تتمتع بشهرة معينة، وربما سمعة سيئة. جاءت الكاتبة إلين مورغان (Elaine Morgan) لكي تدافع عنها في كتاب “قردة الماء” (The Aquatic Ape)، وضعت فيه فرضية أخرى مصحوبة بعدد من الخصائص المثيرة للاعجاب لكي تدافع عنها، ومن هذه الخصائص ما يتمتع به الإنسان من قدرة على ضبط النفس ونظامه الغذائي. تبدو هذه الفرضية للوهلة الاولى مثيرة للإعجاب، ولكن بعد نظرة فاحصة سوف تكتشف أدلة أشياء مختلفة.

صب الماء البارد عليه

جميع التكيفات التشريحية والفسيولوجية التي اقترحتها الفرضيات الأخرى، تناسب وبشكل أفضل ما نعرفه عن بيئة أسلاف الإنسان القديمة. فسقوط الشعر ليس سوى ميزة موجودة في بعض الثدييات المائية مثل الحيتان والدلافين بينما الثدييات الشبه مائية مثل ثعالب الماء وفئران الحقل تعتبر ذات شعر كثير. فيمكن تفسير فقدان الشعر للإنتقاء الجنسي والتكيف مع الحرارة، فهي تفسره بشكل أفضل. كما ان الانتقاء الجنسي يفسر توزيع الدهون في جسم الإنسان، والذي يتباين بين الجنسين. ومن المرجح ان تكون هنالك علاقة بين القدرة على الغوص والسيطرة على النفس.
وكان أجدادنا يعيشون على ضفاف البحيرات أو شواطئ البحار، لذلك لابد أنهم اعتمدوا على الموارد البحرية في نظامهم الغذائي، لكن هذا حدث خلال فترة متأخرة من التاريخ التطوري للبشر. كما أنهم يستطيعون العيش على نظام غذائي يشمل مواد غذائية برية فقط. اما من ناحية قدرتنا على السباحة، بالمقارنة مع حيوانات أخرى فنحن لسنا أفضل الكائنات البرية قدرة على السباحة، كما أن جلدنا يتأذى في الماء، فالماء يجعل جلدنا يجعد ليصبح كالخوخ المجفف عند البقاء في الماء لفترة طويلة.

اما بخصوص المشي على قدمين، فهذا الأمر تفعله كل القرود ولو لمدة قليلة، خلال الغوص في الماء وكذلك عند الرغبة في الوصول للفاكهة، أو عند الرغبة بإظهار بعض العدوانية أو عند التحرك بين الأشجار. وإذا تطورنا من أسلاف يستطيعون الوقوف في الأشجار، لا نحتاج إلى تفسير غير عادي للكيفية التي حصلنا من خلالها على إمكانية الوقوف على الأرض بدلاً من الركض على أطرافنا الأربعة.

منذ أن قدم هاردي ومورغان فرضيتهما تم سد العديد من الثغرات في السجل الأحفوري لتطور البشر، فقد تم العثور على ما يقل عن 13 نوع جديد منذ عام 1987. كما أننا تمكنا من إعادة بناء بيئة أسلافنا. ونحن نعرف الأنواع والفترة الزمنية التي عاشوا فيها، فإنسان سحال تشاد (Sahelanthropus tchadensis) عاش قبل 7 مليون سنة والإنسان المنتصب (Homo erectus) عاش قبل 2 مليون سنة وكلاهما عاشوا في بيئة الغابات المشجرة أو بيئة مفتوحة. في حين أن بعض الغابات كانت تتضمن أراضي رطبة، وهذا كان جزء من المواطن التي علمت أجدادنا البقاء، وليس هنالك أي أثر على الإطلاق لأي سلف من أشباه البشر عاش في بيئة مائية كالتي وصفها هاردي ومورغان.
كما اننا نمتلك أدلة على أن أسلافنا قد استطاعوا البقاء في بيئات جافة للغاية مع ندرة الموارد المائية وفي بعض الفترات انعدامها. والتعامل مع هذه البيئات المختلفة جعل سلوكياتنا مرنة فأعتمدنا على التعاون، وبذلك امتلكنا أدمغة كبيرة وطبيعة اجتماعية بامتياز والتي من المرجح أنها ظهرت بسبب ذلك. وهذه المرونة نتجت كمحصلة نهائية التكنولوجيا والثقافة.

وقد أشار الداعمين المتأخرين لفرضية القردة المائية إلى ان التكيفات المائية قد حدثت في وقت لاحق، بما في ذلك المواقع الأثرية التي أثبتت قيام الإنسان باستغلال الموارد الساحلية. لكن هذا لم يكن مؤثر بشكل كبير على أصولنا من ثنائيي الحركة، أي قبل 6 مليون سنة، لأنها تعتبر مجرد مرونة سلوكية للبشر.

المبالغة والبساطة في فرضية القردة المائية

أصبحت الفكرة الأصلية وما أضاف لها مورغان فرضية المظلة (umbrella hypothesis) أو “نظرية كل شيء”، فرضية مبالغ بها وبسيطة على حد السواء في تفسيراتها. فهي تحاول تقديم تفسير واحد لمجموعة واسعة من التكيفات، والتي نعرف كيفية نشوئها في أوقات مختلفة من التاريخ التطوري للإنسان. فتكيفات القدرة على المشي على قدمين والأدمغة الكبيرة واللغة لا يمكن ان تظهر دفعة واحدة، بل أنها ظهرت خلال ملايين السنين. وأن قلنا أن جميع التكيفات تحتاج إلى تفسير واحد لاصبح قولنا من الهراء.

وعلى الرغم من تراكم الأدلة ضد هذه الفرضية فهنالك من انصارها العنيدين بشكل غريب. ويقوم انصارها بالتمسك بأي ذكر للماء أو الأسماك أو المحار عند الحديث على تطور البشر، والتي نجدها بين الحين والآخر في المواقع الأثرية التي تقع قرب الأنهار أو البحار كأدلة داعمة لفرضيتهم. ولكن لدينا أدلة دامغة ضدها ومن هذه الأدلة كل البحوث الخاصة بالحفريات وعلم التشريح المقارن وعلم وظائف الأعضاء وعلم الوراثة. وفيها فشلت فرضية القردة المائية مراراً وتكراراً.
وما فعلته هيئة الإذاعة البريطانية يعتبر من العار، لأن هذه الفرضية غير معقولة، كما أنها من الفرضيات الناشئة التي حاولت تفسير نشوء الإنسان. وتطور الإنسان يعتبر أكثر تعقيدا وما يثبته هو الأدلة وليس التمني.

 

المصدر:

Alice Roberts, “Sorry David Attenborough, we didn’t evolve from ‘aquatic apes’ – here’s why”, theconversation.com, September 16, 2016