كان داروين قبل رحلته الشهيرة يؤمن بمبدا ثبات الانواع (fixism) التي ثبتتها العقائد الدينية في اذهان الناس ,أي ان كل نوع من المخلوقات الحية من حيوان وطير ونبات قد خلق على حدة ,لكن مشاهداته واختباراته في تلك الرحلة اقنعته كما يقول بنظرة جديدة مغايرة تماما :”انني مقتنع تمام الاقتناع بان النظرية القائلة ان كل نوع من الانواع الحيوانية والنباتية قد خلق كل على حدة,مستقلا عن الانواع الاخرى هي نظرية خاطئة من اساسها .ولم اصل الى هذا الاقتناع الا بعد دراسة وافية وعميقة للمسالة من دون انفعال او انحياز ضد تلك النظرية التي كانت سائدة حتى وقت قريب بين معظم علماء التاريخ الطبيعي ,وكنت انا نفسي احد انصارها ,انني على اقتناع تام بان الانواع ليست ثابتة ,وبان الانواع التي تنتمي الى فصيلة واحدة او جنس واحد قد تحدرت مباشرة من انواع اقدم منها ,غالبا ما تكون قد انقرضت ,بالاضافة الى ذلك فانني شديد الاقتناع بان الانتقاء الطبيعي كان احد اهم العوامل في حدوث هذه التغيرات التي طرات على الانواع “..

تلخص هذه الفقرة اهم الاراء والفروض والاسس لنظرية التطور التي تضمنها كتاب اصل الانواع واثبتها بالبراهين العلمية وهي :التغير ,وتنازع البقاء ,والانتقاء الطبيعي (في مقابل الانتقاء الصناعي الذي يجريه الانسان).
وبهذا استطاع داروين ان يفرض مفهوم التطور البيولوجي كمبدا علمي بتسليطه الضوء على اهم اسس واليات هذا التطور ,أي الانتقاء الطبيعي,وعلى استمرارية تطور الحياة عبر الازمنة .

وقد اكتشف البيولوجيون في العقود التالية لنشر كتاب اصل الانواع مزيدا من الشواهد التي تؤكد حدوث هذا التطور بالفعل وبعد قرن وربع القرن ,بعد داروين اصبح التطور حقيقة راسخة ,حتى ان تيودوس دوبزانسكي(1900-1975),عالم الجينات الامريكي ,الروسي الاصل قال):لا شيء في علم البيولوجيا يمكن ان يكون له معنى الا في ضوء التطور)
وبذلك فتح كتابه اصل الانواع عصرا جديدا للفكر الانساني بكل ابعاده ,الا ان داروين لم ينكر تاثره ببعض العلماء الذين سبقوه او الذين عاصروه ,وعلى راسهم تشارلز لييل ونظريته عن القوى والعناصر التي كونت طبقات الارض وتضاريسها ومناظرها الطبيعية والتي تفاعلت فيما بينها خلال فترات زمنية هائلة تعود الى ملايين السنين ,وبنظرية الكفاح من اجل البقاء ,والبقاء للاصلح التي قال بها مالتوس ,وكذلك نظريات جون راي الانجليزي عن انواع النباتات وتصنيفها ,وعن تصنيفات عالم النبات السويدي كارل فون لينيه وعالم الميكروبات الطبيب الانجليزي وليم هنتر ,وبنظريات عالم الطبيعيات الفرنسي بوفون ,ونظريات لامارك عن الوراثة وتاثير البيئة ,ونظريات عالم الطبيعة الفرنسية جورج ليوبولد كوفييه عن الاعراق وشعب الحيوانات والنباتات.

الداروينية ومركز الانسان في الكون

لم تكن نظرية اصل الانواع عند داروين وليدة تاملات فلسفية حاول تدعيمها بالمشاهدات والملاحظات, وانما قادته اليها تلك المشاهدات والظواهر والملاحظات وما صادفه من اوجه الشبه بين الحيوانات والنباتات والطيور ,التي رسخت في ذهنه فكرة التغير التدريجي للانواع بحيث اصبحت غذاؤه ومؤونته خلال حياته العلمية .
وكان داروين من الدقة والامانة بحيث ان أي فرض يضعه يظل موضع درس واستقصاء ,ولا يرقى الى مرتبة اليقين والقانون العلمي ,الا اذا ايده بعدد كبير من الظواهر والمشاهدات والتجارب الدقيقة التي تؤكد صحتها .

فهو مثلا تجنب الاشارة المباشرة الى اصل الانسان في كتابه اصل الانواع ,لان هذا الكتاب كما يقول :”كان سيلحقه ضرر كبير ,بل ما كان ليصادف أي نجاح لو اني استعرضت فيه ارائي التي اقتنعت بها بالنسبة لاصل الانسان ,من دون دعمها بالبراهين . وحين وجدت عددا كبيرا من المشتغلين بالتاريخ الطبيعي قد اصبحوا يتقبلون مبدا تطور الانواع وجدت من المناسب ان استغل البيانات والملاحظات التي جمعتها من قبل وان اعكف على ترتيبها وتفصيلها “حتى كان هذا الكتاب :”سلالة الانسان”الذي نشره عام 1871 أي بعد 12 عاما من صدور “اصل الانواع”ونتيجة منطقية له,ذكر فيه ان البشر والقرود يتحدرون من “جد مشترك”عاش في الازمنة القديمة وانقرض بعد ذلك ,لكنه اعتبر الانسان ارقى اشكال الحياة على الارض ,استطاع ان يسود على بقية الحيوانات بفضل مبدا”البقاء للاصلح”الذي لا يعني مجرد القوة فقط ,بل ايضا الملائمة والتكيف بين اعضاء الكائن الداخلية وبين ظروف البيئة التي يعيش فيها ,وبذلك ارتقى الانسان من المرتبة الحيوانية الى ماهو عليه الان .

وقد ركز في كتابه على امرين كما يقول ,الاول “ان يبين ان الانواع لم توجد منفصلة عن بعضها البعض ,والثاني ان الانجاب الطبيعي كان العامل الرئيسي في التغيير”.
وقد صدر هذا الكتاب”سلالة الانسان” بعد ان تجذرت نظرية التطور في الاوساط العلمية التي مثلها يومئذ افضل تمثيل ودافع عنها دفاعا مجيدا صديقه الطبيب وعالم الاحياء توماس هنري هكسلي في كتابه”موقع الانسان في الطبيعة”1863,خصوصا بعد الهجمات العنيفة التي تعرضت لها من اللاهوتيين وبعض رجالات العلم في بريطانيا واوربا ,وفي طليعتهم استاذه ادم سدجويك واسقف اوكسفورد ويلبرفورس.
ومن المؤسف ان بعض الجامعات والمؤسسات العلمية في مناطق عديدة من العالم _خصوصا العربية منها_مازالت تمتنع عن تقديم شروحات عن نظرية التطور الداروينية ,وفي ذلك ارتداد عن مسيرة العلم والتقدم والتطور الحضاري.
وبذلك فان التطوركعلم حقق انجازات عظيمة منذ داروين حتى اليوم