أول من يقرأ المنيو

محاكاة لوحة الصرخة لإدوارد مونخ في مزرعة بكتيريا E Coli

بعد قراءة هذه المقالة قد تفكر في تحويل المثل العربي القديم إلى “قل لي ما تأكل أقل لك ما هي البكتيريا التي تسكنك”.

شهوة الطعام هي جزء جوهري من حياتنا اليومية. وبالرغم من تهديد بعض الأطعمة (مثل السكريات، الدهنيات) لبقائنا، لا نستطيع مقاومة اشتهائها. العديد من الفرضيات اقتُرحت للإجابة على سؤال: لماذا نتوق إلى الأغذية غير الصحية؟ وقد نُشرت حديثا (2014) [1] دراسة تحاول الإجابة بطريقة فريدة ومثيرة إذ افترضت أن الميكروبات في قنواتنا الهضمية هي التي تؤثر في تفضيلات الطعام لدينا.

في إطار تطوري يحدث هذا نتيجة الصراع الجيني بيننا وبين هذه المخلوقات الدقيقة للحصول على مصادر الغذاء.

قد يظن البعض أن الميكروبات تحتلُّنا من الرأس إلى القدمين لمجرد حُب الإيذاء، لكن هذه الميكروبات التي تفوقنا من ناحية عدد الجينات بمائة ضعف في القناة الهضمية وحدها تسدي إلينا الكثير من الخدمات (مثل التغذية، المناعة).

في سبيل تفسير شيوع السمنة واشتهاء الأطعمة غير الصحية، طُرحت ثلاث فرضيات، وهي: فقد العزيمة (الإدمان)، الاختلاف البيئي، نقص مواد الغذاء.

1- فرضية فقد العزيمة [2] lack of power: كما في حالات إدمان الكحول والمخدرات، يمكن أن ندمن الطعام غير الصحي.

2- فرضية الاختلاف البيئي [3] environmental mismatch: من الخطأ أن نتوقع شبها كبيرا بين طعامنا وطعام الأسلاف، فطعامهم قليل الملح ويحتوي على كربوهيدرات بسيطة ودهون مشبعة. ترى هذه الفرضية أن سبب أمراض الحضارة (السمنة، السرطان، أمراض القلب والأوعية) هو الاختلاف البيئي بين مصادر طعامنا الحديث ومصادر طعام الأسلاف. في بيئة صعبة وشاقة، كان الأسلاف لا يجدون أكثر من النباتات قليلةِ الكربوهيدرات وبعض الطرائد. ولأنهم بذلوا جهدا كبيرا في الصيد والجمع كانوا يفضلون الأطعمة ذات الطاقة العالية. في العصر الحديث، لم تفلح الآليات الفسيولوجية في تنظيم أخذ/إنفاق الطاقة بحيث تناسب وفرة طعامنا وقلة نشاطنا فزادت حاجتنا إلى الأكل بلا جهد فصرنا سمانا!

برغم بديهية هذه الفرضية وترتيبها لا تعطي تفسيرا كافيا للتوق إلى الأطعمة غير الصحية في عصرنا. الشوكولاتة كمثال لا توفر أي حاجات غذائية ولم تكن معلومة لدى الأسلاف، لكننا نتوق إليها.

3- فرضية نقص موارد الغذاء [4] nutrient shortage: بعد الحرمان من الطعام، تطلب ذبابة الفاكهة نوعا معينا من الأغذية. لكن الأمر يختلف عند البشر، فهم يتوقون إلى الطعام حتى في أوقات الوفرة. أيضا، الصيام يقلل شهوة الأكل وهذا عكس ما تتنبأ به هذه الفرضية وكذا بعض الظواهر الغريبة عند الأطفال (أكل التراب geophagy).

إذن، مناطق الضعف في الفرضيات الثلاث السابقة أدت إلى اقتراح فرضية جديدة. هذه الدراسة تفترض أن للميكروبات في قنواتنا الهضمية دورا في التلاعب بتفضيلاتنا للغذاء لصالحها وعلى حساب بقائنا غالبا.

في الواقع، ثمة الكثير من الأدلة التي تدعم هذه الفرضية، ومنها:

1- هناك تأثير تحديدي للغذاء على الميكروبات:

الميكروبات في قنواتنا الهضمية تعتمد بشكل كبير على نوع معين من الأغذية. ميكروب البريفوتيلا prevotella مثلا ينمو أفضل إذا حصل على الكربوهيدرات. العصوانيات* Bacteroidetes تفضل الأطعمة الدهنية. الأطفال الأفريقيون الذين رُبوا على أكل السورغوم sorghum وُجدت لديهم بكتيريا متخصصة في هضم السليلوز.

2- تستطيع الميكروبات التلاعب بسلوك المُضيف (الذي تسكنه):

بالعودة إلى الشوكولاتة، الأشخاص المحبون للشوكولا لديهم نواتج أيضية ميكروبية في البول بخلاف الأشخاص الذين لا يهتمون بها. دراسة [5] عشوائية ثنائية التعمية* randomized double blind اكتشفت أن الأشخاص الذين شربوا البروبيوتيك Lactobacillus casei تحسَّن مزاجهم بعد أن كانوا في مزاجات سيئة. من أغرب الأمثلة في هذا المجال هو تأثير الطفيلي Toxoplasma gondii على الفئران. هذا الطفيلي الغريب يثبط الخوف الطبيعي في الفأر من رائحة القط لصالح الميكروبات الموجودة في جسم المضيف الجديد (القط). الفئران المصابة بهذا الطفيلي تثار جنسيا برائحة بول القطط، وهذا يسهل انتقال الطفيلي إلى القط على حساب بقاء الفأر. هذه استراتيجية ذكية جدا بالمناسبة.

3- الميكروبات تولد شعور الانزعاج الذي يجعل المُضيف يغير نوع غذائه:

دراسات حديثة [6] ربطت صراخ الأطفال بسبب المغص إلى تغيرات في ميكروبات قنواتهم الهضمية. فإذا كان الصراخ يوقظ الوالدين ويذكرهم بوقت الغذاء. فإن المغص قد يكون له دور في جلب مصادر الغذاء إلى القناة الهضمية، ومن ثم دخول الميكروبات.

4- الميكروبات تغير تعبير المستقبِلات receptors في المضيف:

وجود الميكروبات في القناة الهضمية له تأثير على استجابة المستقبلات العصبية، ومن هنا له تأثير على تفضيلات الطعام. يضح هذا الاستنتاج في تجربة اكتشفت أن الفئران الخالية من الميكروبات germ free mice تبدلت مستقبلات الدهون على ألسنها ومعداتها مقارنة بالفئرات الطبيعية. بعد جراحة المجازة* المعدية gastric bypass surgery لاحظ المرضى تبدل مذاقات الأطعمة لديهم. هذه العملية تغير ميكروبات المعدة فينتج تغير في تفضيلات الطعام.

5- الميكروبات تؤثر في المضيف عبر الهرمونات:

أكثر من نصف الدوبامين (ناقل عصبي مهم جدا) وأغلب سيروتونين الجسد (ناقل عصبي له دور في تنظيم الشهية والجنس والنوم والذاكرة والمزاج) تنشأ من الأمعاء. بكتيريا مثل الإشيريكية القولونية* E coli والمكورة العنقودية* Staphylococcus وأنواع أخرى وُجد أنها تصنع الدوبامين.

6- الميكروبات المعوية قد تسبب السمنة:

إحدى الدراسات وجدت أن الفئران المعرضة جينيا للسمنة لم تُصب بالسمنة عندما غُذيت بأطعمة خالية من الميكروبات. بينما  أصيبت بالسمنة عندما نقل إليها بُراز فئران سمينة، أو -في دراسات أخرى- براز بشر سمان!

7- البروبيوتيك probiotics تسبب نقص الوزن:

البروبيوتيك VSL#3 الذي يحتوي على اللاكتوباسيليس Lactobacillus قلل تناول الطعام عند الفئران. في دراسة [7] على 120000 ممرض/ة لمدة 12 إلى 20 عاما وُجد أن الزبادي yogurt هو الطعام الأكثر ارتباطا بنقصان الوزن. الزبادي يحتوي على ميكروبات عدة منها بروبيوتيك اللاكتوباسيليس والبكتيريا العقدية streptococci.

بعد تقديم أدلتها، تتنبأ الدراسة بنتائج، منها:

1- سيتغير سلوك الأكل بعد تغيير المحتوى الميكروبي في قناة المضيف الهضمية.

2- الميكروبات المتخصصة في طعام محدد ستؤثر على المضيف ليفضّل هذا الطعام.

3- الصراع الجيني بين المضيف والميكروبات سينتج سباق تسلح* جيني genetic arm race.

4- تفضيل الطعام قد يكون معديا: في دراسات سابقة، وجدوا أن الميكروبات البرازية fecal والفموية oral أكثر تشابها في أعضاء العائلة المتعايشين (القريبين من بعض) من الأعضاء غير المتعايشين. عندما يفضل شخص ما في العائلة نوعا محددا من الطعام سيؤثر في تفضيل طعام أعضاء العائلة الآخرين، وكذا أي ميكروب متخصص في هذا النوع من الطعام سينتقل إلى هؤلاء الأعضاء (قد تكون الوجبات الموحدة في العائلات بروتوكولا بكتيريًا!). دراسة عجيبة على 12067 شخصا قدَّرت فرصة أن يصاب أحد ما بالسمنة إذا صار أحد أصدقائه سمينا بـ 57%. هذه العدوى ليست عدوى اجتماعية social، بل هي عدوى حقيقية كما في حالات نزلة البرد [8] common cold.

* المصطلحات المتبوعة بهذه العلامة مترجمة من ويكيبيديا.

المصدر: مدونة ظهر مكشوف