إن كنتِ مثل العديد من الأمهات اللاتي يعتبرن تنظيف المنزل على رأس أولوياتهن وممن يولين تنظيف المنزل عناية قصوى، لحرصهن على سلامة أطفالهن وصحة عوائلهن (كأي أُم محبة)، فلحسن حظك، إن البحوث الأخيرة تشجعك على ترك إسفنجة التنظيف، وتشجعك على حياة أكثر إتساخاً (بقليل). ستكون تلك أخبار جيدة خصوصاً مع الترويج المستمر من الشركات المنتجة لمستحضرات التنظيف، وتهويلها (للأخطار المحدقة) من البكتيريا الخطيرة المتربصة والمحيطة بنا بكل مكان.

لا تقلقي، فنحن لا نتكلم عن ترك التنظيف تماماً والعيش فيما يشبه الحظائر، لاسيما وأن إهمال النظافة تماماً تفوق مساوئه المحاسن بالطبع، إلّا أن الباحثين قد إكتشفوا سبباً صحياً مهماً للتوقف عن المبالغة في التنظيف والتعقيم لكل أسطح المنزل، وهو ميكروبات طفلك!

ميكروباتنا والمناعة

ميكروباتنا (Microbiome) هي مجموع كل مستعمرات البكتريا التي تعيش على أبدانِنا وفي داخلها. وتتألف هذه المجاميع من مليارات البكتريا، وهي مسؤولة عن العديد من المهام الصحية الأساسية في أبداننا، مثل تحسين الهضم، والمساعدة على امتصاص المواد المغذية، وموازنة السكر في الدم وحتى تنظيم المشاعر، إلا أن أهم مهامها هو تهيئة (modulating) نظام المناعة.

لماذا تعد الميكروبات بتلك الأهمية لنظامنا المناعي؟

إن ما يقارب الـ 80% من نظامنا المناعي يكمن في الأمعاء، حيث تعيش وتنشط أغلب البكتريا في جسدنا. وهنا النَّبيتات الصديقة (friendly flora) والتي تدعى بالبكتريا التكافلية (probiotics) تزيح خارجاً بكتريا الأمعاء المضرّة، وتنتج فيتامينات معززة للمناعة وأجساماً مضادة، وتوصد جدران الأمعاء مانعة السموم والغازيات المؤذية من الدخول لمجرى الدم.

بدون عمل هذه الميكروبات المفيدة التي تعمل بجدٍ لصالحنا، فإن نظامنا المناعي يمكن أي يكون مقموعاً أو شديد التحفز، وفي كِلتا الحالتين لن نكون في أفضل أحوالنا.

إن نظاماً ميكروبياً صحياً ومتوازناً هو أساسيٌ بالطبع لتعزيز المناعة والصحة العامة، لكن؛ ما الذي يجعل جالية ميكروبية بتلك الأهمية لأنظمة الطفل النامية.

تطور نظام المناعة

قد يكون مفاجئاً معرفة أننا لا نولد بنظام مناعي تام النضج. ففي الرحم، يكون الطفل معرضاً للأجسام المضادة من والدته عبر المشيمة قبل الولادة، ويتعرض للميكروبات المفيدة من قناة الولادة (أثناء الولادة الطبيعية) ويجهزه حليب الرضاعة بكميات كبيرة من الأجسام المضادة الضرورية لنموه بعد الولادة.

هذه المناعة “السلبية” من الأم ميزة طبيعية مدهشة (وهي في غاية الأهمية كذلك)، لكنها لا تدوم إلى الأبد. فالطفل يحتاج لتطوير  مناعته وأجسامه المضادة الخاصة في بعد الأشهر الأولى من حياته.

إذن، كيف يتهيأ النظام المناعي للطفل لسلامته على المدى البعيد؟ يكمن الجواب مرة أخرى العالم الميكروسكوبي للميكروبات، فحين يتعرض الطفل لفصائل عديدة من الكائنات الميكروبية الموجودة في بيئته، فإن نظامه المناعي يتعلم كيفية الإستجابة بشكل سليم لها، مثله مثل إحتياج جسد الرياضي للتعرض لأنظمة تمرين مختلف لزيادة قوته.

لكن ما الذي يحدث إن لم يوجد ما يكفي من الميكروبات لـ”يتدرب” عليها جهاز المناعة بشكل سليم؟

فرضية النظافة (المفرطة) – (The Hygiene Hypothesis)

في عام 1989 إكتشف عالم الأوبئة ديفيد ستراتشان (David Strachan) أن عدد الأطفال في المنزل يؤثر بصورة مباشرة استجابات النظام المناعي للأطفال، ما يعني؛ أن الأطفال الذين يترعرعون في عوائل كبيرة مع أشقاء عديدين أظهروا نسبة أقل من التحفز المفرط لنظامهم المناعي – من الأطفال الذين يعيشون عوائل أصغر. إضافة لصغر العائلة فإن ستراتشان استنتج أن زيادة النظافة في المنزل تحتل دورها أساسياً في إضطراب الجهاز المناعي.

الأمر يجري كالتالي: كلما قل عدد الميكروبات التي يجلبها الأطفال إلى المنزل من مدارسهم وبيئتهم، وكلما زادت النظافة في المنزل، كلما أدى ذلك لتقليل التعرض للميكروبات، وبالتالي  “تدريب” أقل للجهاز المناعي للطفل الآخذ بالنمو.

بحسب ستراتشان فإن هذه الفرضية تفسر الزيادة الوبائية للحساسية المفرطة للمناعة، والتي لوحظت في الخمسين سنة الأخيرة.

إليك كيف يجري ذلك؛ إن التنظيف المفرط (خصوصاً بالمكونات القوية) يمحي البكتيريا، سواءً النافعة والضارة منها. وبيئة المنزل المجردة من النسبة العظمى من البكتريا تفتقر للبكتيريا لإنماء جهاز طفلك المناعي، مؤثرة على صحته على المدى البعيد.

لحسن الحظ، فقد وجد الباحثون طرقاً تساعد على تعريض أطفالنا للميكروبات الضرورية لحياة أصحّ ومناعة أفضل.

العيش في حياة غنية بالميكروبات

هنالك عدة خطوات تمكننا من الموازنة بين نظافة منازلنا وكذلك سلامة الجهاز المناعي لأطفالنا، ومنها:-

1- إتّسخي! فقد أشار بحث نشر مؤخراً إلى أن التعرض المباشر لأنواع عديدة من الميكروبات (خصوصاً في فترة الطفولة) يمكنه أن يعلم جهازك المناعي كيفية الإستجابة السليمة لأنواع مختلفة من البكتيريا في بيئتك. لذا؛ فلا تخافِ من الاتساخ، إذهبي إلى التخييم (إن إستطعت)، اقض وقتاً في الحديقة، تمرغي بالاطيان مع طفلك. جهازك المناعي المعزز سيشكرك على ذلك!

2- اغسلي الصحون يدوياً. تبين أن غسل الصحون باليد أفضل من استخدام غسالة الصحون، حينما يتعلق الأمر بموازنة الميكروبات وصحة الجهاز المناعي. فقد أجرى العلماء إحصائية غطت أكثر من ألف طفل سويدي، ووجدت أن الذين تقوم عوائلهم بغسل الصحون يدوياً، لديهم نسبة أقل من الاستجابات المفرطة للمناعة، مقارنة بالأطفال الذين تستعمل عائلاتهم غسالة الصحون. لِمَ ذلك؟ لأن غسالات الصحون تقوم بتعقيم الصحون تماماً وقتل جميع البكتيريا المفيدة خلال العملية، بينما الغسل اليدوي يبقي على بعض الميكروبات المفيدة.

3- لا تترددي في إظهار المودة. إن التقبيل والمداعبة والأحضان مع الطفل هو من أجمل ما في الأمومة، لكن يبدو أن البكتيريا التي تمررينها أثناء فعلك هي أمر مفید!، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بالرَضّاعة (اللهاية)، فجميعنا نعلم بتلك اللحظة المزعجة حينما يسقط الطفل رَضّاعته على الأرض، وحينها تهرع الأم الحريصة لتنظيفها بالماء المعقم والمغلي في كل مرة.

بشكل لافت؛ إكتشف الباحثون ان الاباء الذين يقومون بـ”تنظيف” الرَضّاعة بوضعها في أفواههم – إكتشفوا أن لأطفالهم عدداً أقل من خلايا الدم البيضاء أحصيت حين بلوغهم سن الـ18 شهراً، وكذلك زيادة الحماية من تطور حساسية مفرطة في جهاز المناعي لاحقاً في طفولتهم. وهذه الحماية المناعية يرجح أن سببها غالباً هو التعرض المستمر للميكروبات من أفواه والديهم. لذا قاومي الرغبة لتعقيم رضّاعة طفلك.

4- عيشي قرب (أو مع) الحيوانات. أظهر الباحثون أن التعرض للكلاب أو حيوانات المزرعة خلال سني العمر الأولى يرتبط بتطوير جهاز مناعة أصَحَ. سبب ذلك أن الحيوانات -كالبشر- تحمل الميكروبات التي يمكنها أن تساعد على “تدريب” جهاز المناعة لدى الإنسان.

5- تجنبي المنتجات المضادة للبكتيريا. إن المعقمات والمنظفات المضادة للبكتيريا والمُصَممة لقتل كل أنواع البكتيريا، لا تستهدف الميكروبات الضارة فقط، فهي تمحي في طريقها الميكروبات النافعة أيضاً، وهي تلك البكتيريا التي تحتاجها أمعاء طفلك لتعليم نظام المناعة كيفية الاستجابة. لذا إبقي مع المنظفات العادية والماء وأنواع الصابون الطبيعية -إن توفرت- ولا تنسي قراءة المكونات على منتجات التنظيف بحثاً عن السموم ومضادات البكتيريا (من الضروري قراءة المكونات والتأكد منها قبل الاستعمال في جميع المنتجات بشكل عام).

6- استخدمي المنتجات الحاوية على بكتيريا نافعة (probiotics). لأن هنالك العديد من أنواع البكتريا تنفعنا لننال نشاطاً مناعياً أفضل، لذا فإن من المنطقي تضمين العديد من البكتريا النافعة في نظام عائلتك الغذائي. فإن كنتِ مُرضعة، تأكدي من تناول التركيبات العالية الجودة الحاوية على البكتريا المفيدة- المخصصة للأمهات، فإن البكتريا المفيدة ستنتقل عبر الحليب لتطعيم أمعاء طفلك وجهازه المناعي. وإن تجاوز طفلك مرحلة الرضاعة، فإن المكملات الغذائية الحاوية على البكتريا المفيدة – المخصصة  للأطفال، هي خيار ممتاز، وحينما يبدأ طفلك بتناول الأطعمة الصلبة، يمكنك توسيع قائمة أغذيته لتشمل بعض الأغذية المخمرة اللذيذة وأطعمة المزارع الحاوية على البكتريا المفيدة.

المصادر:

  1. Strachan, D. P. (1989). Hay fever, hygiene, and household size. BMJ, 299(6710), 1259-1260. 
  2.  Arrieta, M., Stiemsma, L. T., Dimitriu, P. A., Thorson, L., Russell, S., Yurist-Doutsch, S., . . . Finlay, B. B. (2015). Early infancy microbial and metabolic alterations affect risk of childhood asthma. Science Translational Medicine, 7(307). doi:10.1126/scitranslmed.aab2271 
  3. Virant, F. S. (2015). Allergy in Children in Hand Versus Machine Dishwashing. Pediatrics, 136(Supplement). 
  4. Hesselmar, B., Sjoberg, F., Saalman, R., Aberg, N., Adlerberth, I., & Wold, A. E. (2013). Pacifier Cleaning Practices and Risk of Allergy Development. Pediatrics, 131(6). 
  5. Fall, T., Lundholm, C., Örtqvist, A. K., Fall, K., Fang, F., Hedhammar, Å, . . . Almqvist, C. (2015). Early Exposure to Dogs and Farm Animals and the Risk of Childhood Asthma. JAMA Pediatrics, 169(11). 
  6. Stein, M. M., Hrusch, C. L., Gozdz, J., Igartua, C., Pivniouk, V., Murray, S. E., . . . Sperling, A. I. (2016). Innate Immunity and Asthma Risk in Amish and Hutterite Farm Children. New England Journal of Medicine, 375(5), 411-421.
  7. Bokulich NA1Chung J1Battaglia T1Henderson N1Jay M2Li H3D Lieber A1Wu F2Perez-Perez GI4Chen Y2Schweizer W5Zheng X6Contreras M1Dominguez-Bello MG1Blaser MJ7. Antibiotics, birth mode, and diet shape microbiome maturation during early life.  U.S. National Library of Medicine, 2016 Jun 15.
  8. Bill Hesselmar, Fei Sjöberg, Robert Saalman, Nils Åberg, Ingegerd Adlerberth, Agnes E. Wold, Pacifier Cleaning Practices and Risk of Allergy Development, American Academy of Pediatrics, June 2013.
  9. Michelle M. Stein, B.S., Cara L. Hrusch, Ph.D., Justyna Gozdz, B.A., Catherine Igartua, B.S., Vadim Pivniouk, Ph.D., Sean E. Murray, B.S., Julie G. Ledford, Ph.D., Mauricius Marques dos Santos, B.S., Rebecca L. Anderson, M.S., Nervana Metwali, Ph.D., Julia W. Neilson, Ph.D., Raina M. Maier, Ph.D., Innate Immunity and Asthma Risk in Amish and Hutterite Farm Children, The New England Journal of Medicine, August 4, 2016.
  10. Jack Gilbert, Ph.D., and Rob Knight, Ph.D., with Sandra Blakeslee, St. Martin’s Press, “DIRT IS GOOD The Advantage of Germs for Your Child’s Developing Immune System”, June 6 2017.
  11. Strachan DP1. “Hay fever, hygiene, and household size.” BMJ. 1989 Nov 18.
  12.  Okada, C Kuhn, H Feillet, and J-F Bach, “The ‘hygiene hypothesis’ for autoimmune and allergic diseases: an update”, Clin Exp Immunol. 2010.