هل هناك  ما هو خالد في الوجود ؟ وهل نبني البيوت الى الابد ؟ وهل تبقى الكراهية في الناس الى الابد ؟

هذه الاسئلة التي طرحت في ملحمة كلكامش خلال حديث بين الحكيم وكلكامش، لم تتغير كثيراً، وكان هناك في الاساطير المختلفة او الادبيات الشعبية ذلك الشخص الحكيم الذي يذكر الساعي نحو الخلود بفناءنا، وان البقاء في احيان كثيرة عذابٌ ليس الا ..

ومن الادبيات الشعرية التي تحضرني ما يقوله الشاعر العربي ابو العتاهية:

وأراك تلتمس البقاء وطوله .. لك مهرم ومعذب ومذيب

والامر كذلك على الصعيد الخلوي، كما ذكرنا في الجزء الاول من السلسلة، حيث تهرم الخلايا وتموت بعد عدد من الانقسامات ولكن على صعيد اخر الخلايا السرطانية لا تموت ان توفرت لها الظروف الملائمة للاستمرار بالانقسام، حيث ان الانزيم الذي يعمل على إطالة التوليمرات يعمل بصورة دائمة، وبالتالي يكون انقسام الخلايا السرطانية غير مسيطر عليه، في هذا الجزء سنحاول التعرف على كيفية تجنب خلايا السرطان للموت المحتوم .

هناك طريقان للموت الخلوي، النخر (Necrosis) ( وهو موت الخلية بسبب التعرض الى عامل خارج الخلية ) و الموت المبرمج او الاستماتة (apoptosis)  ( وهو موت الخلية بسبب اشارة او خلل داخل الخلية ) يمكننا ايضا استخدام مصطلح الانتحار الخلوي ايضاً، ولكن هذا الانتحار يخضع لقوانين واشارات صارمة لحماية الخلية.

تخيل انك تملك مجموعة من السكاكين الحادة، ولأنك تملك طفلاً مشاغباً تحفظها بعيداً حتى لا يؤذي نفسه، ولكن عند تعرض البيت لسطو مسلح، فأنك لا تتردد في استعمال هذه السكاكين للدفاع عن نفسك وعن طفلك  الامر مشابه للخلية فهي تحتفظ بهذه السكاكين في مكان أمن، ولكن عند حصول خلل داخلي فإنها تقوم باطلاق هذه السكاكين وتدمير نفسها.

فعند وصول الاشارة انه عدد الانقسامات قد وصل الى الحد المسموح، وأن الخلية بدأت بالشيخوخة، تنطلق هذه السكاكين التي تسمى بروتياز، وتبدأ بتمزيق البروتينات، واجزاء الخلية المهمة، ومن ثم تأتي نوعية اخرى من السكاكين تسمى دناياز، وتبدأ بتدمير الحمض النووي في نواة الخلية، ونتيجة لهذا الانتحار تبدأ الخلية في الاضمحلال والانكماش وترسل الاشارات الى خلايا تابعة الى الجهاز المناعي يمكن تشبيهها بالمكانس الكهربائية تسمى الخلايا البلعمية، التي تقوم بسحب الخلية المنكمشة وتنظيف اثارها لضمان عدم بقاء اي اثر للخلايا المنتحرة.

تلعب المايتوكوندريا (بيوت الطاقة) دورا اساسيا في عملية تقرير مصير الخلية، فأن ساعة الصفر في إطلاق هذه السكاكين تبدأ مع حصول بعض الثقوب في جدران المايتوكوندريا، ومن خلال هذه الثقوب تتحرر بروتينات المايتوكوندريا الى الخلية ما يحفز هذه الثقوب هو بروتينات اسمها باكس BAX، لتبدأ عملية الانتحار.

عملية الموت المبرمج للخلية مهمة لنا ككائنات حية على العكس من عملية النخر، فالموت المبرمج هو السبب البايلوجي بأننا نمتلك عشر اصابع، حيث اننا في بداية تكوننا كأجنة، تكون اصابعنا متصلة، ولكن دخول الخلايا بين الاصابع بعملية الموت المبرمج، يؤدي الى تكون الفراغات بينها. من الامثلة الاخرى على اهمية الموت المبرمج هو ان الخلايا التي يتم مهاجمتها من قبل الفايروسات مثلا، تدخل عملية الانتحار لحماية باقي اعضاء الجسم، كذلك الخلايا التي تحتوي على خلل في الشفرة الجينية من الممكن ان تضحي بنفسها.

عملية الموت المبرمج تضمن التجدد في اجسامنا، وكما هي الحياة، نموت لنترك مكاننا لغيرنا، فأن الخلايا تصل اجلها، وتختار الانتحار لتحل محلها الخلايا الجديدة، وهي ما يتيح لخلايا البشرة لدينا بالتجدد، او لخلايا الشعر وغيرها.

الخلايا الجديدة تتكون بسبب الانقسام الخلوي كما ذكرنا سابقاً، وان التوازن بين عملية الانقسام والموت المبرمج للخلايا هو ما يضمن للنسيج والعضو العمل بلا مشاكل، ولكن مع اختلال التوازن، تبدأ المشاكل، واختلال التوازن يكون بسبب التقدم بالعمر ووصول الخلايا الى حدها المقرر من الانقسامات وبالتالي تبدأ بالموت المبرمج، او يحدث اختلال التوازن بسبب التعرض الى عوامل خارجية او طفرات جينية.

فإن رجحت كفة الموت المبرمج، بسبب طفرة جينية او عامل خارجي فأن الخلايا التي تعمل بصورة جيدة ولم يصل اجلها تبدأ بالانتحار ايضاً، مما يؤدي الى امراض عديدة كالزهايمر او الباركنسون. على جانب اخر ان تعطلت كفة الموت المبرمج، تنقسم الخلايا بشكل غير مسيطر عليه، وتأبى الخلايا الانتحار حتى مع تراكم الطفرات في بعض انواع السرطان.

محاولة فهم كيف يمكن للخلايا السرطانية التهرب من الموت المبرمج، ومقاومته كانت الاساس في الاف البحوث المنشورة، وهو احد اهم اركان علم الاحياء الجزيئية، لأن فهم هذه الالية كان وما زال الاساس في عملية علاج السرطان وقتل الخلايا السرطانية.

من اهم ما تقوم به الخلايا السرطانية لتجنب الموت المبرمج هو انتاجها لبروتينات مضادة لهذه العملية تسمى مضادات الموت المبرمج، تجبر هذه البروتينات الخلية على المواصلة بالانقسام رغم وجود الخلل الجيني، وعدم ارسال الاشارة الى السكاكين الخلوية بعدم صلاحية الاستمرار بالانقسام.

في العام 2003 قامت مجموعة بحثية بتعريض خلايا مأخوذة من الرئة الى كميات من النيكوتين نفس التي يتعرض لها المدخنون، ما وجدوه أن هذه الخلايا قامت بزيادة فعالية في مسار خلوي يمسى مسار Akt يعمل هذا المسار على زيادة نمو الخلايا وزيادة انقسامها ويسهم بإطالة العمر الخلوي، وعندما يكون هذا المسار فعالاً تتجنب الخلايا الموت المبرمج وتستمر بالنمو.

بعد مقارنة نسب بروتين هذا المسار مع انسجة لمصابين في سرطان الرئة، وكذلك الفئران المصابة بالسرطان، وجدوا الزيادة نفسها في فاعلية هذا المسار، فكانت هذه الدراسة الدليل الخلوي الاول أن النيكوتين يعمل على تحفيز الخلايا الى الهرب من الموت المبرمج، وبالتالي الانقسام المتواصل وتحولها الى خلايا سرطانية.

العمل على فهم اليات الموت الخلوي المبرمج فتح باباً جديدا لعلاج السرطان ففي العام 2015، تمكن العلماء من استخلاص مركبات من ازهار النيلوفر الصفراء، وهو نبات مائي معمر ينمو في المياه الراكدة تشبه الى حد ما زهرة النيل، وعند دراسة هذه المركبات، وجدوا ان لها القابلية على احداث الموت الخلوي بصورة اسرع في خلايا سرطان الدم.

قبل بضعة اشهر، اكتشف العلماء لأول مرة مركبات تعمل على اجبار الخلايا السرطانية لدخول الموت الخلوي المبرمج دون التأثير على الخلايا السليمة، تعمل هذه المركبات عن طريق تفعيل حدوث الثقوب في جدران المايتوكوندريا، وزيادة كميات بروتينات باكس وبالتالي اخراج السكاكين الخلوية من مكان حفظها واجبار الخلية السرطانية على استخدامها والانتحار، كانت هذه الطريقة فعالة على خلايا سرطان الدم، ولا زال العمل مستمر لدراسة هذه المركبات بصورة اوسع، وتقديمها الى التجارب السريرية.

عندما اختارت الخلايا السرطانية ان تتصرف بأنانية، وتهرب من الموت، دفعنا نحن الثمن بفقد اعزة ومعاناة من اجل ايجاد علاج لهذا المرض، ربما هي نفسها العبرة المتكررة منذ فجر التاريخ، مستوحاة على مستوى خلوي ..

زرعوا فأكلنا .. ونزرع فيأكلون ..

وكما وجدنا المجال، علينا ان نترك المجال بعدنا ..

ونستمر في الرحلة في الحلقة القادمة .. الى ذلك الحين .. دمتم سالمين

للمزيد

West KA, Brognard J, Clark AS, et al. Rapid Akt activation by nicotine and a tobacco carcinogen modulates the phenotype of normal human airway epithelial cells. Journal of Clinical Investigation. 2003;111(1):81-90. doi:10.1172/JCI200316147.

Yamunadevi Subburaj, Katia Cosentino, Markus Axmann, Esteban Pedrueza-Villalmanzo, Eduard Hermann, Stephanie Bleicken, Joachim Spatz, Ana J. García-Sáez. Bax monomers form dimer units in the membrane that further self-assemble into multiple oligomeric species. Nature Communications, 2015; 6: 8042 DOI: 10.1038/ncomms9042

Jimmy Wu et al. Total Syntheses and Biological Evaluation of Both Enantiomers of Several Hydroxylated Dimeric Nuphar Alkaloids†. Angewandte Chemie International Edition, July 2015 DOI: 10.1002/anie.201503934

Evripidis Gavathiotis et al. Direct activation of BAX by BTSA1 overcomes apoptosis resistance in acute myeloid leukemia. Cancer Cell, October 2017 DOI: 10.1016/j.ccell.2017.09.001