لا يزال تاريخ علم الأعصاب الحديث يُكتب حتى يومنا هذا، وما سنتحدث عنه مستقبلاً في هذه السلسلة ما هو إلَّا حصيلة إنجازاته حتى اليوم. وقبل أن نفعل ذلك، لنلقِ نظرةً حول الطريقة التي تتم بها الأبحاث المتعلقة بالدماغ اليوم ولماذا هي مهمةٌ للمجتمع.

مستويات التحليل

لقد أظهر لنا التاريخ بشكلٍ جليٍّ أنَّ فهمَ عملِ الدماغ ليس بالأمر الهين، بل هو تحدٍ ضخمٍ. وبالتالي، فمن أجل تقليل تعقد المشكلة، يقوم علماء الأعصاب بتقسيمها إلى أجزاءٍ صغيرةٍ قابلةٍ للتحليل التجريبي والمنهجي. وتُسمى هذه الطريقة بـ “المنهج الاختزالي”. حيثُ يُحدد مقدار وحدة الدراسة ما ندعوه بـ “مستويات التحليل”. وتنقسم هذه المستويات إلى، طبقاً لترتيبٍ تصاعديٍّ حسب التعقيد، جزيئية ثم خلوية ثم نظامية ثم سلوكية وأخيراً إدراكية.

علم الأعصاب الجزيئي

لقد تم اعتبار المخ كأكثر قطعة معقدةٍ من المادة في الكون. حيث تتكون المادة المخية من تنوعٍ مذهلٍ من الجزيئات، العديد منها فريدٌ ومميزٌ للجهاز العصبي. تلعب هذه الجزئيات المختلفة أدواراً متنوعةً وضرورية لوظيفة الدماغ: مثلاً، تسمح النواقل (أو الرسل) الكيميائية للخلايا العصبية بالتواصل مع بعضها البعض، وحراساً لتنظيم دخول وخروج المواد من الخلايا العصبية، ومايسترو ينسق ويُناغم بين نمو العصبونات، وأمناء للأرشيفات التي تحتوي على الخبرات السابقة. ولذلك، فإنَّ دراسة الدماغ على هذا المستوى الأَوَّلِيّ تُسمى علم الأعصاب الجزيئي.

علم الأعصاب الخلوي

المستوى التالي من التحليل بعد علم الأعصاب الجزيئي هو علم الأعصاب الخلوي، والذي ينصب اهتمامه على دراسة كيفية عمل جميع هذه الجزيئات معاً لتُعطي الخلايا العصبية خصائصها المميزة. يطرح هذا المستوى من التحليل أسئلة من قبيل: كم عدد الأنواع المختلفة من الخلايا العصبية، وكيف يختلفون في وظائفهم؟ كيف تؤثر الخلايا العصبية على نظرائهم الآخرين؟ كيف ترتبط هذه الخلايا معاً أثناء النمو الجنيني؟ كيف تقوم الخلايا العصبية بإجراء الحسابات؟

 علم الأعصاب النظامي

تُشكل تجمعات الخلايا العصبية دوائرَ معقدةً والتي تشترك في أدائها الوظيفي، مثلاً الرؤية أو الحركات الإرادية. وبالتالي، فبإمكاننا التحدث عن “الجهاز البصري” و”الجهاز الحركي”، باعتبار أنَّ لكل منهم دوائره الخاصة والمميزة بالدماغ. وعند هذا المستوى التحليلي، أي علم الأعصاب النظامي، يدرس علماء الأعصاب كيفية تحليل الدوائر العصبية المختلفة للمعلومات الحسية، تكون إدراكاً للعالم الخارجي، صنع القرارات، وتنفيد الحركات.

علم الأعصاب السلوكي

تشمل الأسئلة التي يطرحها هذا المجال: كيف تعمل الشبكات العصبية معاً لإنتاج سلوكيات متكاملة؟ فعلى سبيل المثال، هل ترتكز الأشكال المختلفة للذاكرة على أنظمة متنوعة؟ أين تعمل العقارات “المسببة للهلوسة” بالدماغ، وما هو الإسهام الطبيعي لهذه الأنظمة في تَنسِيق السلوك والحالة النفسية؟ ما هى الأنظمة المختصة بالسلوكيات المميزة للجنس (ذكر أو أنثي .. إلخ)؟ أين تنشأ الأحلام وعما ماذا تكشف؟

علم الأعصاب الإدراكي

يُمثل فهم الآليات العصبية المسئولة عن المستويات العليا للنشاط العقلي الإنساني، أعظم تحدٍ لعلم الأعصاب، وتشمل التخيل، اللغة، والوعي الذاتي. ويدرس هذا المجال كيفية نشأة “العقل” كنتاج لعمل ونشاط الدماغ.

علماء الأعصاب

بشكل عام، ينقسم البحث في علم الأعصاب (بل وعلماء الأعصاب) إلى ثلاثة أنواع: نظري، تجريبي، وسريري. يقوم الأطباء بشكل رئيسي بالأبحاث السريرية. تشمل التخصصات الطبية الرئيسية بالجهاز العصبي البشري: طب الأمراض العصبية، الطب النفسي، جراحة الأعصاب، وأمراض الأعصاب. ويستمر العديد من الأطباء بالسير على خُطى “بول بروكا”، محاولين الاستنتاج من التأثيرات السلوكية الناتجة عن تلفٍ وضررٍ بالدماغ على وظيفة الأجزاء المختلفة به. ويقوم الآخرين بإجراء الدراسات لتقييـم المخاطر والفوائد للأنواع الجديدة من العلاجات.

وبرغم القيمة الواضحة للأبحاث السريرية، فإنَّ الأساس الذي تستند عليه جميع العلاجات الطبية للجهاز العصبي هى الأبحاث التي يقوم بها علماء الأعصاب التجريبيون. ويتسع نطاق الطرق التجريبية لدراسة الدماغ للدرجة التي تشمل كل منهجية بالإمكان تخيلها. وبالرغم من علم الأعصاب متعدد التخصصات، فإنَّ الخبرة بمنهجية معينة قد تميز بين عالم أعصاب وآخر. ولذلك، فهناك مثلاً علم التشريح الأعصاب الذين يستخدمون مجاهرَ (ميكروسكوبات) متطورة لتتبع الروابط والاتصالات العصبية بالدماغ؛ وعلماء الفسيولوجيا العصبية الذين يستخدمون أقطاباً كهربائية لقياس النشاط الكهربائي بالدماغ؛ وعلماء الأدوية العصبية الذين يستخدمون الأدوية لدراسة كيمياء وظائف المخ؛ وعلماء الأحياء العصبية الجزيئية الذين يدرسون المواد الوراثية للخلايا العصبية لفهم هيكل الجزيئيات الكيميائية الدماغية.

بينما يعتبر علم الأعصاب النظري فرعاً حديثاً نسبياً، حيثُ يقوم المتخصصين به باستخدام الأدوات الرياضية والحاسوبية لفهم الدماغ على جميع مستويات التحليل. واقتداءً بالفيزياء، يحاول علماء الأعصاب النظريون إنشاء روابط وصلات لفهم القدر الهائل من المعلومات الناجمة عن العلماء التجريبيـن، وذلك بهدف تركيز التجارب على الأسئلة الأكثر أهميةً، وصياغة مبادئ رياضية تفسر وتشرح تنظيم الجهاز العصبي.

العملية العلمية

يسعى علماء الأعصاب من جميع المجالات لإنشاء الحقائق بشأن الجهاز العصبي. وبغض النظر عن المستوى التحليلي الذي يختارونه، فإنهم يعملون طبقاً لعمليةٍ علميةٍ تتكون من أربع خطوات ضرورية: الملاحظة، التكرار، التفسير، والتحقق.

الملاحظة

تتم الملاحظات في الغالب خلال التجارب، والتي يتم تصميمها بعناية لاختبار فرضياتٍ معينةٍ. على سبيل المثال، افترض “بل” أنَّ الجذور الأمامية (البطينية) تحتوي على أليافٍ عصبيةٍ للتحكم بالعضلات. ولاختبار هذه الفكرة، قام بإجراء تجربةٍ حيثُ قطع هذه الألياف ثم لاحظ ما إذا كان الشلل العضلي هو التأثير الناتج أم لا. وتنبع الأنواع الأخرى من الملاحظة عبر مشاهدة العالم من حولنا بعناية، أو عن طريق الاستبطان، بالإضافة للحالات السريرية البشرية. مثلاً، ملاحظات “بول بروكا” الدقيقة قادته إلى ربط التلف بالفص الأمامي الأيسر بفقدان القدرة على الكلام.

التكرار

أي ملاحظة، سواء كانت تجريبية أو سريرية، يجب تكرارها. يعني التكرار بكل بساطة إعادة التجربة على أشخاص مختلفين، أو القيام بملاحظات مماثلة على مرضى مختلفين، عدة مرات حسب الضرورة وذلك لاستبعاد إمكانية حدوث الملاحظة بالصدفة.

التأويل والتفسير

بمجرد أنْ يعتقد العالم بصحة الملاحظة، يقوم هو أو هى بتفسيرها. يعتمد التفسير على حالة المعرفة (أو الجهل) في ذلك الوقت، إلى جانب المفاهيم المسبقة للعالِم. ولذلك، فلا تصمد التفسيرات أمام اختبار الزمن. مثلاً، لم يدرك “فلورنس” أنَّ مخ الطيور كان مختلفاً بشكل جوهري عن مخ الثدييات، في الوقت الذي أجرى به ملاحظاته. وبالتالي، فقد استنتج بصورة خاطئة من الاستئصالات التجريبية بالطيور، عدم توطن الوظائف المخية بأمخاخ الثدييات. علاوة على ذلك، وكما ذكرنا مسبقاً، فإنَّ كراهيته العميقة لـ “جال” قد صبغت تفسيره بالتأكيد. إنَّ المغزى هو أنَّ التفسير الصحيح لا يتم إلَّا بعد مضي فترة طويلة من الملاحظات الأصلية. وبالطبع، تحدث أحياناً اكتشافاتٍ وطفراتٍ كبيرةٍ وذلك بإعادة تفسير الملاحظات القديمة في ضوء جديد.

التحقق

إن الخطوة النهائية في العملية العلمية هى التحقق. وتختلف هذه الخطوة عن التكرار الذي أجراه المُلاحِظ الأصلي. حيثُ يَعني التحقق أنَّ الملاحظة قوية بما فيه الكفاية بحيث أنَّ أي عالم كفؤ إذا اتبع بدقة بروتوكولات المُلاحِظ الأصلي فبإمكانه الحصول على نفس النتائج. يؤدي التحقق الناجح إلى قبول الملاحظة كحقيقة. برغم ذلك، فلا يُمكن التحقق من جميع الملاحظات إما لعدم الدقة أحياناً بالتقرير الأصلي أو عدم القدرة على تكرار الملاحظة مرة أخرى. ولكن ينشأ الفشل في التحقق عادةً من حقيقة أنَّ العديد من المتغيرات غير المُدرَكة، مثلاً درجة الحرارة أو الوقت من اليوم، بإمكانها الإسهام للنتائج الأصلية. وهكذا، فإنَّه إذا ثبتت عملية التحقق بالإيجاب، فإنها تؤسس حقيقة علمية، وإذا ثبتت بالنفي فإنها تقترح تفسيراً جديداً للملاحظة الأصلية.

تكلفة الجهل: اضطرابات الجهاز العصبي

مما لاشك فيه أنَّ تكلفة البحث العلمي لعلم الأعصاب الحديث مرتفعة، ولكن تكلفة الجهل بخصوص الدماغ هى أكثر كثيراً. لنأخذ بعض الأمثلة على اضطرابات الجهاز العصبي ونفحص تأثيرهم على المجتمع.

يتميز كلاً من مرض الْزهايمر وباركنسون بالضمور التدريجي لخلايا عصبية معينة بالدماغ. يؤدي مرض باركنسون إلى ضعفٍ مشلٍ للحركات الإرادية، ويصيب حالياً ما يزيد عن 500.000 أمريكياً. يؤدي الزهايمر إلى “الخرف”، وهو حالةٌ من الارتباك مميزة فقدان القدرة على اكتساب معلومات جديدة واستدعاء المعلومات السابقة. يُصيب الخرف حوالي 18% من الأشخاص الذين تجاوزوا سن الخامسة والثمانين، حيث يعاني ما يزيد عن حوالي 4 ملاييـن أمريكياً منه. نُدرك الآن أنَّ الخرف ليس نتيجة حتمية للتقدم بالسن، كما كان يُعتقد سابقاً، ولكنه دلالة على مرض بالدماغ. يتفاقم مرض الزهايمر بلا رحمةٍ، ناهباً ضحاياه من أولاً من عقولهم، ثم حركاتهم الإرادية الأولية، وأخيراً حياتهم؛ الزهايمر دائماً مميت. في الولايات المتحدة، تبلغ تكلفة الرعاية السنوية للأشخاص المصابين بالخرف لما يزيد عن 100 مليار دولار، بل وتزداد بمعدل ينبئ بالخطر.

يعتبر الاكتئاب والفصام (الشيزوفرينيا) اضطراباتٍ بالحالة النفسية والتفكير. يتميز الاكتئاب بفيضان من مشاعرَ الانكسار والحزن، انعدام القيمة، والذنب. من المتوقع أنْ يُصاب أكثر من 30 مليون أمريكيٍّ باكتئاب مرضيٍّ شديد عند مرحلة معينة من حياتهم. بالإضافة، يُمثل الاكتئاب السبب الرئيسي للانتحار، حيثُ يخطفُ ما يزيد عن 30.000 حياةٍ كل عام بالولايات المتحدة.

يتميز الفصام والذي عبارة عن اضطرابٍ نفسيٍّ شديد، بالأوهام والهلوسات والسلوكيات الغريبة. وللأسف، فإنَّه غالباً ما يضرب الأشخاص في ريعان حياتهم (بالمراهقة وبداية سن البلوغ)، ويُمكن أنْ يستمر مدى الحياة. ويقدر المعهد القومي للصحة العقلية أنَّ الأمراض العقلية مثل الاكتئاب والفصام، تكلف الولايات المتحدة ما يفوق 150 مليار دولار سنوياً.

تتأثر تقريباً كل عائلة في الولايات المتحدة الأمريكية إما بإدمان الكحول أو المخدرات. وتقدر التكلفة الناتجة من حيثُ العلاج، الأجور الضائعة، أو العواقب الأخرى ما يزيد عن 600 مليار دولار سنوياً.

من الواضح إذاً أنَّ تكلفة الأمراض العقلية هائلة، ولكنها لا تساوي شيئاً مقارنةً بالأضرار العاطفية المهولة على الضحايا وعوائلهم. يتطلب منع وعلاج الاضطرابات العقلية فهماً للوظيفة الطبيعة للدماغ، وهذا الفهم الأساسي هو هدف علم الأعصاب. ولقد ساهم علم الأعصاب بالفعل في تطوير علاجاتٍ أكثر فعاليةً لمرض باركنسون، الاكتئاب، والفصام. بل ويتم اختبار استراتيجيات جديدةٍ لإنقاذ الخلايا العصبية المحتضرة بمرض الزهايمر ومن أصيبوا بالسكتات الدماغية. ولقد أحرزنا تقدماً كبيراً في فهم كيفية تأثير الكحول والمخدرات على الدماغ وكيف ينتج السلوك الإدماني. لكنْ ما نعرفه اليوم لا يمثل سوى مقداراً صغيراً مقارنةً بما لا يزال علينا تعلمه.

 

المصدر:

Bear, M. F., Connors, B. W., & Paradiso, M. A. (2016). Neuroscience: exploring the brain. Philadelphia: Wolters Kluwer.