الانسان يعلو على الحتمية الوراثية

 

 

بقلم: حيان الخياط

تفاعل الطّفل وعيشه مع والدين يتحدّثان إليه كثيراً، ينمّي لديه مهارات لغويّة أفضل، والعكس صحيح، أي أنّ الطفل الذي يقل معدل حديث والديه معه، تطول المدّة التي يتقن فيها كلامه.

ملاحظة عامّة ستبين أنّ السّبب في ذلك بيئي بحت وينحصر في نطاق تعامل الأهل مع الطفل، لكن نظرة أكثر عمقاً ستبين أن السبب الذي يجعل الوالدين ثرثارين هو نفسه الذي يجعل الطفل يملك مهارة لغويّة جيدة، إنّها الجينات التي تنتقل من الوالدين إلى الطفل.

البشر والجينات
تأثير الجينات على الإنسان واضح جداً، فهي التي تحدّد الجنس، لون البشرة، لون العينين، السّمنة، الصحّة، المرض، الشخصيّة، والكثير من الأمور المختلفة. ومثل هذه الخصائص لا تثير أيّة ضجّة، لكن ما إن يبدأ الحديث عن الذّكاء والاختلاف في القدرات والقابليات الإنسانية الأخرى فإنّ البعض يتغاضى عن “أنّ العقل نتاج المخ، وأنّ المخّ ينتظم جزئيّا بوساطة الجينوم، وأنّ الجينوم قد شكله الانتخاب الطبيعي” كما يعبر العالم ستيفن بنكر. وما سنبيّنه يعتمد على أنّ الإنسان لديه معلومات محدّدة في الجينات انتقلت إليه من والديه، وفي الوقت نفسه وجدت هذه الجينات واكتسبت وظيفتها من خلال احتكاك الإنسان بالعالم الخارجي. وهذا يعني عدم وجود حتميّة وراثيّة بأيّ شكل من الأشكال.

ولتعميق فهمنا للجينات ننقل كلاماً مطولاً للعالم مات ريدلي: “هناك جينات لم تتغيّر كثيراً منذ أن انتشرت باكورة أوّل الكائنات وحيدة الخليّة لتعمر الحمأة الأولى. وهناك جينات نشأت عندما كان أسلافنا يشبهون الدود. وهناك جينات لابد أنّها ظهرت لأوّل مرّة عندما كان أسلافنا سمكا. وهناك جينات لا توجد في شكلها الحالي إلا بسبب أمراض وبائيّة حديثة. وهناك جينات يمكن استخدامها لكتابة تاريخ الهجرات البشريّة في الآلاف المحدودة الأخيرة من السّنين. ومنذ أربعة بلايين عام حتى مئات معدودة فحسب من الأعوام، والجينوم يشكل نوعا من السيرة الذاتية لنوعنا، مسجلا الأحداث المهمّة كما وقعت؟” (الجينوم/السيرة الذاتية للنوع البشري ص 8.)

ما هي الحتميّة؟
الحتميّة أطروحة قديمة، يمكن وصفها بأنّها مجموعة القوانين أو علاقات الأسباب بالنّتائج التي تتحكّم بكامل كيان الإنسان، فمع الحتميّة تغدو الإرادة الحرّة للإنسان من الأوهام الجميلة والمثالية، وقد عرفت أنواع متعدّدة من الحتميّة، مثل الحتميّة التاريخيّة، الحتمية الاقتصاديّة، الحتميّة الوراثية وغيرها، ونحن سنركز على مسألة الوراثة والجينات لأنّها تملك رصيداً علمياً تجريبياً لا مجال لتعارض الآراء فيه، ونحاول أن نوضح أو نزيل اللبس الذي علق بأذهان الكثيرين ممّن يظنون أنّ وجود معلومات في الجينات هي التي تحدّد سلفاً ما سيكون عليه الإنسان، وهو ما يطلق عليه الحتميّة الوراثيّة.

سبب رفض النّاس للتّفسير الجيني
إنّ العلم وسيلة إنسانيّة للمعرفة، فهو يساعدنا على استكشاف الواقع حولنا، وهو الوحيد القادر على الاستفادة من فضولنا وتوجيهه وحبّنا للمعرفة. لكن معظم النّاس يعارضون نتائج العلم عندما لا تعجبهم أو تعارض ما يتبنّونه من أفكار عتيقة، مع أن الدليل يقف إلى جانب العلم دائماً. وأنّ القضايا العلميّة غالبا ما تلاقي معارضة شديدة من قبل مختلف الفئات، سواء عامة النّاس أو المثقّفين، وكمثال نلاحظ أنّ تأثير الجينات على الإنسان، تجابه بمعارضة ونفور شديدين.
الجدير بالذكر أنّ من يعادون تأثير الجينات قد فهموا الموضوع بشكل خاطئ، وقاموا بتحميل العلم نتائج هذا الفهم الخاطئ بالذّات، وقد يكون لاستغلال العلم من قبل أشخاص يتبنّون الأفكار العنصريّة ضدّ السّود والنظرة الاستعلائيّة التي تبناها أدولف هتلر في مسألة أفضليّة الجنس أو العرق الجرماني ودوره الكبير في رد الفعل والشعور بأنّ الحتميّة الجينيّة فكرة خطرة يجب محاربتها، لما تركته من آثار ونتائج سيئة السّمعة.

تصحيح فهم النّاس للحتميّة الوراثيّة 
يمكننا ان نعرف الحتمية الوراثية (كما يفهمها معارضوها) بأنّها الفكرة التي تطرح الجينات كسبب لسلوك البشر وخصائصهم وصفاتهم. أمّا دور العوامل الأخرى مثل البيئة، التربية والثقافة فهو محدود جداً أو معدوم من الأساس.
ولكي نشرح موضوع الجينات وكيف تؤثّر في الإنسان، يتوجّب علينا ذكر صلتها بنظريّة التطوّر، فبالنسبة إلى سلوك الإنسان، نرى أنّه يحتاج إلى:

1 ـ تكيفات تطورية وهي مجموعة السمات والصفات الخاصة بالكائن الحي.
2 ـ مدخلات البيئة التي تطلق نمو هذه التكيفات وتفعّله.

ولنأخذ مثالاً بسيطاً يوضح المسألة: نحن نعلم أنّ حالة الثفن ـ الجلد السميك أسفل القدم ـ تنتج جراء الضغط أو الاحتكاك، ولإنتاج الثفن يجب توفر تكيف متطور مولد للثفن، ومدخلات البيئة المتمثلة بالاحتكاك، وكما هو واضح فإنّ حالات الثفن ليست محددة وراثياً، بل على العكس، تخضع لتفاعل بين مدخلات البيئة وبين تكيف حساس يحتوي على تعليمات لإنتاج خلايا جلدية جديدة إضافية حين يتعرض للاحتكاك المتكرر. ويقول العالم ديفيد باس في هذا الصدد “إنّ السلوكات المحدّدة جينياً والنّاجمة عن مورثات من دون مدخلات أو مؤشرات من البيئة هي خاطئة ببساطة” (كتابه علم النفس التطوري ص 77).
وعلى ضوء ما شرحناه آنفا نستطيع أن نفهم ما قصده ستيفن جاي جولد بقوله “المغالطة الوراثيّة لا تكمن في الادعاء البسيط بأن الذكاء “وراثي” إلى درجة ما، وإنّما تكمن في المساواة بين ما هو “وراثي” وما هو “حتمي”.” (مات ريدلي _ الجينوم/السيرة الذاتية للنّوع البشري ص 93)

المصادر:
1ـ “فهم بيولوجي للطبيعة البشريّة” وهو مقال لستيفن بنكر ضمن كتاب الإنسانيون الجدد.
2 ـ الجينوم/ السيرة الذاتية للنوع البشري ـ مات ريدلي.
3 ـ علم النفس التطوري ـ ديفيد باس.
4 ـ بعض المواقع على شبكة الإنترنيت.