في عام 2007، قرر مجموعة من علماء الأعصاب إجراء بعض اختبارات الكلاب على بعض الطلاب. حيث قاموا بوضع رائحة الشوكولاته بشكل متعرج في حقل عشبي، ومن ثم طلبوا من المتطوعين تتبع الرائحة كما لو كانوا كلاب بوليسية. ولكي يضمن العلماء استخدام الطلاب لحاسة الشم فقط قاموا بتقسيم الطلاب على شكل مجموعات متكونة من أربع أشخاص كما قاموا بعصب أعينهم وغلق أذانهم ووضع واقيات على ركبهم وجعلوهم يرتدون قفازات سميكة.

وجاءت النتيجة أن حاسة الشم لدينا ليس فعالة كتلك الموجودة عند كلاب الصيد، لكن بإمكاننا تتبع طريق الرائحة. وكانت النتائج أفضل عند الاستمرار بالمحاولة.

ويقول جويل مينلاند (Joel Mainland) عالم الأعصاب في مركز مونيل في فيلادلفيا، والذي يساهم في بدء الدراسة الخاصة بتتبع الروائح “لقد أظهرت الدراسة قدرة البشر على تتبع الروائح. فقد كانوا أسوء من الكلاب بكثير، لكن مع التدريب لبضعة أسابيع يمكنهم أن يتحسنوا كثيرا وبسرعة كبيرة”.

قبل عقد من الزمان، لم يكن هنالك اهتمام بفكرة قدرة الإنسان على تتبع الروائح. فنحن نميل لإستخدام حيوانات أخرى مثل الكلاب، والتي تمتلك سمعة طيبة بالنسبة لقدراتها الشمية، وفي العادة نستخدمها لتتبع الأبخرة الكيميائية الصادرة من القنابل والمخدرات وحتى السرطان بدلا عنا. لكن هل نستطيع منافسة الحيوانات المعروفة بقدراتها الشمية مثل حيوان الخلد الأعمى الذي يستطيع الشم عبر نظامه الصوتي، والخنازير التي تستطيع العثور على نبات الكمأة الموجود تحت الأرض أو نحل العسل الذي يستطيع تعقب الطعم الحلو عبر قرون الاستشعار الخاصة بها؟

ويعتقد جون ماكغان (John McGann)، عام الأعصاب الحسية في جامعة روتجرز، أننا لا نثق بقدراتنا الشمية بما فيه الكفاية. حيث يقول “معظمنا يعتقد أن شعورنا بالرائحة سيء جدا، وهذا غير صحيح” حيث يقول انه يمتلك الأدلة الكافية لإثبات ذلك.

ويقول ماكغان في مقال نشره مؤخرا في موقع ساينس science أننا متفوقون على الكلاب في بعض المهام التي تتطلب تتبع رائحة ما، والكشف عن الروائح المهمة بالنسبة لنا. كما أنه يشرح بالضبط كيف يعتقد أننا أقنعنا أنفسنا بخصوص قصور قدرتنا على الإحساس بالرائحة، فبالنسبة لماكغان فان ضعف حاسة الشم لدينا ليس سوى أسطورة ظهرت قبل 150 عام جاءت وليدة افتراضات خاطئة وعلم خاطئ.

أصول ضعف حاسة الشم

تبدأ هذه الخرافة من الدماغ، وعلى شكل خاص في البصيلات الشمية، مركز معالجة حاسة الشم في الدماغ. تقع هذه البصيلات في مقدمة الدماغ، وهذه البصيلات متصلة مباشرا بالخلايا العصبية للمستقبلات الشمية المنتشرة داخل الأنف. حيث تقوم هذه المستقبلات  بجمع المعلومات من جزيئات الرائحة المحمولة جوا وتنقلها للدماغ عبر المسالك الشمية.

في القرن التاسع عشر كان عالم الأعصاب بول بروكا (Paul Broca) يبحث في الإرادة الحرة، والتي في اعتقاده هي ما تجعل الإنسان مميز عن سائر الكائنات. لم يستطع إيجاد مركز الإرادة الحرة، لكنه وجد أن الفصوص الأمامية (الفص الجبهي) الكبيرة عند الإنسان هي التي مكنتنا من الإدراك المعقد وتعلم اللغة، وهي غير موجودة في الأنواع ذات الفص الأمامي الأصغر. فافترض بروكا أن الفصوص الأمامية الأكبر تكون أفضل، ولذلك فقد قام بالاستنتاج أن أن البصيلات الشمية عند الإنسان تكون صغيرة مقارنة بحجم الدماغ الكلي، وبذلك تكون أضعف بكثير من تلك الكبيرة نسبيا الموجودة عند الحيوانات الأخرى.

وذكر مكغان أن تلك النظرية تفتقر إلى تحليل قدرات الإنسان الشمية الفعلية. لكن في ذلك الوقت كان هناك اعتقاد من الباحثين بذلك، فكلما طور الإنسان قدرته على إدراك الرائحة من الحيوانات البدائية عزز الإدراك المتقدم في الدماغ البشري، بالاستناد إلى حجم البصيلات الشمية بالنسبة لهذه المناطق. كما تبنى الفلاسفة وعلماء النفس هذا الافتراض، حتى سيغموند فرويد كتب أننا في فترة الطفولة نركز على الرائحة او الطعم وهذا يعود إلى “أشكال الحيوانات في وقت مبكر من الحياة”.

يشير مكغان إلى أن الدراسات وجدت القليل من الأدلة المتعلقة بكون حجم البصيلات الشمية يتنبأ بالقدرة على إدراك الرائحة. وأشار إلى أن الحيوانات الكبيرة تحتاج إلى عقول كبيرة للسيطرة على المزيد من العضلات أو معالجة المزيد من المعلومات الحسية. وقال “فالحيوانات الكبيرة من المحتمل أن لا يكون لديها روائح إضافية تحتاج لكشفها ومعالجتها لأنها كانت كبيرة، لذلك فهي لا تحتاج إلى مراكز كبيرة لحاسة الشم”.

ويعتقد ماكغان أن حجم البصيلات لا يهم إذا ما أخذت نسبته إلى حجم الدماغ الكلي أو من حيث قيمتها الكاملة. ويبلغ حجم البصيلات الشمية عند الإنسان 5-6 ملم وحوالي ثلث حجم البصيلات الموجودة عند الكلاب، وهذا يمكن أن يكون كبيرا بما فيه الكفاية لإنجاز مهامها. كما أنها أكبر بكثير من البصيلات الموجودة عند الفئران والجرذان، وهي كائنات تعتبر ذات قدرة كبيرة على تتبع الروائح.

وذكر ماكغان أنه بالإضافة إلى ذلك فإن عدد الخلايا العصبية الموجودة في البصيلات الشمية ملائم بشكل ملحوظ عند الثدييات. فمن بين الثدييات هنالك 5800 نوع مصنف من كبار الحجم، بمقارنة الفأر مع ذكر الإنسان، فإن عدد البصيلات الشمية تغير عند 25 نوع. بينما إناث الإنسان تمتلك عدد أكبر من الخلايا العصبية مما هو موجود عند الأر أو الهامستر ولكن أقل مما هو موجود عند قردة المكاك. ويمتلك الذكور أقل من ذلك بقليل.

ويقول مينلاند، وهو غير مشارك في عمل ماكغان “أن الفكرة التي يتفقون عليها تشير إلى أن في كل الحيوانات يكون ترميز ومعالجة الروائح ثابت”. ويضيف “لا نمتلك فكرة عن مدى اختلاف عدد المستقبلات واختلاف المهام السلوكية بينها، وهذا ما نحاول حله. ليس واضحا ما يعنيه، لكن من الرائع أن يكون هذا صحيحاً”.

مقارنة أنف الإنسان مع الحيوانات الأخرى

قام عالم الحيوان في جامعة لينكوبينغ السويدية، ماتياس لاسكا (Matthias Laska) بتأليف العديد من الدراسات التي تتمحور حول مقارنة القدرات الشمية للإنسان مع الحيوانات الأخرى. حيث يقول “على مدى 100 عام، قامت الكتب المدرسية بترسيخ فكرة أن الإنسان لا يمتلك حاسة شم قوية في حين تمتلكها الحيوانات الأخرى”. وأضاف أن “البيانات الصارمة التي تدعم هذه الفكرة بشكل لا يقبل الشكل غير موجودة. كما أنني لا أقول أن الإنسان يمتلك حاسة شم قوية مثل الكلاب بشكل عام، لكن هنالك بعض المواد نكون أكثر حساسية لها”.

والروائح التي يتحسسها البشر بشكل كبير تشمل المركبات الكيميائية للموز والزهور والدم وأحيانا البول. ففي عام 2013، قام لاسكا وزملاؤه باختبار قدرات الإنسان والفئران والقرود والعنكبوت في الكشف عن رائحة البول والخصائص مشتركة مع الفأر. في حين كانت الفئران أفضل في الكشف عن 4 من 6 روائح متميزة كان الإنسان أكثر حساسية لاثنين آخرين. كما وجد ان للإنسان قدرة أكثر على الكشف الرائحة الرئيسية في الموز (أسيتات الأميل) من الكلاب والأرانب، وهو أكثر حساسية من الفئران في الكشف عن دم الإنسان.

هذه الدراسة الوحيدة التي تطرقت للرائحة بصورة انتقائية. لكنها أشارت إلى أمر محير: أن الأنواع المختلفة تتخصص لتحسس روائح مختلفة حيث تكون مهمة لطريقة عيشهم أو مناطقهم البيئية. فيجب على الفئران أن تكون جيدة في معرفة روائح مفترسيها، في حين أن الإنسان يمتلك أنف يعرف به متى يصابون وينزفون.

فعلى سبيل المثال، يلاحظ لاسكا أن العدد الإجمالي للروائح التي يتعرف عليها الكلاب كانت على الأقل 15 رائحة. بينما كان للبشر 5 من تلك الروائح. ويقول حول ذلك “هذه الروائح الخمسة هي مكونات الفاكهة أو رائحة الزهور. بينما الحيوانات اللاحمة مثل الكلاب لا تكون تلك الروائح ذات أهمية لها من الناحية السلوكية، لذلك لم يكن هنالك أي ضغط تطوري لجعل أنف الكلب حساساً لروائح الفواكه والزهور”.

ومن ناحية أخرى، فإن تسعة من الروائح العشرة المتبقية التي تكون الكلاب أكثر حساسية لها من الإنسان هي الأحماض الكربونية. حيث أن هذه الأحماض موجودة في روائح الفرائس المحتملة للكلاب، مما يشير ‘إلى كونها سبباً في جعل الكلاب جيدة في تتبعها.

والكشف عن روائح محددة ليست سوى البداية. إذ تقول ألكسندرا هورويتز (Alexandra Horowitz) مديرة مختبر إدراك الكلاب في كلية برنارد ومؤلفة كتاب (Inside of a Dog: What Dogs See, Smell, and Know)، عندما يتعلق الأمر بالرائحة فإن السلوكيات تلعب دور كبير مثل دور علم وظائف الأعضاء.

تقول هورويتز: “الكلاب تهتم بالشم بشكل كبير. فهي تضع أنفها في جميع الأشياء … السلوك يدل على أننا لسنا من الكائنات الشمية. لننظر إلى ما نقوم به بالرائحة: حيث يمكننا العثور على سينابون في المطار، لنقارن هذا مع ما تفعله الكلاب. فالكلاب تستطيع أن تتعرف علينا عن طريق الرائحة فقط، كما يمكنها العثور على الأشخاص المفقودين عن طريق خطى أقدامهم قبل أيام، كما تستطيع الكشف عن واحد من تريليون من الجرام من مادة تي ان تي (TNT)”.

وإلى جانب امتلاك الكلاب خلايا شمية أكثر من الإنسان، فإنها تمتلك أنف متخصص يتكيف مع مع أسلوب تنفس يوفر تيار ثابت من الرائحة الغنية بالمعلومات. فالكلاب بالإضافة إلى بعض الحيوانات الأخرى لديها أحساس مختلف للرائحة. فنظامها الشمي يتيح لهم شم رائحة المواد الكيميائية السائلة والتي لا يشترط حملها عبر الهواء، مثل طبقات البول والسوائل الأخرى، عن طريق عمله كمضخة لتوصيله إلى جهاز الانف المتخصص.

مينلاند يوافق على أن الرائحة مركزية بالنسبة لسلوكيات الحيوانات بطريقة مختلفة عما نعرفه. حيث قال “فكر في التفاعلات التي تحصل بين المفترس والفريسة، تفاعلات الزواج، إشارات تحدد بها المناطق. كل هذه الأمور مرتبطة بالرائحة حيث أنها في مجموعة كبيرة من الأنواع تعتبر من سلوكيات رئيسية. فهي ضرورية للبقاء”.

في حين أن الرائحة لا تلعب دور مهم في حياتنا الخاصة، لكن الدراسات أظهرت بأنه قد يكون لها دور في اللاوعي أكبر مما كنا نتخيل في بعض الأحيان.

ويوضح لاسكا “هنالك الكثير من الحالات السلوكية التي تدفعنا نحن البشر لاستخدام أنوفنا دون وعي، سواء في اختيار صديق أو للتواصل الاجتماعي”. فالروائح يمكن أن تؤدي إلى ذكريات أو عواطف (فكر في معطف حبيبتك السابقة) والسلوكيات السريعة (كيف يسيل لعابك عند شم رائحة دجاج يشوى ببطء). قراءة روائح بعضنا البعض يساعدنا على جمع بيانات رئيسية مثل الحالة الصحية، وربما حتى معرفة إذا ما كنا ذات صلة بالدم.

حان الوقت لدراسة التأثيرات اللاواعية للرائحة الموجودة عندنا، وكذلك الحدود المجهولة لقدراتنا الشمية. حيث يقول “أعتقد أن أحد أسباب اعتقاد الأشخاص بسوء قدراتنا الشمية هو كوننا لا نستخدمها بالوعي بالقدر الكافي … لكن حين نكون مجبورين على استخدامها فسوف نفعل ذلك بشكل جيد”.

Brian Handwerk, 2017, In Some Ways, Your Sense of Smell Is Actually Better Than a Dog’s, 22.5.2017.