كان أودلف ماير محتاراً في بحثه عن السبب في المرض الغريب الذي يصيب نباتات التبغ، حيث وصل إلى طريق مسدود مُعلناً أنّ العامل الممرض لهذهِ النباتات لا يمكن أن يكون بكتريا، لأن البكتريا حسب كوخ لا تمر عند الترشيح بمصفاة شمبرلند، بينما يبقى العامل المُمرض للنبات فعالاً حتى بعد الترشيح، وتوقع أن تكون عوامل إمراضية تشبه الانزيمات، تكون ذائبة في المحاليل، ربما تكون سموماً بكتيرية، شارك ماير هذهِ المعلومات مع زميل شاب له هو ماترينوس بجرنيك، الذي لم يجد الحل لذلك إلا بعد مرور أكثر من عقد من الزمان، ليُعلن وجود كائنات مرضية ليست بكتريا بل هي أصغر حجماً منها، قابل للمرور خلال مصفاة شمبرلند، وأسماها الرواشح، مَرّ وقت طويل بالتأكيد قبل أن يتم التعرف على خصائص هذهِ الرواشح، ولا يزال هناك الكثير لمعرفته بالطبع، بسبب صعوبة استنبات الفيروسات لدراستها لكونها تحتاج إلى أنسجة حيّة، لكنّ مزارع الانسجة اليوم حلت هذهِ المعضلة.

لا تزال الفيروسات منذ اكتشافها نمطاً فريداً من أنماط الكائنات، وهي تقف على الخط الفاصل بين الحياة و الجماد. هذهِ الكائنات الغريبة التي تبدو حيّة داخل أجسام المضيف، ثم تتوقف عن الحياة ما إن تخرج منه، مما يجعلها عرضة للدراسات العديدة التي تبحث في لغز الحياة، ومحاولة تعريف هذهِ الكلمة البسيطة “الحياة” التي نستخدمها ونحن نظن أننا نعرف ما نعنيه بها، لكنها لا تزال مثار للاسئلة التي  للبحث الفلسفي والعلمي، متى ينتهي الجماد ومتى تبدأ الحياة هذا سؤال ضخم في الواقع.

نظرة العلماء للفيروسات قد تغيرت بشكل كبير في السنوات العشر الفائتة، بعد أن أكتشف مجموعة من العلماء نوعاً غريباً من الميكروبات، يُحاكي البكتريا لكنه يختلف عنها جينياً، إذ أثبت الفحص الجيني أنّها فيروسات ضخمة بأحجام مشابهة لإحجام البكتريا، سُميت بالفيروسات المُحاكية للبكتريا. هذهِ الكائنات التي عثر عليها أولاً في انكلترا في أبراج التبريد ووجدت داخل الاميبيا وبد أنها تتسبب بقتل الاميبا، لكن لم يتمكن العلماء في بريطانيا من فهمها، خصوصاً أنّ محاولات إستنباتها في مزارع البكتريا باءت بالفشل، ظل العينات في التجميد حتى قام طالب دراسات عليا بريطاني بعد ذلك بسنوات بنقل العينة إلى مختبر ديدار روليت هو عالم أحياء دقيقة فرنسي مختص باستزارع البكتريا الصعبة، والذي أقر بعد فحص العينة بالمجهر الالكتروني أنها ليست بكتريا بل كائناً يشبه الفيروسات لكنه أضخم بكثير منها، فقد أثبت الفحص الجيني أنه يحتوي على ألف جين!
قام بعد ذلك اثنان من العلماء (ابراجيل وكلافري) بإختبار فرضية إمكان وجود العديد من الفيروسات الضخمة التي لم تُعرف من قبل بسبب حجمها الضخم، فقاما بالتجوال حول العالم وفحص عينات المياه الحاوية على الاميبا في كل مكان، وكان أن وجدا فيروساً أضخم من الفيروس المحاكي للبكتريا حتى (2500 جين)، سُمي فيروس بندورا عثر عليه في برك المياه في استراليا وتشيلي.

    الفيروسات الضخمة، صارت مثاراً للاسئلة، خصوصاً عند وصف الفيروس الضخم “فيروس بيثا” في العام 2014، الذي وجد في عينة عثر عليها ابراجيل وكلافري محفوظة جيداً تحت الجليد في سيبيريا، هذا الفيروس الذي هو أضخم الفيروسات حجماً (وإن لم يكن أضخمها من حيث عدد الجينات) أضخم من البكتريا نفسها، بجينات تصل الى 500 جين بينما لا يحتوي فيروس الانفلونزا اليوم سوى على 15 جين، جعل العلماء يُعيدون النظر في مسألة بداية الحياة عند دراسة هذا السلف لفيروسات اليوم، خصوصاً أنّ الفيروس لديه اليات معقدة إذ أنّ لديه القدرة حتى على تصحيح الأخطاء الجينية في الحمض النووي الدنا، وهي ميزة متطورة للغاية، كذلك أحتوائها على جينات خاصة بانقسام الحمض النووي الدنا يقترح أنّها ربما كانت حرة المعيشة في وقت ما، كما أن احتوائها على جينات غريبة غير موجودة لدى أي نوع من الكائنات الاخرى، يجعل بعض العلماء يقترح إنشاء فرعاً جديداً في التصنيف، يكون النطاق الرابع فيه للفيروسات، مضافاً إلى الانطقة الثلاثة المعروفة: بدائية النواة، البكتريا العتيقة (الاركيا)، وحقيقية النواة.

بعد أن كانت الفكرة السائدة بإن الفيروسات لابد أن تكون متأخرة في الظهور للحياة، بسبب اعتمادها على وجود الخلايا الحية، يجادل العلماء اليوم بعد هذهِ الاكتشافات في معسكريين مختلفين:  الأول مقتنع بتلك الفكرة أما المُعسكر الثاني فيرفض ذلك، معتبراً أن الفيروسات أقدم، ويقول كينون في فرضيته أنّ الفيروسات لا بد أن تكون قد تكونت قبل ظهور الخلايا، حينما لا يزال الحساء الأولى مزيجاً من أحماض امينية ودهون، وأن الشكل الأول من المادة الجينية غالباً كان الحمض النووي منقوص الأوكسجين “الرنا” بشكل قطع صغيرة للغاية تتطفل على الأحماض النووية في بيئتها لتتضاعف، يجادل كينون على كون أحماض الرنا هذهِ أول أسلاف للفيروسات التي ظلت لا تمتلك القدرة على التكاثر دون تطفل، لكنها بمرور الوقت طورت غلافاً بروتينياً لحماية الحمض النووي من التكسر. فاليرين دولجا التي تساند كوينين في معتقده تقول أنّ من المعروف في البايلوجيا أن الأصل يكون حيث يكون التنوع، بمعنى أن التطور تجريبي يبدأ بأشكال عديدة في مكان واحد ثم تنفرد تلك الأشكال لتكون أنواعاً منفصلة، وهو الأمر الذي أدى الى الإعتقاد بكون أفريقيا أصل البشر الاوائل، بسبب التنوع الجيني الواسع في القارة السمراء الذي لا يوجد في أي مكان آخر في العالم. و الفيروسات تمتلك أشكالاً متنوعة من الحمض النووي، وتمتلك كذلك آليات مختلفة للتكاثر، داخل النواة وخارجها، و التكاثر التقليدي من الدنا الى الرنا، والتكاثر القهقري من الرنا إلى الدنا (مثل فيروس الايدز من الفيروسات القهقرية).
عالم الفيروسات زوستاك يوافق كونين بالقول أن الفيروسات تمثل قوة تطورية مبكرة أثرت في تشكل الحياة، لكنه يفرق بين العناصر الاولية من أحماض الرنا المتطفلة، وبين الفيروسات الحقيقية الموجودة الآن، والتي يرى أنها لا يمكن أن تكون قد نشأت قبل الخلايا، لحاجتها للاليات الخلوية، وهو أمر تخالفه فيه دولجا التي تقول إذ كان الشكل الأولي للحمض النووي هو الرنا، ثم تكونت الخلايا التي تحتوي على الدنا، فكيف استطاعت الخلايا ان تنتج الدنا من الرنا بدون إنزيم الريفيرز الموجود فقط لدى الفيروسات القهقرية؟

اما ابجايل وكلافري المختصان بالفيروسات الضخمة فهما من ضمن المعسكر التقليدي الذي يقول ان الفيروسات ظهرت بعد ظهور الخلية الأولى وليس قبلها، وهما يفسران وجود الجينات الغريبة لدى الفيروسات الضخمة بكونها جزء من خط حياة قديم انقرض الآن.


     في دراسة لغوستاف كايتانو و مجموعة من زملائه في جامعة الينوي عام 2012 تم تتبع الشجرة للفيروسات الضخمة فتوصلوا إلى أن الفيروسات ظهرتا في وقت مشابه من عمر الحياة تطوراً عن خلايا أقدم، أو أن الفيروسات قد تكون تواجدت بالتزامن مع تلك الخلايا الأولية القديمة، وهي خلايا قادرة على الانقسام، ظهرت من نحو 3.4 بليون سنة، ثم تطورت الفيروسات لتُصبح أبسط لتفقد بعدها قدرتها على التكاثر دون مساعدة كائن تتطفل عليه، لافتقارها للجينات الضرورية لذلك. هذا الإكتشاف جعل غوستاف وفريقه يجادلون على أنّ الفيروسات كائنات حية بالفعل، إنما بطريقة مغايرة للمألوف، وليست حلقة وصل بين الحياة والموت، وهو أمر يتفق معه البعض من العلماء بضمنها عالم الأحياء الدقيقة جون ماتيك الذي صرّح أنّ “الناس يقولون أن الفيروسات ليست حرة المعيشة، هل يمكن القول أنّ الإنسان حر المعيشة ؟!” وهو يشير إلى حقيقة أن حتى الكائنات الحية التقليدية مُقيدة بسلسلة ظروف تحتاجها، فما الذي يجعل الفيروسات استثناءً من ذلك؟

 

المصادر:

  • The discovery of viruses: advancing science and medicine by challenging dogma   by Andrew W. Artenstein
  • What came first, cells or viruses?  By Viviane Richter in cosmosmagazine.com
  • Could Giant Viruses Be the Origin of Life on Earth?  By Carrie Arnold in National Geographic online