اعتبر البشر أنفسهم عبر التاريخ العلمي مميزون بمقدرتهم المعرفية، ولكن الأبحاث التي أجريت على أدمغة بعض الحيوانات مؤخراً هددت بإسقاط هذه الفكرة: فالدلافين على سبيل المثال، تستطيع تمييز نفسها في المرآة، والطيور قادرة على تكوين علاقات عميقة مشابهة لتلك التي عند البشر، في حين أن الشمبانزي قادر على تعلم طقوس الحداد.

اقترحت دراسة تجرى الآن على الأقرب إلينا من أسلافنا أننا لسنا الوحيدين بقدرتنا على إدراك وجود أفكار وتجارب ووجهات نظر عند الآخرين مغايرة لنا. هدفت الدراسة التي نشرت في مجلة (PLOS ONE) إلى إثبات هذا الشك في الوعي من خلال البحث فيما إن كانت القردة قادرة على فهم “نظرية العقل” – والتي تعني الإدراك بأن الآخرين يمتلكون طريقة تفكيرهم الخاصة (واحتمال اختلافها).

يقول ديفيد باتلمان (David Buttelmann); عالم نفس من جامعة ايرفورت (Erfurt) وأحد الباحثين الرئيسيين في هذه المقالة، أن هنالك دلائل عديدة تشير أن القردة قادرين على فهم أهداف ورغبات وحتى نيات الآخرين، ولكن الدراسات فشلت بشكل مستمر في إثبات فهمهم للمعتقدات الخاطئة.

حقيقة أنه من المستحيل الولوج إلى عقل شخص –أو مخلوق – آخر لدراسة كيفية رؤيته للعالم أعاقت علماء النفس في هذا النوع من الدراسات. سمحت اللغة عند البشر الراشدين لعلماء النفس بسؤالهم ببساطة عما يشعرون أو ما يمتلكون من معرفة، ولكن عند التعامل مع أشخاص لا يمتلكون القدرة على التكلم ببلاغة –أو إطلاقاً- فعلى الباحثين أن يكونوا ذوي حيلة.

طور علماء النفس استراتيجية في الثمانينات لمعرفة ما إن كان الأطفال واعين لفكر ومنظور الشخص الآخر، وعرفت هذه الدراسة بفحص “المعتقدات الخاطئة” الذي اتبع سيناريو بسيط كالتالي: يقوم شخص ما بعرض جسم (شيء ما) على طفل ووضعه في صندوق ثم يغادر الغرفة ليأتي شخصاً آخر بغياب الأول وينقل الجسم إلى مكان آخر، ثم يتم سؤال الطفل عن المكان الذي من المفترض أن يبحث به الشخص الأول عن هذا الجسم عند عودته إلى الغرفة.

إن الطفل يعرف الآن مكان الجسم ولكن ليتمكن من الإجابة بشكل صحيح على السؤال عليه الافتراض أن الشخص الأول ما زال لديه معتقد خاطئ عن مكانه بما أنه لم يشهد عملية نقله إلى موضع آخر. يثبت هذا الفحص لعلماء النفس أن الطفل يدرك أن الآخرين يفكرون بطريقة مغايرة له وبالتالي فهو مدرك لنظرية العقل.

في حين هذه الدراسات تضمنت أطفال قادرين على الكلام، قامت دراسات أحدث بإجراء التجربة على رضع حيث قام باتلمان عام 2009 بنشر مقال مع نتائج تشير إلى أن الرضع في الأشهر الست عشر الأولى من حياتهم قادرين على إدراك الاعتقادات الخاطئة عند الآخرين، وهذا ما جعل باتلمان يتساءل إذا كان من الممكن تطبيق هذه التجربة على الحيوانات; على سبيل المثال، أقرب أسلافنا “القردة”.

قام باتلمان ومساعديه في هذه التجربة بتدريب قردة على مساعدة شخص في فتح صندوقين يحتوي أحدها على جسم ما. قلق باتلمان في البداية أن يمل القردة من المهمة لكنه قال “لقد قضوا وقتاً ممتعاً – لم أختبر كائنات بهذا الحماس للتجربة من قبل”.

قام الباحثون بعد ذلك بالتجربة: في البداية؛ وضع أحد المساعدين جسم ما في أحد الصناديق ثم قام شخص آخر بنقله إلى الصندوق الثاني. يبقى الشخص الأول في أحد الاختبارات داخل الغرفة حين تحدث عملية نقله ثم يذهب ليفتح الصندوق الذي وضع به الجسم في البداية (تجربة “الاعتقاد الصحيح”). أما في الاختبار الثاني، يكون الشخص الأول خارج الغرفة عند حدوث عملية النقل ومن ثم يدخل ليفتح الصندوق الأصلي (تجربة “الاعتقاد الخاطئ”).

لقد وجدوا أن القرد سيساعد الشخص الأول ويفتح له الصندوق الصحيح في حال ظهر أن الشخص لديه “اعتقاد خاطئ” عن مكان وجود الجسم.

يقول باتلمان أن فريقه كان قادراً على التحقق من ما يحدث لدى القرد؛ حيث بمقارنته بين الشخص ذو “الاعتقاد الصحيح” والآخر ذو “الاعتقاد الخاطئ”، أن يوضح السبب الذي يدفع  القردة لاختيار أحد الصناديق ألا وهو “فهمهم للقائمين على التجربة”، فمن غير المحتمل منهم أن يقوموا بمساعدة من على معرفة بمكان الجسم لأنهم على دراية بأن هذا الشخص غير محتار – أو هكذا بحسب المنطق.

يقول روبرت لورز (Robert Lurz) (فيلسوف من جامعة بروكلين وباحث في مجال الاعتقادات الخاطئة ومعارف الحيوانات) أن المشكلة في هذا النوع من التجارب أنها دائماً عرضة للتأويل حيث أشار إلى دراسة مشابهة لهذه قام بها بعض مساعدي باتلمان السنة الماضية وأكد أن طريقة تفسير تصرفات القردة ما زالت غير ثابتة.

 

يقول لورز – الذي لم يكن مشاركاً بهذه الدراسة – أنه رغم تقارب نتائج هذه الدراسات، ما زالت غير قادرة على دعم فرضية قدرة القردة على إدراك المعتقدات الخاطئة عند الآخرين، أو حتى فرضية قدرتهم على فهم منظور وهدف الكائن الآخر.

بعبارة أخرى، تصرفات القردة ليس من الضرورة أن تثبت قدرتهم على فهم اعتقادات القائمين على التجربة الخاطئة حيث يقول لورز: “من الممكن أن القرد قد استنتج رغبة المجرب بالحصول على الجسم من خلال عودته إلى الصندوق الذي وضعه به منذ البداية”.

ما هو الهدف التطوري من إدراك المعتقدات الخاطئة؟ لدى باتلمان العديد من الأفكار، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يستغل الذكر عدم معرفة الذكر المهيمن في المجموعة، أن الأنثى التي يفضلها ليست في المكان الذي يعتقد، وبالتالي تتيح للأول فرصة التزاوج مع الأنثى وزيادة احتمال تكاثره باستغلاله الاعتقاد الخاطئ عند الذكر المهيمن.

ولكن يعتبر ذلك مجرد سيناريو افتراضي حيث يخطط باتلمان في الدراسات اللاحقة لإعادة تصميم اختباراته والنظر في كائنات أخرى من المملكة الحيوانية ليكتسب معرفة أكبر حول كيفية وسبب تطور “نظرية العقل”. يقول باتلمان: “أود معرفة ما هو العامل المحفز لتطور نظرية العقل”.

المصدر:

Ben Panko, “Monkeys May Recognize False Beliefs—Knocking Over Yet Another Pillar of Human Cognition“, SMITHSONIAN.COM, APRIL 7, 2017