قبل قراءة المقال، شاهد الفيديو التالي من فضلك.

في الفيديو السابق، الذي أفترض أنه أضحكك، تطلب المعلمة بكل جدية من التلميذ الكسول أن يكتب عبارة على سبورة الفصل، يستجيب التلميذ لطلبها بعصبية ولا يكتب سوى حرفين من العبارة المطلوبة. لو نظرنا إلى الفيديو أكثر من مرة سنلاحظ أن المشهد يثير الغضب أكثر مما يثير الضحك، أو بلغة فسيولوجية: يهيِّج مناطق المشاعر السلبية في الدماغ وليس مناطق المشاعر الإيجابية، فكل ما نسمعه هو الصراخ والتذمر، وكل ما نراه هو وجه معلمة مشغولة وتلميذ عابس! فما المضحك في هذه المشهد بالضبط؟ ولماذا ترتفع أصوات الجمهور بالضحك في نفس الوقت على طول المسرحية؟ لماذا لا نكتفي بالابتسام بدل الضحك بصوت عالٍ؟ ولماذا تبلغ مشاهدات مسرحية مدرسة المشاغبين -برغم جودتها السيئة وقِدَمها- قرابة أكثر من مليونين ونصف؟

يستنتج بروفيسور علم النفس وأخصائي الأعصاب روبرت بروفن Robert Provine: “أكثر ضحكاتنا ليست استجابة لشيء مضحك!” بعد أن راقب هو ومجموعة من الطلاب محادثات الناس في الأماكن العامة ووجدوا أن 10-20% فقط من مجموع 1200 حالة ضحك كانت استجابة لشيء مضحك. في هذه الدراسة كانت النساء أكثر ضحكا من الرجال بنسبة 126% [1].

فلماذا نضحك إذن؟ (تستطيعون سماع ملخص المقال على الـ sound cloud من هنا)

منذ القِدم، حاول المفكرون والعلماء تفسير ظاهرة الضحك، وتوصلوا إلى عدة تفسيرات [3]، منها:

1- نظرية التعارض Incongruity juxtaposition: الضحك عند الفيلسوف الألماني إمانويل كانط يحدث عندما ننتقل من التوقعات المتوترة إلى لا شيء . وهنا تكمن قوة النكات الشعبية التي تبدأ غالبا بتسلسل قصصي جاد ثم تنتهي نهاية ساخرة أو مخيبة للآمال.

2- نظرية الاستعلاء Superiority: إننا نضحك لأننا نشعر بالفوقية والكمال. يرى أرسطو أننا نضحك عند رؤية المنحطّين والبشعين والأغبياء لأننا نشعر بأننا أعلى منهم.

3- نظرية التخفيف Relief: الضحك عند سيغموند فرويد مثل الأحلام: آلية تنفيس عن الطاقات النفسية المكبوتة.

بالرغم من قدرة النظريات السابقة على تفسير بعض حالات الضحك التي نمر بها يوميا، إلا أنها تبقى عاجزة عن تفسير الحالات الأخرى الأكثر شيوعا. من منظور تطوري evolutionary، في 2005، نشر الطالب الجامعي ماتيو جيرافيس Matthew Gervais -الآن هو أخصائي إحاثة تطورية- وأستاذه أخصائي علم الأحياء التطورية ديفيد سلون ويلسون David Sloan Wilson دراسة في مجلة (Quarterly Review of Biology) يعتمد على دراسة قديمة أجراها الطبيب الفرنسي جويلوم دوشين Guillaume Duchenne. رأى ماتيو وويسلون في دراستهما أن الضحك تطوَّر في مرحلتين من مراحل تطور البشر:

الأولى، قبل فترة تقع بين 2 إلى 4 مليون سنة تطور الضحك كاستجابة لما هو مُضحِك (أطلقا عليه اسم الضحك الدوشيني Duchenne laughter). وتطور هذا النوع من الضحك أولا في الرئيسيات أثناء ألعاب العِراك كإشارة إلى أن الأمور على ما يُرام وأن البيئة آمنة والحاجات الحيوية الأساسية مُلبَّاة. ويُرجَّح أنه تطور قبل اللغة.

الثانية، بعد عدة مئات آلاف السنين من تطور النوع الأول من الضحك، تطور النوع الثاني الذي لا يحدث كاستجابة لشيء مضحك (الضحك غير الدوشيني non-Duchenne laughter) وكنتيجة لتطوُّر البشر المعرفي والسلوكي. يُفترض أن البشر قاموا بمُحاكاة الضحك فيما بينهم لاكتساب نتائجه الجيدة، فاستعملوا الضحكة المُفتعلة للتلاعُب ببعضهم -غالبا لأسباب نافعة تبادُلية- ولكن أحيانا لأسباب شريرة [4].

الضحك سلوك اجتماعي؟ 

اعتقد بروفين أن الضحك هو إشارة اجتماعية social signal، شانه شأن غناء الطيور. وبالفعل، أكدت الدراسات اللاحقة اعتقاده إذ وجدت أن الناس يضحكون أكثر بثلاثين مرة عندما يكونون في جماعات [1]. ترى نظرية الدماغ الاجتماعي (social brain hypothesis) أن الضحك واللغة هما وسيلتان لتقوية العلاقات بين الأشخاص وازدهار الجماعات [5]. بل إن بعضهم وجد أن أوكسيد النيتروز nitrous oxide (أو غاز الضحك) يكون له مفعول أقل عندما نستنشقه وحيدين [2].

الضحك لأجل الجنس؟ 

وجدت الدراسات أن الرجال أكثر تقديرا للمرأة التي تقدر فكاهتهم وأن النساء أكثر تقديرا للرجال الذين يُضحكونهن [6]. وفي محاولة للتأكد من الفارق الكبير بين الجنسين في معدل الضحك، وجد بروفين وطلابه في 3745 إعلان بحث عن شريك في عام 1996 أن الباحثات كنَّ يبحثن عن شريك ذي حس فكاهي. والباحثين كانوا يذكرون أنهم فكاهيون [1]. في دراسة أخرى، تتبع الدارسون المحادثات العفوية بين رجال ونساء يلتقون للمرة الأولى فوجدوا أن المرأة التي ضحكت بصوت عال ذكرت أنها أكثر اهتماما بالرجل الذي تكلمت معه. وفي نفس الوقت كان الرجال أكثر اهتماما بالأنثى التي تضحك بإخلاص معهم.

الضحك للسيطرة؟
وجدت الدراسات أيضا أن رؤساء العمل وقادة القبائل وكبار العائلة يستعملون الفكاهة أكثر ممن هم أقل منهم مرتبة [2] للسيطرة على أجواء الجماعة العاطفية.

عدوى الضحك: 

إضافة إلى الأدلة التي تدعم نظرية العقل الاجتماعي لتفسير سلوك الضحك، في عام  1962 في تنزانيا بدأت ثلاث طالبات الضحك في إحدى المدارس بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، وخلال أشهر قليلة صار ثلثا الفصل يضحكون بنفس الطريقة. طُردت الطالبات الثلاث من المدرسة، مما جعل العدوى تنتشر بشكل أقوى واصلة إلى أفريقيا الوسطى إلى أن اختفت بعد عامين ونصف بعد أن أثرت في قرابة عشرة آلاف شخص [1].

خلاصة: 

الضحكة التي نطلقها بلا عناء لها آليات معقدة جدا. كل ضحكة نضحكها مكونة من تعابير جسدية وأصوات. خمسة عشرة عضلة تنقبض، تُحفَّز العظلة الوجنية الكبرى  zygomaticus  major muscle  والعظلة الوجنية الصغرى minor. وهذا يسحب زاوية الفم إلى الأعلى وإلى الخلف فيعطي شكل الابتسامة. يضطرب الجهاز التنفسي لأن لسان المزمار يغلق جزئيا الحنجرة. فيمر الهواء عبر حبال صوتية مغلقة ويخرج صوت الضحكة. في بعض الحالات تُنشَّط القنوات الدمعية. ولأننا عندما نضحك نفتح أفواهنا ونغلقها باستمرار ونحاول التقاط أنفاسنا، يصير الوجه رطبا ويحمرّ. وأثناء هذه التعقيدات التشريحية، تقل مستويات الكورتيزول والإبينفرين، وهما هرمونان يطلقان في حالات القلق. تنتشر في الجسم خلايا b-cells وخلايا t-cells التي تعزز مناعة الجسم. وأخيرا يكافؤنا جهازنا العصبي بالإندورفين الذي يخفف الألم ويجعلنا نشعر بالسعادة. كل هذا بالإضافة إلى دور الضحك في تعزيز الروابط الاجتماعية وكسب العلاقات والسيطرة على المواقف المحرجة حتى عند الرئيسيات الأخرى كالشمبانزي. لذا نحن نضحك، ولذا نحتاج إلى الضحك حتى عندما لا يتعلق الأمر بنكتة أو مشهد كوميدي.

 

[1] www.psychologytoday.com/articles/200011/the-science-laughter

[2]www.slate.com/blogs/browbeat/2017/01/20/you_need_to_watch_donald_trump_s_inauguration.html

[3] science.howstuffworks.com/life/inside-the-mind/emotions/laughter7.htm

[4] www.slate.com

[5] www.technologyreview.com/s/421480/the-evolutionary-origin-of-laughter/

[6] Geher, G., & Miller, G. F. (2008). Mating intelligence: Sex, relationships, and the mind’s reproductive system. New York: Lawrence Erlbaum.