يعد كارل بوبر احد أشهر فلاسفة العلم على الاطلاق، كما انه فيلسوف اجتماعي وسياسي ذو مكانة متميزة وقد عرف بكونه ناقداً عقلانياً عرف بتنظيره في الشكوكية كما انه أحد المدافعين البارزين عن مبدأ “المجتمع المفتوح” احد ابرز الشواخص البارزة في ما انتجه كارل بوبر.

حياة كارل بوبر

ولد كارل بوبر في عام ١٩٠٢ في فيينا التي يعتبرها الكثيرين مركزاً للحضارة الغربية في وقتها، أبواه من ذوي الاصول اليهودية كانا على ثقافة واطلاع كبيرين وكانا قد شاركا إبنهما ذلك الاطلاع. والده المحامي كان مهتما بالفلسفة وكان كثيراً ما يشارك ابنه في الآراء حول القضايا السياسية والاجتماعية، أما والدته فقد شاركته ولعها بالموسيقى حتى انه اختار مجال دراسته الثانية للدكتوراه بالفلسفة حول تاريخ الموسيقى.
ابتدأ كارل بوبر مسيرته الفكرية يسارياً حيث كان انتمى لتجمع طلابي اشتراكي عام ١٩١٩ وصار ماركسياً لكنه سرعان ما لاحظ أموراً كثيرة جعلته يضع ذلك الميل جانباً، ثم صار مولعاً بالتحليل النفسي وأدبيات فرويد وادلر (حتى انه خدم تطوعيا في احدى عيادات التحليل النفسي)، غير ان استماعه لمحاضرة القاها اينشتاين حول النسبية كان بداية مرحلة مختلفة في حياته، وجد بوبر أن نظرية اينشتاين تستند الى امور قابلة للاختبار فعاد وأخضع أدبيات مؤسسي التحليل النفسي لمبادئه الجديدة ووجدها تفتقر الى التأكيد.
عام ١٩٢٩ شرع بوبر بدراسة الدكتوراه في علم النفس التجريبي تحت اشراف كارل بولر (Karl Buhler) في جامعة فيينا والذي يعد مع اوتو كولبه (Otto Kulpe) موسساً لعلم النفس التجريبي. مشروع بوبر كان حول ذاكرة الانسان ومنذ الفصل الاول للدراسة – طرق الدراسة – تجلت لبولر وبوبر المعضلة، بولر الذي كان فيلسوفاً كانطي التوجه انتبه للأزمة التي يقع فيها علم النفس، وبذلك تحولت رسالة بوبر الى عنوان آخر وهو “المعضلة الطرائقية في علم النفس المعرفي”، وتغير توجه كارل بوبر منذ ذلك الحين ليترك علم النفس نحو فلسفة العلم.
تزوج بوبر وعاش في نيوزيلندا طيلة الحرب العالمية الثانية، وكتب كتابه “المجتمع المفتوح وأعداءه” بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والذي تميز بتوجهه في نقد الشمولية. وصار بوبر استاذاً للمنطق والمنهج العلمي في جامعة لندن عام ١٩٤٩، وهناك تنامت سمعته كفيلسوف علمي لامع وكتب كتابه منطق الكشف العلمي في عام ١٩٥٩. ركز بوبر على منطق التخطئة وعرف بنقده للأفكار ذات المنحى التاريخي مثل ما طرحه توماس كون في كتابه “بنية الثورات العلمية”، استمر بوبر كاتباً ناشطاً حتى وفاته في عام ١٩٩٤.

معضلة التمييز وقابلية التخطئة

يرى بوبر أن احدى ابرز معضلات فلسفة العلم هي التمييز بين العلم واللاعلم. ينفي كارل بوبر دور الاستقراء في التنظير العلمي وهو يخالف نظرة نيوتن وفرنسيس بيكون في نقاوة الملاحظة العلمية، الملاحظة بالنسبة لبوبر لا يمكن أن تكون معزولة عن الدور التنظيري ولا يمكن ان تكون الخطوة الاولى في انشاء النظريات، وبذلك فلا يمكن ان تكون النظريات مؤسسة على الاستقراء، بل ان النظريات بالنسبة لكارل بوبر هي كالبشر: متباينة، فريدة، وعضوية. تكوين النظريات بالنسبة لكارل بوبر هو أشبه بحل الألغاز.
أي أن بوبر يعكس الامر بشكل منطقي مثير للاهتمام، فبدلا من تمييز النظرية يقوم بوبر بتعريضها للاختبار عبر التخطئة، وكل تجربة علمية تحدث هي محاولة لإبطال أو تخطئة نظرية علمية، وبهذه الطريقة يحل بوبر معضلة التمييز بين العلم واللاعلم، فما هو قابل للتخطئة يمكن اعتباره علماً وما ليس خاضعاً للتخطئة لا يُمكن أن يُعتبر علماً.
عبر استبعاد الاستقراء يرى كارل بوبر انه لا توجد طريقة محددة يتم من خلالها ايجاد النظرية العلمية، ،يتفق معه اينشتاين اذ يقول “ليس هناك مسار منطقي يمكن من خلاله الوصول الى القوانين العليا للكون”، لا يمكن اعتبار المشاهدة هي المفتاح المنطقي للوصول الى النظرية بما ان المشاهدة ذاتها ليست مستقلة عن التنظير. وبذلك تصبح المشكلة بذاتها هي المحرك لكل من المشاهدة ولعملية ايجاد الحل بشكل كامل والتي تنتهي بالنظرية.
اعتماداً على ذلك تصبح علوم مثل الفيزياء، الكيمياء وعلم النفس أيضاً علوماً بما انها تمتلك قابلية التخطئة، وقد اعتبر بوبر في وقتها التحليل النفسي علم ابتدائي (pre-science) فهو يقدم معلومات معينة لكنه لا يمتلك القدرة على اثباتها، أما الفراسة والتنجيم فهي علوم زائفة.
بأختصار ولكي تكون نظريةٌ ما علمية فيجب عليها:

  • أن تتخطى المخطئات الاساسية (مثل عدم الاتساق).
  • أن تكون جميع التصريحات التي تقدمها النظرية قابلة للاختبار.

ماذا عن النظريات الصحيحة؟

يقدم كارل بوبر مبدأ الارجحية او الرجحان (verisimlitude) والذي ينص على أن هناك مجموعة من العواقب المنطقية للنظرية، بعض هذه العواقب صحيحة، وبعضها الآخر خاطئة، ولمقارنة نظريتين ورجحان النظرية ن١ على ن٢ يجب أن تكون:
– ن١ لها محتوى صحيح أكثر من ن٢.
– ن٢ لها محتوى خاطئ اكثر من ن١.

كارل بوبر والعلوم الاجتماعية

عرف بوبر بنقده للكلانية (holism) التي تزعم ان التجمعات البشرية ككل أهم من قيمة كل فرد فيها وأن الافراد يستمدون أهدافهم ومصائرهم من التجمعات ككل. اما التاريخانية (historicism) (استمدها كارل ماركس من الجدلية لهيجل) فقد نقدها بوبر بشدة أيضا والتاريخانية هي كلانية أيضاً لكنها تؤمن بأن التاريخ يتطور وفقا لمبادئ معينة وينتهي بنهاية حتمية ثابتة. وبمزج الاثنين سوية يصبح الفرد مستمدا من الجماعة وخاضعا لقوانين تاريخية ستقوده الى الحتمية.
يوجه بوبر نقده للعلوم الاجتماعية من خلال نقد هاتين الفلسفتين، حيث من خلال هاتين الفلسفتين تتولى العلوم الاجتماعية التنبؤ بالقواعد التاريخية حول مسار الانسان ومن ثم تقوم السياسة برسمها بصلابة من خلال انظمة مركزية شمولية، ومن هنا ينظر بوبر للفكرة المعاكسة وهي المجتمع المفتوح. يوضح بوبر أنه لا توجد قوانين تاريخية فعلية تُسير البشرية كما أن التنبؤ بقوانين من هذا النوع هو أمر محال. كما أن قيمة الفرد الواحد قد لا تقل بأي شكل من الاشكال عن قيمة الجماعة ككل، ذلك أن افراداً معدودين كانوا سبباً في تحديد مصير جماعات كاملة، الامر الذي يحطم الكلانية.
يرسم بوبر العلاقة بين الانظمة الشمولية، العلوم الاجتماعية وفلسفتي الكلاني والتاريخانية بهذا الشكل، ويطرح بالضد منها فكرة ما يجب ان يكون عليه المواطن في المجتمع المفتوح في أن “يكون قادرا على التقييم الناقد لعواقب السياسات الحكومية التي يمكن ان تصحح ،أن تعدل في ظل الرؤية النقدية تلك“.
لا ينخرط بوبر في الدفاع عن مبدأ الليبرالية لكنه يمضي اعمق من ذلك في توضيح استناد الشمولية الى كل من التاريخانية والكلانية.
تتلخص اشكالية كارل بوبر مع العلوم الاجتماعية وكافة التخصصات التي تمتاز بطابع خبري مكثف في أن افتراضاتها تتضمن الكثير من التصريحات، وأن إمكانية التحقق من جميع تلك التصريحات هي أمر صعب جداً الى حيث أنه يجعل من امكانية تخطئة تلك الافتراضات أمراً مستحيلاً.
فضلاً عن أن العلوم الاجتماعية بطابعها التقليدي لا تنطلق من المشكلات بل تنطلق من ملاحظات محددة تكون غارقة في اسقاطات وتنظير الاجتماعي صاحب النظرية نفسه، ان ما يقوله بوبر عن ان المشاهدات تخضع للانتقاء برجة كبيرة وفق اراء المشاهد ينطبق الى حد كبير على العلوم الاجتماعية أكثر من أي مجال آخر.

المصدر:

Thornton, Stephen, “Karl Popper“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.)