نحن نعيش الان في عالم جديد حيث اصبح تسارع معدل التغير اكبر في حياتنا ,والعلم صار حكاية كبيرة تشغل مساحة واسعة من اهتمام الانسان العادي .

في هذا الاطار يبشر جون بروكمان في كتابه (ثقافة ثالثة وراء الثورة العلمية )بانتشار نوع جديد من الثقافة المعاصرة روادها وفرسانها العلماء والمفكرون العلميون الذين يصيغون مفاهيم وافكار جديدة وصورا للتعبير عن وعي البشر بانفسهم وبعقولهم وبالكون المحيط بهم وكل ما يعرفونه في الظواهر الطبيعية .ويكتسب هذا الكتاب اهمية خاصة بالنسبة لعالمنا العربي الذي تهيمن عليه الثقافة الادبية الفلسفية ويعاني نقصا شديدا في الابحاث والترجمات العلمية والمواد الاعلامية التي تركز على الجديد في المجالات العلمية المختلفة.

ومن المفاجآت بالغة الاثارة التي لم يكتشفها بعد المثقفون العرب التقليديون ان العلم بدا منذ اوائل القرن العشرين يتجاوز الخيال في مجال اكتشافات نظريات ميكانيكا الكم حيث تظهر مفاهيم جديدة للزمان والمكان والمادة نفسها تحتاج الى اعادة صياغة وجهة نظرنا التقليدية عن انفسنا وعن الكون .

هل اينشتاين مثقف؟

خلال السنوات القليلة الماضية حدث تغير مهم في الحياة الثقافية على المستوى العالمي ,خاصة في البلدان المتقدمة,حيث تم تهميش الثقافة التقليديةولم تعد المعرفة التي انتشرت في الخمسينيات بفرويد وماركس والحداثة ومابعد الحداثة(اكو ما بعد بعد الحداثة لو لا ما ادري؟)كافية لتاهيل الانسان المثقف في وقتنا الحالي.

وكان عام 1959 قد شهد نشر كتاب سي.بي.سنو

بعنوان (ثقافتان) ملقيا الضوء على طرفين لا يلتقيان,المثقفين ادبيا ,والعلماء الطبيعيين,حيث كان المثقفين ادبيا يسمون انفسهم (مثقفين)كما لو انه ليس هناك مثقفين غيرهم!

وهذا التعريف لا يعترف بالطبع بثقافة علماء مشهورين مثل عالم الفلك ادوين هابل وعالم الرياضيات جون فون نيومان وعلماء الفيزياء مثل البرت اينشتاين ونيلز بور وورنر هيزنبرغ .

كيف استطاع المثقفون ادبيا ترويج هذا المفهوم؟

قد يكون من العوامل التي ساعدتهم في ذلك ان العلماء لم يكونوا يركزون بشكل خاص على النتائج التطبيقية لاعمالهم وما تحدثه من تتغير في الحياة اليومية للناس,وحتى لو صاغ العلماء افكارهم في كتب مناسبة للجمهور العام_ وهو ما فعله بعضهم_فان الجرائد والمجلات لم تكن تعطي الاهتمام الواجب لترويج هذه الثقافة العلمية.

وفي الطبعة الثانيةى من (ثقافتان)عام 1963 اضاف سنو مقالة جديدة بعنوان(نظرة جديدة للثقافتين)متوقعا ظهور ثقافة جديدة _ثقافة ثالثة_تملا الثغرة بين المثقفين ادبيا والعلماء بحيث تتيح لغة مشتركة بينهم.

ليست ثقافة سنو الثالثة المتوقعة هي ما يعرضه جون بروكمان في كتابه هذا,حيث لا يشغله التواصل بين المثقفين ادبيا والعلماء,بل الاهم من ذلك في رايه,التواصل المباشر بين العلماء والجمهور العام ,خاصة والمجال اصبح مفتوحا في الوقت الراهن امام مفكري الثقافة الثالثة للتعبير عن اعمق افكارهم بطريقة يمكن لجمهور القراء الذكي ان يفهمها.

ونحن امام كتاب يستعرض افكار علماء يشاركون في احدث المنجزات العلمية المعاصرة في عدد من المجالات منها:البيولوجيا التطورية ,الوراثة,علم الكومبيوتر,الفسيولوجيا العصبية,علم النفس,الفيزياء.

وتتميز الثقافة الثالثة التي يتلمس جون بروكمان ملامحها المعاصرة ,من خلال رصده لاراء عدد كبير من العلماء وكتاب الثقافة العلمية البارزين,بان منجزاتها ليست مجرد مناقشات خارج الاهتمام العام تخص طبقة صفوة مغرمة بنزاعات لا تنتهي ,كما كان الحال دائما,لكنها منجزات تؤثر على حياة كل شخص بالعالم .

من هم مثقفو الثقافة الثالثة؟

يجيب بروكمان بان القائمة تتضمن اشخاصا محددين يتم عرضهم في كتابه هذا,الذين اعطت اعمالهم وافكارهم معنى لهذا التعريف منهم :علماء الفيزياء بول دافيز ,جي دوين فارمر,موراي جيلمان,لي سمولين ,وعلماء بيولوجيا التطور ,ريتشارد دوكينز .نيلز الدريج,ستيفان جاي جولد,وعلماء الكومبيتردبليو دانيل هليليس وكريستوفر لانجتون ومارفين مينسكي ,وعالما النفس نيكولاس همفري وستيفن بينكر .

يرى بروكمان ان كتابه هذا يمثل اعلانا  عن افكار مفكري الثقافة الثالثة الذين يصوغون اهم اسئلة زمننا واكثرها اثارة للاهتمام .

وتدور المعارف المعروضة في هذا الكتاب حول الكثير من القضايا المهمة المعاصرة منها:اصل الكون,واصل الحياة وكيف تكون العقل,مما يجعل مفهوم الثقافة الثالثة يتضمن ملامح جديدة لفلسفة طبيعية تتضمن ظاهرة التعقد في الطبيعة والتطور .وتوضح هذه الفلسفة كيف ان المنظومات بالغة التعقيد ,سيان كانت منظومات حية او منظومات في المخ او الغلاف الجوي للارض او حتى الكون نفسه ,ليست مجرد تصميمات نهائية كانت هكذا منذ البداية حتى الان وستظل كما هي عليه الان لكنها نتاج عملية تطور منذ زمن سحيق .

كتاب جميل وممتع,ارج وان تستمتعوا به