قبل قرابة الـ50 عام استشرف مهندس الحاسوب بول باران (Paul Baran) مستقبل الإعلام الأمريكي ولم يعجبه ما رأى.

“مع تنوع مصادر المعلومات الموجودة، يزداد ظهور جماعات تأخذ أفكاراً مختلفة عن الواقع نفسه دون تقاطع  مع الأفكار الأخرى!” كما يقول باران. ويعد بول من أوائل رواد الانترنت في بداياته وهو من مؤسسي معهد كاليفورنيا للمستقبل (California-Based institute for the future).

يثير بول تساؤلاً هاماً جداً في ما يخص المعلومات بقوله: “هل سيستطيع أعضاء هذه الجماعات أن يتحدثوا لبعضهم بتفاهم؟ وهل من الممكن أن يعتمدوا نفس المصدر لنفس المعلومة!؟ هل من الممكن أن تتقاطع عوالمهم وواقعهم ولو بمقدار ضئيل؟”

هذا ما قاله في العام 1969 مع بدء انتشار التلفاز حيث ظنّ أنّه سوف يقسم الجمهور السياسي أكثر. أما الآن وفي بعد قرابة ال50 عاماً نجد أنّ هذه التحذيرات شديدة الأهمية وذلك بحسب استطلاع واسع النطاق عن ما يشتريه الأمريكيون من كتب.

حيث أنّ نتائج هذا الاستبيان أظهرت بأن التوجهات السياسية للأشخاص تؤثر بعمق في الأمور العلمية! لا وبل أنّهم يقرؤون كتباً مختلفة تماماً.

حيث قام إيفانز وزملائه بسحب البيانات من عمالقة بيع الكتب، موقعي أمزون مع بارنز ونوبل. واللذان يشكلان أكثر من نصف سوق بيع الكتب وشرائها. إلّا أنّ إيفانز وزملائه لم يتعاونوا مع أي من الشركتين سوى أنهم استفادوا من الميزة التي يوفرها كلا الموقعين ألا وهي: الاقتراحات!.

عندما يقوم أحدهم بشراء كتاب فإنّ كلا الموقعين سوف يقوم بعرض اقتراحات مبنية على أناس غيره اشتروا هذا الكتاب وقاموا بشراء الكتب التي تظهر في الاقتراحات الخاصة به. حيث يقول إيفانز: “هذه الاقتراحات سمحت لنا بأن نبني شبكة كاملة تمثل عالم شراء الكتب” حيث قام هو وزملاءه بربط مئات الآلاف من الكتب العلمية مع بعضها، وقاموا بربطها مع أكثر من 1000 كتاب سياسي يتبع لأحد القطبين الأعظمين في أمريكا، القطب الليبرالي (المتحرر) والقطب المحافظ.

الأمر الذي مكنّهم من جمع المعلومات فيما يخص 1.3 مليون كتاب.

بعد ذلك قام الباحثون بالبحث عن أكثر الكتب التي يتم شراؤها من قبل أشخاص اشتروا كتباً تتبع لأحد الاتجاهين السياسييَن. فكان اكتشافهم الصادم بوجود شرخ عميق بين الاتجاهين في ما يخص الأمور العلمية حيث وجدوا بأنّ أنصار الليبرالية يختارون كتباً تتحدث عن العلوم الأساسية كالأنثروبولوجيا، بينما كان المحافظون يختارون كتباً تتحدث عن العلوم التطبيقية كالطب وغيره.

قد يكون هنالك أمل بوجود بعض الاتحاد بين الحزبين بهذا الخصوص! حيث جذبت بعض المواضيع اهتماماً متساويا تقريبا من كلا القطبين السياسييّن، هذه المواضيع هي: الطب البيطري، الآثار، وعلم الأحفوريات.

ولعشاق العلم فهناك أمر قد يثير تفاؤلهم وهو أنّ الكتب العلمية التي يشتريها أنصار كلا الحزبين تشكل نسبة أعلى من الكتب التي يشترونها في مواضيع أخرى كالفن، الأمر الذي يشير إلى وجود قبول واسع للعلم وأهميته في حياتهم.

أمّا في ما يخص الحقول التي كانت مختلفة بشدة بينهم فكان علم المناخ هو الأكثر اختلافاً حيث كان التقاطع بين ما يقرأه كلا الطرفين قليل جداً.

الأمر الذي يثير مخاوف إيفانز، هو أنّه وعلى المدى الطويل من هذا الاختلاف قد يتجاوز الأمر تغيير نظرة العامة للعلم، إلى تعديل العلم ذات نفسه!، فيلجأ العلماء إلى تقليص العينات المأخوذة في دراستهم حتى تتوافق النتائج مع انحيازاتهم المسبقة!

هذا وقد أِشار العالم في العلوم السياسية من جامعة جورجيا والمدعو بتوبي بولسن (Toby Bolsen)، إلى أنّ هذه النتائج قد تثير مخاوفاً تستند إلى تشارك الأمريكيين بالمصادر مع من يتفق مع رأيهم الشخصي وتوجههم.

ويشير توبي إلى أنّ هذه الدراسة لم تقم بسحب عينة عشوائية من كتب المحافظين أو الليبراليين، لا بل تم اختيار الكتب بناءً على تصنيف أمزون لهم. وكذلك لم تأخذ هذه الدراسة بعين الاعتبار الدوافع الشخصية التي قد تدفع أحدهم لشراء كتاب معين.

ويقول جيمس دروكمان (James Druckman)  عالم في السياسة من جامعة نورث ويسترن (Northwestern)  والذي يقوم بدراسة كيف يقوم الناس بتشكيل تفضيل سياسي: “من الجلي أنّ بحث إيفانز هو تقدم محوري في ما نعرفه، لكنّه يتجاهل الصور البسيطة التي يرسمها الحزبين”

هذا الاستنتاج بعيد عن الجهد التي تم في محاولة لتحليل ما يدعى بـ “صوامع المعلومات” من خلال البيانات.

في 2014 عندما كانت موجات العنف تجتاح فلسطين المحتلة (إسرائيل) قام محلل المعلومات جلعاد لوتان (Gilad Lotan)  بنشر تحليل عن مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام فيما يخص هجوماً على مدرسة في قطاع غزة، أوضح فيه (Lotan)  الفجوة الواسعة بين مصادر المعلومات المختلفة !

“الديمقراطية الصحية يجب أن تكون مشروطة بامتلاك إعلام صحي” يقول لوتان هذا ويضيف “نحن بحاجة التفكير ملياً بإضافة جسور بين صوامع المعلومات على الإنترنت والمحافظة عليها”..

يأمل ايفانز بأن يكون قادراً على التعاون مع ناشري الكتب على الإنترنت في المستقبل، وذلك حتى تتاح له إمكانية الوصول إلى معلومات تخص مشتري الكتب وتفضيلاتهم.

أمّا في الوقت الحالي فهو يأمل بأن يرى العمل يجري على ردم هذه الهوة العلمية قبل أن تتسع أكثر، ويطرح فكرة ألّا تكون اقتراحات الكتب بهذا الشكل المغلق وذلك للتأكيد على عدم حصر الناس في صندوق بوجهة نظر واحدة. وكذلك الحث على زيادة التواصل بين العلماء في مختلف المجالات وتشكيل منتديات نقاش للناس من الآراء المختلفة.

“القيام بهذا سيساعدنا على أن نجعل العلم مصدراً مشتركاً” يقول إيفانز ويضيف:” يقع العبء علينا كمجتمع لنصارع من أجل هذا”

يزن الحريري

Panko, Ben. “Liberals and Conservatives Read Totally Different Books About Science.” Smithsonian.com. Smithsonian Institution, 05 Apr. 2017. Web. 26 May 2017.