في عالم آخر لا يجمعنا معه سوى شكل القارات تقريباً، عاشت على الأرض آخر ثلاثة مجاميع من البشر. دامت تلك الفترة أطول بكثير من جميع تصوراتنا التقليدية للتاريخ. منذ 800 ألف سنة حتى حقبة قبل 30 ألف سنة من الآن تواجد النياندرتال والدينوسوفان من جهة وأسلاف الإنسان العاقل من جهة أخرى. في نهايات تلك الحقبة وفي نقطة صغيرة على الأرض الشاسعة وكما هي سنة الحياة، توفيت امرأة يافعة في أحد الكهوف بالمنطقة المسماة سيبيريا في روسيا الحالية. مرت عشرات ومئات وآلاف وعشرات الآلاف من السنوات وكأي ميت لا يختار الموتى شيئاً مما سيحدث لهم، تجمدت عظام المرأة ورفاتها لأمد بعيد، حتى داهم فريق عمل من العلماء الصمت العميق الذي استغرقت فيه الجثة ليحصلوا على عظم من إصبع يدها. سيعني ذلك الكثير للساحة العلمية، وسيعني أيضاً جائزة نوبل لسفانتي بابو (Svante Pääbo) العالم السويدي مؤسس علم جينات العصر الحجري والعالم الذي أحيا النياندرتال جينياً.
أعرب سفانتي بابو في مطلع الشهر الماضي عن فرحه الكبير لاستلامه جائزة نوبل في الفسلجة للطب عن منجزاته في تقديم تسلسل الحمض النووي للنياندرتال لأول مرة. لم يكتشف هذا فحسب بل اكتشف نوعاً موازياً من أشباه البشر وهو إنسان دينوسوفا نسبة إلى الكهف الذي عثر على المرأة تلك فيه بيسبيريا.
ولد بابو في ستوكهولم، السويد عام 1955 لكيميائية إستونية ولعالم الكيمياء الحيوية السويدي سونه بيرغستروم عبر علاقة خارج زواج والده الرسمي. درس الأحياء الجزيئية في جامعة زيورخ في سويسرا في الأعوام 1986-1987 ثم انتقل إلى الولايات المتحدة لجامعة كاليفورنيا، بيركلي حيث عمل على جينوم الثدييات المنقرضة في مختبر الان ويلسون (Allan Wilson).
لمعت سيرته لأول مرة حين استطاع تحديد تسلسل الحمض النووي الميتوكوندري عام 1997 وذلك من رفات وجدت في كهف بألمانيا. ثم نقرأ اسم سفانتي بابو في الاكتشاف المثير للاهتمام عام 2002 لما يعرف بجين اللغة FOX2P ثم أعلن عن عزمه لإعادة تشكيل جينوم النياندرتال كاملاً عام 2006، ليتم الإعلان بعد 4 سنوات، أي في العام 2010، عن طريق مؤسسة ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية التي يعد بابو مديراً مؤسساً لها، عن الانتهاء من مسودة جينوم النياندرتال وتوصل بابو وفريقه إلى أن تزاوجاً قد حصل بين الإنسان العاقل والنياندرتال قبل 50-60 ألف سنة.
كان الاكتشاف الأهم في سيبيريا هو الطريق لتعريف إنسان دينوسوفا، حيث كان الحمض النووي الميتوكوندري لتلك الفتاة التي تم العثور عليها يشير إلى تباين واضح، بالإضافة لتلك المرأة فقد كان هناك عظام لأفراد من النياندرتال في نفس الكهف، ومن غير الواضح إن كان الاثنان قد عاشا سوية في نفس الوقت أم في أوقات مختلفة عبر الزمن، وكل من النياندرتال والدينوسوفان هما فرعان متقاربان من أشباه البشر. ومثلما تخالط النياندرتال مع سلالات عديدة من الإنسان العاقل، فإن الدينوسوفان تزاوج مع فئات من البشر في شرق آسيا وتتواجد نسبة تصل إلى 6% في بعض البشر بشرق آسيا، ثبت اكتشاف ذلك في سكان ميلانيزيا.
يعد ما قام به بابو من تطوير طرق استخراج الحمض النووي من العظام أحد أهم مساهماته، كتب سفانتي بابو حول اكتشافاته وآراءه بشكل مبسط للعامة في كتابه “انسان نياندرتال: البحث عن الجينوم الضائع“. وقد حصل على العديد من الهدايا والتكريمات كان آخرها جائزة نوبل للفسلجة والطب لعام 2022.
اقرأ عن النياندرتال في سلسلة اسلاف الانسان الجزء الأول، الجزء الثاني من اعداد أحمد إبراهيم