ملخَّص: يرى عالم الأنثروبولوجيا وعلم النفس التطوري روبن دونبار (Robin Dunbar) في دراسة نُشرت عام 2004 بعنوان “النميمة  من منظور تطوُّري” أن النميمة gossip (بالمعنى الأوسع للكلمة وهو، حسب قاموس أوكسفورد، تبادل الأحاديث حول الأشخاص الآخرين.) كانت حاسمة لقدرتنا كبشر على تطوير جماعات اجتماعية كبيرة، ويعود السبب إلى أننا نستعمل اللغة غالبا لتبادل المعلومات الاجتماعية، خصوصًا للمحافظة على التواصل مع الأفراد الآخرين وللإعلان عن ميزاتنا ومساوئ أعدائنا. للنميمة أيضا، كجزء من اللغة المتبادلة يوميا، وظائف أخرى كتتبُّع المتطفِّلين (مشكلة الرُّكَّاب بالمجَّان) وخداع الآخرين. يُنهي دونبار الدراسة باستعراض الأسس المعرفية التي نحتاجها لممارسة النميمة، ومن أهمها نظرية العقل.

 

كائناتٌ اجتماعيةٌ جدًّا!

يبدأ روبن دونبار بتوضيح سبب تطوير الإنسان لملكة اللغة (أو كما يسميها “تبادُل المعلومات”). فيرى أن “الرئيسيات الشبيهة بالإنسان، خصوصا قردة العالم القديم، تتميز بشدة الاجتماعية (السلوك الاجتماعي) التي لا تبدو جليَّة في الأنواع الأخرى”. وأن هذه الاجتماعية الشديدة تعتمد على ظاهرتين: الأولى، هي القدرة على إدراك ما يفكِّر به الآخرون (نظرية العقل)، والثانية هي استعمال الثقة والالتزام لضمان العلاقات وأداء الواجبات. ففي مجتمع من القرود، يُعَدُّ المُفترسون العامل الوحيد للتأثير في حجم الجماعة. فكلما زاد عدد هجمات المفترسين زاد حجم الجماعة لحماية أفرادها. ومن هنا يجب أن نعرف أن للاجتماعية تكاليف بقدر ما لها من منافع.

 

الاجتماعية: منافعٌ وتكاليف

العيش في جماعة يعرض الحيوانات (ومنهم الإنسان) للعديد من الضغوط التي لا تكون مثالية لكل فرد، ومنها: المنافسة على مصادر الطعام، مضايقات الأفراد المُهَيمنين، والالتزام بضبط السلوك للتوافق مع الأفراد الآخرين. تحلُّ الرئيسيات هذه المشكلة باللجوء إلى تكوين التحالفات. ولأن هذه التحالفات تتميز بقوة الثقة والالتزام، فهي فعَّالة وحاسمة. فيمكن الاعتماد على الحلفاء (الأقارب، الأصدقاء، الأقران…) عند طلب العون في اللحظات الصعبة. لذا تنشأ بين الأفراد المُسايَسة grooming التي تخلق حس الالتزام بينهم. هذه المُسايَسة المتبادَلة تستهدف إطلاق الإندورفينات (أفيونات يطلقها الدماغ كجزء من نظام التحكم بالألم).

 

اللغة هي الحل

إذن، لجعل حجم الجماعة الكبير ممكنا فمن الضروري (1) تطويرُ آليات معرفية للتحكم بالعلاقات الاجتماعية (تطوير قشرة دماغية أكبر neocortex)، (2) اسثمار وقتٍ أطول في تكوين العلاقات الضرورية. ومن هنا تطورت اللغة، لأن في نقطة ما في تاريخ أشباه البشر التطوري، أصبح حجم الجماعة المطلوب (بسبب زيادة خطر الافتراس) أكبر من أن يُربَط بالمُسايَسة الاجتماعية وحدها. سيكون هذا واضحا إذا نظرنا إلى أن البحث عن المؤن جَعَلَ الوقت المطلوب للرعاية محدودا جدا. يقول دونبار: “مكَّنت اللغة أشباه البشر من كسر حاجز غطاء الزجاجة (يقصد مكنتهم من زيادة حجم جماعاتهم) لأنها تسمح باستعمال الوقت على نحو أكثر فعالية مما يمكن بواسطة المُسايَسة وحدها.” فالكلام يسمح لنا بالتفاعل مع أكبر عدد ممكن في وقتٍ واحد (بينما المُسايَسة تقتصر على فرد واحد) وتبادُل المعلومات حول حالاتنا الاجتماعية. جدير بالذكر أن القرود، لافتقارها إلى اللغة، فهي تحصل على معلومات محدودة حول شبكتها الاجتماعية (الأفراد الآخرين في الجماعة).

يذكر دونبار أربع وظائف مختلفةً للغة: (1) طلب المساعدة ومناقشة الظروف الافتراضية (“كيف ستتصرف لو أن…”)، (2) توفِّرُ لنا “وظيفة بوليسية” للتحكم بأولئك الذين فشلوا في الخضوع للاتفاقيات المجتمع الأساسية، (3) الإعلان عن ميزاتنا الشخصية، (4) الخِداع. ويرى أن اللغة لم تكن لتتطوَّر (ومن ثم تؤدي هذه الوظائف) لو لم نعِش في جماعات كبيرة.

للغة استعمالات مختلفة أيضا، فنحن قد نستعمل اللغة تقنيا أو اجتماعيا. هناك أمثلة لا حصر لها على الاستعمال التقني للغة (في العلوم، مثلا). بدون اللغة، لم يكن علماء كنيوتون ليستطيعوا فهم الطبيعة وطرح النظريات. لكن هذا الاستعمال التقني للغة “جعل استعمالاتها الأخرى تافهة وناتجة عن ملل الفراغ. لذا اكتسبت النميمة سمعتها السيئة لأننا اعتبرناها مجرد إضاعة للوقت طالما نحن قادرون على القيام بشيء مفيد حقا.”

 

هل النميمة منتج ثانوي مفيد أم بلا فائدة؟

يتساءل دونبار: “هل تطورت اللغة لتُسَهِّلَ تبادل المعلومات التقنية (ومن ثم تكون النميمة منتجًا ثانويا لا فائدة منه)؟ أم تطورت لتبادل المعلومات الاجتماعية (ومن ثم تكون النميمة منتجًا ثانويا مفيدا)؟ ثم يذكر أن الإجابة تعتمد على معرفة كيفية استعمالنا للغة وماهية الموضوعات التي نتكلم عنها.

من خلال التجارب المبنية على المُلاحظة التي قام بها دونبار وزملاؤه، تبيَّن أننا نقضي 65% من أوقات كلامنا في تبادل المعلومات الاجتماعية (النميمة)، بينما نقضي ثلث أوقات كلامنا في الكلام عن الموضوعات الأخرى. هذا الدليل بالإضافة إلى أدلة أخرى من حضارات غير أوروبية يقترح هيمنة الاستعمال الاجتماعي للغة على الاستعمال التقني، ومن ثم يقترح أن النميمة منتج ثانوي مفيد. ومن المهم معرفة أن الاستعمال الأكثر للغة في هذه الدراسات كان للبقاء على تواصل مع الأفراد الآخرين في الشبكة (الاجتماعية) وللإعلان عن ميزاتنا كأصدقاء، حلفاء، أو أزواج (أو الإعلان عن مساوئ الأعداء).

 

فلماذا النميمة سيئة؟ مشكلة الرُّكَّاب بالمَجَّان

يعرِّف دونبار الراكب بالمجَّان free rider (الترجمة من ويكيبيديا) بأنه هو “الذي ينتفع بالسلوك الاجتماعي ولا يدفع التكاليف.” وللتوضيح أكثر، أي فرد يستفيد من مجتمعه (عائلته، أصدقائه…) ولا يفيده بشيء يُسمى راكبًا بالمجان أو متطفِّلًا.

كل جماعة محكومة بعقود اجتماعية تنص على أن “على كل فرد أن يتخلى عن اهتماماته بعيدة المدى من خلال البحث الحلول التعاوُنية  للمشاكل البيئية (الآنيَّة، قصيرة المدى) التي تهدد البقاء.” وعلى جميع الأفراد الالتزام بهذا العقد والتغاضي عن ميولهم الأخرى. كل من يُخِلُّ بهذا الشرط يُعد متطفِّلًا. وكلما زاد حجم الجماعة زاد عدد المتطفِّلين بسبب زيادة عدد الأشخاص البريئين (الذين لا يتنبَّهون إلى المتطفِّلين فيعاملونهم بثقة). لذا يحتاج المجتمع إلى معرفة هؤلاء المتطفِّلين لإقصائهم، لكنه في نفس الوقت بحاجة إلى الثقة بين أفراده، إذ سيكون تتبع هؤلاء الأشخاص مضيعة للوقت وللوظيفة الأساسية التي يفترض بالمجتمع أن يؤديها.

تقوم النميمة بحل هذه المشكلة، فطالما يجتمع الناس ويتبادلون المعلومات عن الأشخاص الضارِّين المتطفِّلين فإنهم سيكتشفونهم بشكل مباشر ومن ثم سيلزمونهم بشرط العقد الاجتماعي الذي حاولوا التفلُّت منه، أو سيؤثرون فيهم بشكل غير مباشر ومن ثم يقللون من أضرارهم على وحدة المجتمع.

 

النميمةُ في عقولِنا: الرَّكائزُ المَعْرفية

“يلعب الإدراك الاجتماعي (“متمثِّلا في نظرية العقل theory of mind”) دورا مهما في علاقات البشر.” يقول دونبار، ثم يواصل: “القدرة على رؤية العالم من وجهة نظر شخص آخر هي شرط أساسي للتفاعل الاجتماعي الناجح.” ثم يذكر سببين لهذه الأهمية: (1) لكشف المتطفِّلين (الرُّكاب بالمجَّان)، (2) لأن اللغة نفسها تتطلب على الأقل قصدية من المرتبة الثانية*، أو مستويات أعلى. يتضح هذا من استعمالنا للمَجَازات (الكلمات التي يقصد من ورائها معانٍ أخرى غير معناها الأصلي) التي تمكننا من الكلام بطريقة غير مباشرة و”تسمح لنا بالتعليق على عضوٍ معيَّن من المجتمع بطريقة لا يفهمها إلا أفراد معدودون.”

* المرتبة الثانية من القصدية second-order intentionality تعني أن تفهمَ أنت أنَّ فلانًا يفهمُ الفكرة (س). أما المرتبة الأولى –وهي أقل− فتعني أن تفهمَ أنت الفكرة (س). راجع هذا المقال للمزيد عن نظرية العقل.

 

المصادر:

Dunbar, R. I. (2004). Gossip in evolutionary perspective. Review of general psychology, 8(2), 100.

www.oxforddictionaries.com/definition/english/gossip