كانت بدايات الاعتقاد بنظرية الأرض المسطحة تعود للقرن التاسع عشر والقرن العشرين من قبل المسيحيين المتعصبين الذين كرسوا جهودهم الخرقاء لإثبات الحقيقة الحرفية للإنجيل. انتهت تلك الحقبة بموت أحد أبرز مؤيديها، وهما زوجان مسنان أطلقوا على أنفسهم كنيسة عهد الشعب ” the Covenant People’s Church “، وذلك بعد أن أحرق منزلهما في عام 1996، وذهبت معهم سجلات الجمعية الدولية لأبحاث الأرض المسطحة في أمريكا، وكما انتهت قصتهم حينها عادت لتبدأ من جديد مع رواية جديدة عن نظرية الأرض المسطحة.

انتقل الكتاب الحرفيّون من مركز اعتقادهم بأن الأرض مسطحة إلى هامشه، وتم دعم ذلك من قبل المؤمنين بنظريات المؤامرة والعلوم البديلة، وكان مؤمني القرن الحادي والعشرين بالنظرية أقل استشهاداً بآيات من الإنجيل وأكثر ميلاً لمعارضة التلقين، باستشهادهم أن أحداث 11 أيلول كانت عملاً داخلياً، وادعائهم أن الحكومة تقوم برش المواد الكيميائية والبيولوجية من الطائرات.

باتت الأرض المسطحة الآن مقترنة بعمل الآلات الدائمة، بالإضافة للاعتقاد بأن أسرار الطاقة الحرة والانصهار البارد وطاقة العدم كانت بحوزة نيكولا تيسلا وتم قمعها من قبل النخبة العالمية، وأُعلن أن كل ذلك جزء من عملية تستر كبرى: أن الأرض فعلياُ قرص مسطح وليست كرة أرضية.

يعتبر جوجل تریندس (Google Trends) أفضل مرجع لتتبع شعبية الأفكار، فالبحث عن مصطلح “الأرض مسطحة” بدأ بالازدياد الطفيف في بداية عام 2015. ومازال يزداد، وحالياً یعد المصطلح في أعلى معدل له على مر التاريخ بحسب سجل غوغل. وذلك مع استثناء كانون الثاني من عام 2016 حيث لوحظ وجود ارتفاع هائل. في ذلك الوقت كان هنالك بعض المشاهير من الدرجة الثالثة -غير مشهورين جداً- يعلنون بصوت عالٍ أن الأرض مسطحة ورفضهم الأرض كجسم كروي، ولم يتبين إن كان ذلك أيماناً بذلك أو مجرد طريقة لجذب الانتباه. ومن أبرزهم كان مغني راب يدعى “B.o.B” فما كان من الفلكي ومحب العلم نيل تايسون “Neil deGrasse Tyson” غير أن بدأ يصحح ذلك له عبر تويتر.

خلال وقت قصير تطور الأمر لمواجهة راب، حيث كان ابن شقيق تايسون يوفر الإيقاع.

أما الآخر فكانت “Tila Tequila” التي كانت تمتلك شعبية على تويتر نظراً لتغريداتها الخلاعية.

لم يكن الأمر مقتصراً على هؤلاء المشاهير والباقي من المتعصبين المسيحين فقط. فسجلات غوغل تثبت أن B.oB و Tila كانوا فقط يعاصرون موجة كانت تتنامى لتصل لأفضل أوقاتها من السنة، فمن أين تم بناء ذلك؟ يوتيوب يوفر مؤشرا آخر.

ابحث في اليوتيوب عن “الأرض مسطحة” و ستجد عدد لامتناهي من الفيديوهات، غالباً صنعت من قبل أشخاص هواة يملكون الكثير من سوء الفهم ونقص المعلومات. بالرغم من ذلك فالعديد منهم يمتلك عشرات الآلاف أو مئات الآلاف من المشاهدات. معظم هذه الفيديوهات تم نشرها خلال عامي 2015 و 2016. فما الذي أدى لهذا الاهتمام المفاجئ؟

أحد المؤمنين بنظرية الأرض المسطحة الذي ادعى بأنه يمتلك الإجابة لهذا السؤال.

ايريك دوباي (Eric Dubay) الذي يعتبر من المؤمنين بنظرية المؤامرة نشر كتابه الخاص في تشرين الثاني في عام 2014 على موقع (LuLu.com) بعنوان “مؤامرة الأرض المسطحة” وهو يملك قناة على اليوتيوب بنفس اسم كتابه. فكل ما قام به دوباي أنه أخذ فكرة الأرض المسطحة وأعاد صياغتها بشكل عصري، عندها بدأت كل فيديوهات اليوتيوب بالظهور، و أصبح ذلك شائعاً، و بدأ بالانتشار خلال سنة بين متابعي نظرية المؤامرة على اليوتيوب، إلى أن وصل إلى B.o.B و Tila Tequila.

ودوباي هو مدرب يوغا يعيش في تايلاند حيث عمله الدائم كما يقول فضح النظام العالمي الجديد، ومن الواضح أن ستوديو ممارسة اليوغا يعتبر أنسب مكان للحصول على التعليم الجيوسياسي.

نظرية الأرض المسطحة الجديدة اتخذت نمط اعتدنا على ملاحظته: إدعاءات متفوقة البصيرة ومعرفة قادمة من أشخاص غير معروف من أين اكتسبوا هذه البصيرة، في مجالات متنوعة مثل الجغرافيا السياسية والاقتصاد وكل العلوم الفيزيائية فعلياً. العديد ممن ينجذبون إلى الوعد بمعرفة فائقة، فكرة السر والحكمة المحرمة. العديدون يتقبلون الأفكار التي تقول أن الكيانات القوية كالحكومات والبنوك تعتبر الشر بحد ذاته وأنها تمارس الآن نشاط سلطات قمعية واسعة النطاق للسيطرة علينا. في حال كانت نظرية المؤامرة حقيقة و واقع، فمن منا لا يريد أن يتخيل نفسه كجزء من الأقلية المتمردة الشجعان الذين يمتلكون رؤى للتغلب والانتصار؟ فكرة نظريات المؤامرة جذابة للغاية على المستوى الفردي، و احتمالية المتنورين الأقوياء الذين قد نجحوا بخداع البشرية تغلق كافة الاحتمالات.

دوباي لم يختلق هذه الظاهرة: بل كان ببساطة أحد الأشخاص الذين استخدموا الأمر في الوقت المناسب على أرضية تعتمد على شريحة واسعة أتعبتها قضية جون كينيدي و أحداث 11 أيلول.

السؤال الذي نحب أن نسأله لكافة المعتقدين بأن الأرض مسطحة هو لماذا؟ لماذا قد ترغب الحكومات أو المتنورين أو أياً يكن بخداع الشعب لتجعلهم يعتقدون بشكل آخر للأرض؟ ما الذي سيكسبونه من القيام بهذه المهمة المستحيلة؟ لم أجد أية إجابة مقنعة، لكنني وجدت العديد من الإجابات المختلفة. كان يجادل البعض بكون ذلك يحمي أرباح شركات الطيران بشكل أو بآخر، ولكن الغريب في الأمر كون عملية الاحتيال هذه ظلت مستمرة لمدة 500 سنة. و قال البعض أن ذلك للمحافظة على تدفق الأموال للأقمار الصناعية ومتعهدي الاتصالات الذين لا يمتلكون فعلياً أية أقمار صناعية. و البعض جادل كثيراً عن كون الأمر فقط من أجل السيطرة. السيطرة على الشعوب بالتضليل.

لكي يزدهر مجتمع المؤامرة، من غير الضروري وجود معتقد بديل، كل ما يهم هو اتفاق الجميع على أن القصة السائدة هي كذبة. ونجد ذلك في العديد من روايات قصة تحطم البرجين: قد تكون صورة ثلاثية الأبعاد أو صواريخ أو طائرات تحكم عن بعد. كما هنالك مئات النظريات حول مقتل جون كينيدي; و كذلك التنوع في روايات نظرية الأرض المسطحة. لا نوافق على كون أي من هذه الروايات هو الصحيح. بل نتفق على شيء وحيد أن كل ما تقوله “القوى صاحبة النفوذ” هو محض كذبة.

وشيء آخر مشترك بين جميع المعتقدين بأن الأرض مسطحة أن الكثير من أصحاب نظرية المؤامرة هم معادين للسامية. واحد من أقسام منتديات موقع دوباي الأساسية يُدعى “ناسا، الأمم المتحدة، الماسونية، الفاتيكان، اليهود، اليسوعيين، النظام العالمي الجديد” يحوي العديد من النقاشات كالنقاش حول تجارة الرقيق اليهودية، النظام اليهودي الصهيوني العالمي وطقوس التضحية اليهودية.

ما الذي يربط معاداة السامية بالأرض المسطحة؟ إن ذلك فقط مجرد جزء من الدليل الذي يُظهر أن الأمر لا يعتمد على العلم أو الجغرافيا، بل إنه حول إيديولوجية السيطرة من قبل حكماء الشر.

إنهم فعلياً غير مهتمين إن كانت الأرض مسطحة، تدور، أم أنها ثابتة ولا إن كانت تدور الشمس حولها وفق دائرة؛ هذه التفاصيل غير مهمة. الشيء الوحيد المهم باعتقادهم أنه يتم التحكم بهم وخداعهم من قبل النخبة الشريرة. هذا ما هو معروف مسبقاً عن اليهود بكونهم العدو؛ اليهود دوماً هم كبش الفداء عندما يتعلق الأمر بإدعاءات المؤامرة منذ قصة الصلب.

أي نقاش حول الأرض المسطحة يثير السؤال “مهلاً، هؤلاء الناس ليسوا جديين حقاً، إنهم فقط يمارسون فن الخطابة والفلسفة” كنوع من التدريبات المعرفية في دعم فكرة لا يمكن دعمها. هذا صحيح، هؤلاء الناس موجودين، لكنهم لا يشكلون جزء معتبر من منتديات الأرض المسطحة التي قمت بزيارتها. انطباعي عن وجود المعتقدين بأن الأرض مسطحة الذين اعتنقوا هذا المبدأ لمجرد التحدي الفكري بأنهم مجرد أسطورة مدنية. والنقاش مسيطر عليه بشكل كبير من قبل أصحاب نظريات المؤامرة.

إنه من العار حقاً كوني وجدت بعض الأسئلة المثيرة وسط النقاشات الأقل جنوناً. واحدة من الادعاءات المهمة كانت أن مؤشرات الارتفاع التوازني في الطائرات تبقى مستوية مهما كانت الرحلة طويلة. تبدو هذه كحجة منطقية. إذا قامت طائرة برحلة حول الأرض، فإن مقياس التوازن الصحيح سيعطي انحراف 360 درجة كاملة على مدى الرحلة. ومع ذلك، كما يقولون، فذلك لا يحصل. لماذا؟ لأنهم لم يتكلفوا عناء معرفة آلية عمل هذا الجهاز. هذه الأجهزة توضع بشكل أفقي في الطائرة وتبين تغيرات الارتفاع على محورين افقيين: الميل والدوران. كما أنها مصممة بطريقة تعيدها بشكل مستمر للوضع المستقر، ببطء، خلال 2-8 درجات في الدقيقة. بهذه الطريقة فلا داعي لضبطها، فهي تستمر بإعطاء قراءة حيادية بغض النظر عن حركة الطائرة. وبذلك، خلال الرحلة حول العالم، ستبقى مؤشرات الارتفاع ثابتة نسبة لمكان توضعها. لسنا بحاجة ل”أرض مسطحة” لتفسير آليات عمل هذه الأجهزة الأساسية.

وبعضهم يدعي أن الكثير من طرق الطيران تعبر القطب الشمالي في حين لا يعبر أيّ منها القطب الجنوبي. وذلك لأنه لا يوجد قطب جنوبي وإنما حاجز من الجليد محيط بالأرض المسطحة. و لكن مجددا، هناك أسباب منطقية لهذا لا تتطلب دحض العلم. أولاً؛ هناك عدد قليل جداً من محاور الطيران في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية وبذلك لسنا بحاجة لعبور القطب الجنوبي. أقرب محور طيران من القطب الجنوبي في الحقيقة يبعد 74 درجة عنه وهو المحور من مدينة ميلبورن إلى بوينس آيرس. ثانياً؛ ببساطة  ليس هناك خيارات لتغيير مسار الطائرة عبر البحار الجنوبية. لا تمتلك القارة القطبية الجنوبية أية مطارات من أجل الهبوط الاضطراري. أي باختصار، ليس هنالك أي سبب يدفعنا للطيران فوق القطب الجنوبي.

ليس هناك أي سبب منطقي يجعلنا نتعمق في الدلائل التي يدعي بها المعتقدين بالأرض المسطحة. إنها بشكل أساسي ادعاءات متكررة بعدم القدرة على رؤية أي انحرافات في الأرض من أي مكان و تأكيدات أن هذه الصور غير واضحة نتيجة استخدام عدسات واسعة النطاق.

حجج واهية. يعتبر التركيز على تفاصيل مثل العدسات و مؤشرات الارتفاع التوازني و تجاهل الدلائل الأكثر وضوحاً علامة مميزة لتفكير أصحاب نظرية المؤامرة. إن الدرس الواجب تعلمه هنا غير مرتبط بشكل الأرض و إنما يتعلق بطريقة معالجتنا للأفكار. ليست المشكلة نقص المادة العلمية و إنما ضعف المحاكمة المنطقية لتصفية أفكار المؤامرة.

المصدر

Brian Dunning, “The New Flat Earthers. Skeptoid Podcast. Skeptoid Media, 31 May 2016. Web. 7 Apr 2017.

الحقوق:

Translated by Bassel Qattan (باسل قطان) Written by: Brian Dunning

Translation is done following obtaining permission from Skeptoid.com. All rights reserved, any use of the material requires permission from the Skeptoid.com.