تأثير القمر المكتمل والجنون نشرت هذه المقالة تحت عنوان”حقائق وروايات في الصحة النفسية: الجنون والقمر”.

هل حقاً اكتمال القمر يحفز سلوكيات غريبة لدى البشر؟

“إنه خطأ القمر. يقترب من الارض أكثر مما يجب، ويدخل الجنون على الناس.” عطيل ـــ ويليام شكسبير.

تأثير القمر عبر العصور

يردد العديد من الناس عبارة “لابد أن يكون القمر مكتملاً هناك”، في محاولة لتفسير الأحداث الغريبة فى الليل. في الواقع لاتزال آلهة القمر الرومانية تحمل اسماً مألوفاً لنا اليوم: فكلمة “lunatic” أى الجنون والطيش مشتقة من كلمة “Luna” وهى إلهة القمر فى الميثولوجيا الرومانية. وقد أشار كلاً من الفيلسوف اليونانى (أرسطو) و المؤرخ الرومانى (پلينى الاكبر) إلى أن الدماغ عضو مائي”moistest” فى الجسم و لذلك فهو أكثر عرضة للتأثيرات الضارة للقمر التي تسببها ظاهرة المد والجزر. وعندما أشتهر بين الناس علي نطاق واسع التحول إلى مصاصين دماء أو مستذئبيين أثناء أكتمال القمر، استمر الاعتقاد ب(التأثير القمري الجنوني) أو(تأثير ترانسيلفانيا) كما كان يسمى فى بعض الأحيان فى أوروبا خلال العصور الوسطى.

حتى اليوم، يعتقد كثير من الناس أن القوى الغامضة لاكتمال القمر تحفز سلوكيات غريبة مثل: دخول مستشفى للأمراض النفسية، الانتحار، القتل العمد، مكالمات غرفة الطوارئ، حوادث المرور، الشجار فى مباريات الهوكي، عضات الكلاب، وجميع الأحداث الغريبة.

كشفت أحدى الدراسات الإستقصائية أن 45% من طلاب الجامعات (في الولايات المتحدة) يعتقدون أن الأشخاص الحالمين عرضة لتلك السلوكيات الغريبة أكثر من غيرهم، كما أشارت غيرها من الدراسات أيضاُ بأن العاملين في مجال الصحة العقلية لا يزالون أكثر عرضة لهذا الاعتقاد من الاشخاص العاديين.

حتى أنه في عام 2007 أضافت العديد من مراكز الشرطة في المملكة المتحدة عدد من الضباط فى الليالي القمرية؛ في محاولة لمواجهة إرتفاع معدلات الجريمة المفترضة.

المياه تعمل

قدر بعض المؤلفيين المعاصرين مثل الطبيب النفسى (ارنولد ليبير Arnold Lieber)- الباحث فى جامعة ميامي- أن التأثيرات المفترضة لاكتمال القمر على السلوك تنشأ من تأثيره علي المياه. وحيث يتكون جسم الانسان فى المجمل من 80% من الماء؛ لذلك ربما يُعمل القمر تأثيره الغامض بطريقة أو بأخرى على تعطيل محاذاة جزيئات الماء فى الجهاز العصبي.

لكن هناك على الاقل ثلاثة أسباب توضح لماذا لا يصمد هذا الاعتقاد:

أولاً: آثار جاذبية القمر ضئيلة جداً لتوليد أي آثار مفيدة على نشاط الدماغ، ناهيك عن السلوك.كما أشار عالم الفلك الراحل (جورج أبيل George Abell) – من جامعة كاليفورنيا، لوس انجلوس- الى أن البعوضة الجالسة على ذراعنا تمارس جاذبية أكثر قوة علينا من تلك التي يحدثها القمر. وحتى الآن – على حد علمنا- لم ترد تقارير بشأن (تأثير البعوض).

ثانياً: تؤثر قوة جاذبية القمر على المسطحات المائية فقط مثل المحيطات والبحيرات، ولا تشمل المنابع مثل الدماغ البشري.

ثالثاً: يكون تأثير جاذبية القمر قوي أثناء بداية القمر الجديد ( الهلال) – عندما يكون غير مرئي لنا- و أثناء الأقمار المكتملة.

 

هناك مشكلة أكثر خطورة لشديدي الاعتقاد بالتأثير القمري: وهي أنه ليس هناك دليل على وجوده.

قد أجرى كلاً من عالم النفس (جيمس روتون James Rotton) – من جامعة فلوريدا الدولية Florida International University  – وعالم الفلك ( روجر كلفر Roger Culver)- من جامعة ولاية كولورادوColorado State University- وعالم النفس ( إيفلن كيلي Ivan W. Kelly) –  من  جامعة ساسكاتشوان University of Saskatchewan- بحوث موسعة بشأن أي السلوكيات متسقة مع تأثير إكتمال القمر. ولم يحصلوا على نتائج فى جميع الحالات.

وقد وجدوا بالجمع بين نتائج الدراسات المتعددة واعتبارها دراسة واحدة ضخمة- إجراء تحليل إحصائي ميتا meta  – أن الأقمار الكاملة غير مرتبطة تماماً بمجموعة الأحداث الغريبة من إرتكاب الجرائم، الانتحار، المشاكل النفسية، و مكالمات مركز إدارة الأزمات. عام 1985 فى استعراض ل 37 دراسة بعنوان” الكثير من اللغط حول إكتمال القمر Much Ado about the Full Moon “، التى ظهرت فى واحدة من المجلات الرائدة فى علم النفس – Psychological Bulletin– ودع (روتون Rotten) و (كيلى Kelly) تأثير القمر الكامل. وانتهت الدراسة بأنه ليس هناك ضرورة لإجراء مزيد من الابحاث بذلك الشأن.

يشير إستمرار الاختلاف بين النقاد حول هذا الاستنتاج لعدد قليل من النتائج الايجابية التى ظهرت في دراسات متفرقة. و مع ذلك فقد إنهارت البحوث القليلة المُطالبة بدعم تأثيرات القمر الكامل، بالتحقيقات الوثيقة. فى دراسة نُشرت عام 1982 أفاد الفريق المؤلف أن حوادث المرور كانت أكثر تكراراً فى الليالي المقمرة عن الليالي الأخرى.

ولايزال يشوب تلك النتائج خطأ فادح: ففي فترة البحث حيث كان يقود أغلب الناس، كانت الاقمار الكاملة أكثر أنتشاراً في عطلة نهاية الاسبوع. و عندما أعاد المؤلفون تحليل البيانات للقضاء على عامل الخلط هذا، اختفى التأثير القمري.

منشأ الاعتقاد

إذا كان التأثير القمري مجرد أسطورة نفسية وفلكية، فلماذا أنتشر إذاً على نطاق واسع؟ هناك العديد من الاسباب المحتملة لذلك: يكاد يكون من المؤكد أن التغطية الاعلامية تلعب دوراً في ذلك. كما تصور العشرات من أفلام الرعب في هوليوود الليالي القمرية وكأنها قمة الذروة للحوادث المخيفة مثل القيام بالطعن بالسكين، إطلاق النار، والسلوكيات الذُهانية.

ولعل الأهم من ذلك أن البحث أثبت أن العديد من الناس يقعون ضحية لظاهرة وصفها عالمان النفس (ماديسون لورين Madison Loren  ) و (جان تشابمان Jean Chapman ) – من جامعة ويسكونسن University of Wisconsin – بأنها “رابطة وهمية”. على سبيل المثال: يصر العديد من الأشخاص الذين لديهم آلام في المفاصل أن آلامهم تزداد أثناء الطقس الممطر، بالرغم من أن الابحاث لم تؤكد هذا. مثل السراب المائي الذى نلاحظه على الطرق السريعة خلال أيام الصيف الحارة، حيث تخدعنا “الارتباطات الوهمية” بإدراك الظواهر في غيابها.

تنتج العلاقات الوهمية في جزء من عقلنا يميل إلى استحضار وتذكر أحداث بعينها أكثر من غيرها.عندما يكون هناك “بدر”، ويحدث شيء غريب نلاحظه، نتذكره عادة بعد ذلك ونخبر الآخرين عنه. و نحن نفعل ذلك؛ لأن مثل تلك الحوادث تتناسب مع أفكارنا المسبقة بهذا الشأن. في الواقع، أظهرت إحدى الدراسات أن مُمرضي الطب النفسي الذين يؤمنون بالتأثير القمري، قد كتبوا المزيد من الملاحظات بشأن السلوكيات الغريبة للمرضى أكثر ممن لا يؤمنون به. وفي المقابل عندما يكون هناك “البدر” ولا يحدث شيء غريب، سرعان ما يتلاشى ذلك – اللاحدث- من الذاكرة. وكنتيجة لإختيار ما يتم تذكُره؛ ندرك بشكل خاطيء وجود رابطة بين الأقمار الكاملة وعدد لا يحصى من الأحداث الغريبة.

لايزال تعليل الرابط الوهمي لا يفسر كيف بدأت فكرة القمر الكامل، بالرغم من أنه ربما أتضح جزء مصيري من اللغز. طرح الطبيب النفسي (تشارلز رايزن Charles L. Raison) –  من جامعة إيموري Emory University- و عدد من زملاؤه، واحدة من الأفكار المثيرة للاهتمام وهى أن التأثير القمري ربما هو جزء صغير من الحقيقة؛ لانه ربما كان حقيقة لمرة واحدة. جاءت تخمينات ((Raison قبل ظهور الإضاءة في الخارج في العصر الحديث، إذ كان الضوء الساطع للقمر المكتمل يحرم الناس الذين يعيشون في العراء- بما فيهم العديد من الذين لديهم اضطرابات عقلية- من النوم. ولأن الحرمان من النوم، مع بعض الظروف النفسية مثل الاضطراب الوجداني ثنائي القطب (الهوس الاكتئابي)، يحفز سلوكيات غريبة في الناس فقد تم الربط بين القمر الكامل و تزايد معدل السلوكيات الغريبة منذ فترة طويلة في العصور الماضية. لذلك فإن (Raison) و زملاؤه يصفون التأثير القمري بأنه “تحجر ثقافي”.

ربما قد لا نعرف إن كان هذا التفسير صحيح أم لا. لكن على الأقل في عالم اليوم، يبدو أن التأثير القمري ليس أفضل تأيداً من فكرة أن القمر يتكون من “الجبن الاخضر”.

المصدر: http://www.scientificamerican.com/article/lunacy-and-the-full-moon/

ترجمة: إسراء بدوى