بعد الانهيار شبه التام للمؤسسة التعليمية والمؤسسة الإعلامية سواء كانت خاصة أم حكومية، فإن للإجهاز على العقول وسائل صارت تنافس ضوء الشمعة الخافت الصادر من هنا وهناك من مواقع تنويرية علمية متفرقة. أمتلكنا المواقع وامتلكوا هم القنوات الفضائية. تحدثنا في الجامعات واستضافوا هم زغلول النجار[1] ليلقي محاضراته الجامعات.

مع ذلك نعود للقنوات الفضائية ولنا عودة لاحقاً إلى نوعية ضيوف الشرف والمحاضرين الذين يؤتى بهم كقدوة ونموذج في الجامعات العراقية والمصرية والسعودية والمغربية وغيرها. ليست ظاهرة القنوات الداعمة للدجل والشعوذة ظاهرة جديدة فالعراقيون على سبيل المثال لم يعرفوا أبو علي الشيباني[2] سوى من قناة الديار وهو بضيافة ممثل عراقي مخضرم – سامي قفطان – كما لم يعرف العراقيون مغامرات الرجل مع المخابرات الامريكية والاسرائيلية وتحكمه بالأحداث العالمية واستعراض مهاراته في معرفة أسرار المتصلين عبر الهاتف وغير ذلك من الهراء الكثير سوى مما تعرضه قناة الديار.

أما قناة دبي ذات الصيت الأكبر بكثير من قناة الديار العراقية فقد عرضت مرة ضمن “برنامج نشوة” ما يبدو وكأنه مناظرة بين المعالج الروحاني عزت ابراهيم ورجل دين آخر مناهض له، لكن الحلقة كانت كافية لاستعراض قوة عزت ابراهيم في استخراج الشياطين من أجساد الناس، لاسيما وأن اللعبة كانت تجري في ملعبه وبالنصوص التي يمكنه أن ينتصر بواسطتها لا على ملعب التشكيك العلمي العقلاني الذي تنأى عنه وسائل الإعلام العربية.

لكن لم تستضف قناة دبي لوحدها ذلك “المعالج” فقد تسابقت عليه ايضاً قنوات الشباب، ONTV، وغيرها من القنوات التي فتحت له الباب ليدخلنا بدوره إلى عوالم الجن وتأثيراتهم الخفية على العالم والتي تتطلب قدرة فذة من دجال مثله ليكشفها لنا.

مصطلح المعالج الروحاني قد يكون له صيت مختلف الآن بفعل هذا الإعلام في أجيال ترتفع فيها الأمية وتنخفض نسبة المعرفة. تأثير التلفاز كان قد أثبت مسبقاً على أصعدة عديدة وبشكل مباشر وغير مباشر عبر الدراسات على نظرة الأشخاص للعلم من جهة وللخرافة من جهة أخرى.

دراسة مثيرة للاهتمام عام 1998 في لافاييت بولاية إنديانا الامريكية تناولت تأثير التلفاز على الاعتقاد باليوفو وتأثيرات الكائنات الفضائية والتأثيرات الماورائية. حيث الكثير من الدعايات والبرامج التي تروج حول “ألغاز بلا حل” و”ما وراء الواقع” أو “X-Files” وغيرها، فضلاً عن مساهمة هوليوود بأفلام كثيرة مثل الشبح (Ghost)  (1990) وأفلام أخرى كثيرة تبعته. تناولت الدراسة عرض فيلم حول الصحون الطائرة (UFO) وذلك وفق نمطين من عرض المعلومات: الرسائل الاحادية الوجه (One sided messages) وهي التي تعرض وجهة نظر واحدة حول الأمر؛ والرسائل ذات الوجهين (Two sided messages) والتي تعرض الرأي التشكيكي المعارض أيضاً. وقد أثبتت الدراسة إنخفاضاً كبيراً في تصديق الصحون الطائرة لدى المشاركين لدى مشاهدة الرسائل ذات الوجهين، في حين ارتفع تصديقهم بالصحون الطائرة عند مشاهدة الرسائل الأحادية الوجه[3].

في دراسة أخرى في الولايات المتحدة  عام 1994 من أستاذين من جامعة أوكلاهوما حول تأثير مشاهدة التلفاز على نظرة الأطفال للعلماء وخصوصاً مشاهدة أفلام الكارتون، الصورة النمطية للعالم في أفلام الكارتون جعلته أقل قيمة لدى الأطفال الذين يشاهدون أفلام الكارتون بكثرة بينما جعلته في مكانة إيجابية لدى الأطفال الذين لا يشاهدون أفلام الكارتون بكثافة[4].

إلى أي مدى سيزداد عدد المصدقين بترهات تلبس الجن، الرقية الشرعية، العلاج الروحاني، الطلاسم والأذكار، العلاج بالأعشاب وغير ذلك من الخرافات؟ لاسيما وهي تظهر في حلقات تحاول أن تبرهن أمام المشاهد باستمرار على نجاح أساليبها مع المتصلين وضيوف الاستوديو الذين يصرعون أرضاً حالما يبدأ الدجال بالتلاوة، وغير ذلك من الأساليب التي توحي للمشاهد بأنها تجريبية الطابع وأنه الحكم فيما يجري أمامه. رأينا كيف تؤثر أفلام الكارتون لوحدها على نظرة الأطفال للعلماء، فكيف ستؤثر برامج وقنوات كهذه على نظرة مشاهديها للعالم؟

كما أسلفنا سابقاً فإن من القنوات العراقية المختصة بهذا الشأن: قناة الديار الفضائية، والتي على الرغم من تقديمها لبرامج أخرى غير أن أبرز ما تقدمه وما يعرفه الناس بها هو البرنامج الذي يعرض الدجالين على الشاشة؛ قناة أهلنه أيضاً تضاف للقائمة وهي تزين برنامج العلاج الروحاني فيها ببرامج دينية أيضاً وتحسب على القنوات الدينية؛ فضلاً عن قناة دمعة العائدة لأحد الدجالين – الشيخ أحمد الوائلي.

أما عند مشاهدة قناة النجاح المصرية وهي تعرض مذيعة غير محجبة تقابل معالج روحاني يدعى سيد عطية فقد يتبادر الى الأذهان أن استضافة أحد الدجالين صار يعدُ مصدر للدخل في بلدان كمصر التي تبلغ فيها نسبة الأمية 29.7% بحسب تصريح الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء[5] بتصريحها عام 2016، و 18% على أقل تقدير في العراق بحسب تصريح وزارة التخطيط عام 2015[6] وهي أعلى من نسبة الأمية في بريطانيا بمنتصف القرن التاسع عشر.

لا ننسى ذكر قناة الأنوار الدينية العراقية التي تعرض هي الأخرى لقاءات مع معالجين روحانيين مثل المدعو أبو رضا الرماحي، وقناة الحياة المصرية كانت هي الأخرى مساهمة في الترويج للمدعو “الشيخ اليماني” وهو يستعرض مهاراته لإستخراج الجن من أحد الأشخاص.

طبعاً للمتسائلين حول كيفية إجراء هذه الطقوس. فإن من له القدرة على اغراء قنوات فضائية او فتح قنوات فضائية لن يكون من الصعب عليه ان يحصل على مساعدين يقومون بأداء الأدوار ببراعة، بل وأن يختار منهم الأكثر براعة والأكثر واقعية في إظهار الأصوات والحركات الغريبة ليدعي أن عفريتاً قد تلبس به. ولن يكون الأمر مخجلاً لهؤلاء الأشخاص طالما أن بعض المعالجين صاروا يتدخلون في الأمور الطبية وأن الأمر مقبول ثقافياً.

طوني خليفة على قناة الحياة استضاف شخصاً يدعي ابطال السحر والمس وتأثيرات الحسد وقام برقية طوني أثناء البرنامج ولا ندري هل ننظر لبسمة طوني الساخرة بإيجابية أم للمتصلين المؤيدين للمعالج “الروحاني” بسلبية. لكن من الانطباع العام للحلقة يبدو أن التأثير الإيجابي لصالح الخرافات كان أكبر. ولم تكن رسالة ثنائية الأوجه بدرجة كبيرة.

الموضة الأخرى في القنوات العربية هي الدجالين الذين يحاولون فضح دجالين آخرين في حرب بينهم أو ربما بين القنوات. فها هو سيد عطية من مصر يحاضر لنا عن خبايا السحرة والدجالين. وفي العراق صارت الحرب الباردة بين أبو علي الشيباني وأحمد الوائلي موضوع الساعة لفترة غير قصيرة.

الرقية الشرعية

أما الرقية الشرعية فلها قنواتها وشخوصها ايضاً والذين يشتركون بكافة الالاعيب والاكاذيب السابقة لكنهم يضفون طابعاً أكثر دينية من خلال اقترابهم من مصطلح ديني صريح وهو (الرقية). هناك قناة اسمها الرقية الشرعية مستمرة بتلاوة تعويذات الرقية لأربع وعشرين ساعة دون توقف وهي تعتاش أيضاً من الدعايات ومن الرسائل القصيرة المتلهفة وراء هذه المواد. قناة أزهري هي الأخرى تعمل بنفس الطريقة مع عرض مستمر لتلاوة الرقى. ولم يترك مشاري العفاسي[7] هذه الفرصة أيضاً ليردد رقاه في قناته الفضائية.

قناة شنقيط المنبثقة من موريتانيا (نسبة الأمية 40%)[8] توفر أيضاً مواد مشابهة كالرقية الشرعية ومعالجة السحر والحسد وطرد الشياطين وهي تقدم موادها بالدرجة الأساس لشعب يحتاج لتعلم القراءة والكتابة قبل أي شئ آخر.

مسميات أخرى مثل: قناة الموعظة الفضائية؛ قناة الصحة والجمال (ولا يغركم الأسم فالقناة تضيف لأنشطتها ترويجاً لطب الأعشاب فضلاً عن تفسير الأحلام وبرامج للطب البديل والمنتجات غير المثبتة المفعول)؛ قناة الجميلة الفضائية (تنمية ذاتية ورقية شرعية ومواعظ)؛ قناة السلطان الفضائية التي ترفق تلاوة الرقية الشرعية بتسويق منتجات السعادة الزوجية، فلا تفوت طريقاً للربح؛ قناة آيات؛ قناة وصال؛ قناة الناس؛ قناة اقرأ؛ قناة الصريدي؛.. وغيرها من القنوات التي يطول تعدادها.

صورة قاتمة للمستقبل

كل تلك الصناعة الضخمة والمتنامية مع حرية أكبر في افتتاح القنوات وانخفاض أكبر في أي شكل من أشكال الرقابة عليها فيما تقابل الرقابة برامجًا ومواد أخرى بعين صارمة، وفي الوقت الذي تتزايد فيه نسب الأمية أكثر من أي وقت آخر. شاهدنا في أكثر من حلقة كيف يؤتى برجل دين منفتح وهو يحاول أن يناقش الطرف الآخر ليقنعه بعدم ثبوت الأمر في الدين الإسلامي لكن النصر حليف مؤيدي الجن والرقية والسحر دوماً، حتى وصل الأمر لمناقشة أحد المشايخ لحكم رش الملح لطرد الجن، فالقضية بالنسبة لهؤلاء لا تتمحور حول رفض الجن أو تأثير السحر أو الحسد من الأساس بل بكيفية تفاعل تلك الأمور معنا وكيفية علاجنا لها. في حين لا يجرؤ مقدم برامج أن يقدم أحد المشككين بالضد من هؤلاء فيتعرض ربما مجمل البرنامج للأغلاق.

في صعيد متصل نذكر أن احدى القنوات الاذاعية العراقية استضافت أحد أعضاء العلوم الحقيقية ليشكك بأحد أبرز موضوعات الخرافات الشائعة وهو تفسير الأحلام. كان المذيع يشعر بالاحراج وانتهى الأمر بعدم استضافة أي فرد من العلوم الحقيقية بعدما ابدى المقدم استعداده في البداية لاستضافة مواضيع مشابهة بشكل مستمر. كما لم تكن التجربة جيدة في عرض التشكيك بموضوع الابراج في حوار تلفزيوني لم يدم أكثر من 10 دقائق وكانت مقدمة البرنامج فيه تعتقد بالابراج ولم تكن تفهم أن الموضوع سيجري بالضد من الأبراج.

ما يزيد عن الـ 20 قناة فضائية مخصصة للتجهيل بهذا الاتجاه.. ليس هناك أمر قاتم أكثر من هذا.

المصادر والهوامش

[1]  أحد أشهر المروجين للإعجاز العلمي في العالم العربي.

[2]  دجال عراقي يدعي امتلاك قدرات سحرية لمعرفة الغيب وتوقع الأحداث وشفاء الأمراض وحل المشكلات العاطفية وإبطال مفعول السحر.

[3] Sparks, Glenn G., Marianne Pellechia, and Chris Irvine. “Does television news about UFOs affect viewers’ UFO beliefs? An experimental investigation.” Communication Quarterly 46.3 (1998): 284-294.

[4] Potts, Richard, and Isaac Martinez. “Television viewing and children’s beliefs about scientists.” Journal of Applied Developmental Psychology 15.2 (1994): 287-300.

[5]  اليوم السابع، ” جهاز الإحصاء: 29.7% نسبة الأمية بمصر و27.1% فى الدول العربية“، 07 سبتمبر 2016

[6]  السومرية، “التخطيط: نسبة الأمية في العراق بلغت 18% أكثرها من الإناث“، 8 أيلول 2015

[7]  مشاري رجل دين وقارئ قرآن كويتي يمتلك قناة فضائية مخصصة بتلاواته للقرآن والأدعية والأناشيد والرقية.

[8]  قناة الحرة، “موريتانيا: نسبة الأمية بلغت نحو 40% من السكان في بلد المليون شاعر“، 08 سبتمبر، 2016