ماذا لو كنت في جولة مشيك المعتادة فصادفت أحدهم وكان قصير القامة والأطراف، ذا وجه بارز إلى الأمام يفتقر إلى الذقن بجمجمة واسعة و جبهة ضيقة و أنف عريض؟ ماذا لو لم يكن يحمل هراوته الحجرية ويرتدي قطعة قماش على الخاصرة؟ بل كان يجلس على ذلك المقعد في طريقك مطرقا سمعه إلى سماعاته اللاسلكية الموصولة بجهازه المحمول، مرتديا تيشيرتا أصفرا بعلامة التمساح على الطرف الأيمن من صدره وبنطاله الجينز!!

أكنت تعتقد أنك أمام وحش فرانكشتاين أم مسخ كافكا؟

ماذا لو كان هو بعينه سلفنا المنقرض منذ 30 ألف سنة!! لا ترهق نفسك في التفكير، سنناقش الأمر لاحقا.

رحلة البعث

كما نعلم لقد بدأت تجارب الاستنساخ للأنواع الحيوانية منذ زمن حيث تم استنساخ أول حيوان ثديي عام 1996 بولادة النعجة دوللي ثم توالت التجارب حتى قاد العلماء فضولهم لإعادة أنواع منقرضة فبعد 4 أعوام استطاع العلماء استخدام الحمض النووي لآخر وعل في جبال البرانس بعد موته لإنتاج 439 بويضة تطور منها 57 إلى اجنة نجا منها 4 ولدت ميتة وواحدة توفيت بفشل رئوي بعد الولادة ببضع ساعات.

هذه التجارب وغيرها تبنتها مراكز بحثية ومختبرات عدة، بدأت أولى المحاولات في 2005 ضمن المشروع التعاوني الذي ضم معهد 454 الاميركي ومعهد ماكس بلانك الألماني لإعادة تسلسل جينوم إنسان النياندرتال من حمض نووي يعود لامرأة نياندرتال وجدت في كهف في كرواتيا توفيت منذ ثلاثين ألف عام،

وبدأت الصعوبات تتضح عندما بدأ العمل على جينوم الإنسان البدائي، فالقدرة على قراءة مئات الآلاف من تسلسلات الحمض النووي في الوقت نفسه بدت وكأنها خيال علمي، لذلك توجه معهد ماكس بلانك لشركة 454 بدلا عن شركة Illumina في سان دييغو المتخصصة في تسلسل جينوم الإنسان البدائي، ذلك لان شركة 454 تقدم تقنية تسلسل الجينوم بمعدل يضاهي قوة معالجة كمبيوتر. لكن ماذا لو كانت الإشكالية في الحمض النووي القديم نفسه.

بحسب ما يعرف بعملية موت الخلايا المبرمج تطلق الخلية المحتضرة انزيمات تعمل على تفكيك الحمض النووي مما يتسبب في قراءة الجينات بشكل غير صحيح، مما يخلق لدى المختصين اشكالية اخرى، لذلك ووفقا لستيفان شوستر – عالم الوراثة في جامعة ولاية بنسلفانيا – فإنه:” من المحتمل جدا ان تحتوي المسودة الأولى لجينوم الإنسان البدائي على العديد من الأخطاء”.

لذلك وتفاديا لهذه الإشكالية اقترح – أستاذ علم الوراثة في كلية الطب في جامعة هارفرد – جروج تشيرش إجراء التعديلات على الحمض النووي للخلية البشرية، بحيث قام فريق بحثي بتطوير تقنية لإجراء مئات التعديلات على الجينوم بنفس الوقت بما يعرف بهندسة الجينات المعدلة المتعددة (mage)، وبحسب تشيرش فإنه يلزم ما يقارب ال10 ملايين تعديل على الجينوم البشري ليطابق جينوم الانسان البدائي.

استمرت هذه المحاولات في العمل على جينوم الإنسان البدائي ليتوصل العلماء الى استنتاج انه من الممكن استنساخ الإنسان البدائي من زراعة الحمض النووي في خلية تتم زراعتها داخل الإنسان للحصول على نياندرتال مطور.

هل يستحق؟

يقول جون هوكس عالم الأنثروبولوجيا من جامعة ويسكونسن ماديسون: “لو قلت لي قبل عشر سنوات إننا سنتعلم شيئًا عن إنسان نياندرتال وسيؤثر ذلك على صحة البشر الذين يعيشون الآن، لما كنت أصدق ذلك”.

لكن بعد ثورة اصدار العلماء المسودة الأولى لجينوم ابن عمنا القديم، بدأت تنعقد الآمال عن تأويلات لعلاقة أسلافنا بنوعنا البشري: هل تزاوجنا؟ هل نحن فعلا أنواع منفصلة؟

بدأ العلماء في البحث عن الفوائد التي من الممكن ان نجنيها إن أعدنا خلق إنسان نياندرتال كامل او اقتصرت الأبحاث على اعادة بناء خلاياه مما سيسمح لهم بإجراء مقارنات خلوية قد تساعدنا في بناء رؤى جديدة حول الأمراض الجديدة، قد يساعد في فهم أفضل للتاريخ التطوري المتباين للنوعين.

وفي دراسة أجريت عام 2011وجدت أن البشر المعاصرين يحملون متغيرات جينية في انظمتهم المناعية لم تكن لدى الإنسان البدائي مما سيؤدي لمعرفة المزيد من العواقب البيولوجية لهذه الاختلافات الجينية.

ومجددا يسلط العالم هوكس الضوء على أمل آخر بقوله: “نحن ننظر إلى مجموعة سكانية قديمة كانت تتمتع بعظام سميكة وكثيفة وعضلات قوية”، فإذا تمكنا من ايجاد طريقة تعدل في طبيعتنا البشرية بحيث تقترب من إنسان النياندرتال قد يساعدنا هذا في القضاء على العديد من الأمراض مثل هشاشة العظام وغيرها.

وبالاعتماد على هذا الشبه الكبير بين الانسان الحالي والنياندرتال هل سنستعيض به في الدراسات البيولوجية عن القوارض والذباب؟

” من أنا؟”

ظهرت أولى مخاوف العلماء من وجود إنسان نياندرتال مستنسخ في عصرنا الحالي حول قدرته على التأقلم في ظل ظروف بيئية مختلفة عما كانت عليه في السابق، فوجوده ضمن مدن بتعداد سكاني يتجاوز الملايين في حين كانت كبرى تجمعاتهم لا تتجاوز ال 10000 انسان. ولو تغاضينا عن فكرة تأقلمه اجتماعيا وفكريا فهل سيلائم نظامنا الغذائي تركيبته المناعية؟

ثمة قضية أشد عمقا في وضع هذا النياندرتال من القانون الدولي، ففي سابقة قانونية حاول استاذ الاحياء في كلية الطب في نيويورك، ستيوارت نيومان تسجيل براءة اختراع لجينوم هجين (شمبانزي بشري) كوسيلة لمنع أي شخص من خلق مثل هذا المخلوق. ومع ذلك، رفض مكتب براءات الاختراع طلبه على أساس أنه ينتهك التعديل الثالث عشر للدستور الذي يحظر العبودية. وتعتقد _الاستاذة في كلية القانون في جامعة شيكاغو_كينت _ لوري أندروز أن حكم مكتب براءات الاختراع يظهر أن القانون يعترف بأن الفرد الذي لديه نصف شمبانزي ونصف جينوم بشري يستحق حقوق الإنسان.  لذا سيكون لدى إنسان نياندرتال جينوم يمكن تمييزه بشريًا أكثر من هجين نيومان. “إذا كنا سنمنح إنسان نياندرتال حقوق الإنسان… ماذا سيحدث لذلك الفرد؟” تقول أندروز. “من الواضح أنه لن يكون له حريات تقليدية. ستتم دراسته وسيتم تجربته. ومع ذلك، إذا تم منحه الحماية القانونية، فسيكون له الحق في ألا يكون موضوعًا للبحث، لذا الأسباب التي من أجلها ستنشئه ستكون انتهاكا للحقوق”.

ختاما، قد تكون دوافعنا لخلق إنسان نياندرتال اقل من فضولنا نحو التواصل مع أسلافنا لكننا و كما قال العالم المستقبلي في رواية الأصل ادموند كيرش :” في طريقنا الى غد غامض سنحول انفسنا الى شيء اعظم مما يمكننا ان نتخيل الآن بقوى تتجاوز اغرب احلامنا لكن في أثناء ذلك أتمنى ألا ننسى حكمة تشرتشل الذي حذرنا قائلا : ثمن العظمة… المسؤولية”.

المراجع:

  1. Robert Lamb, Can we bring Neanderthals back? HowStuffWorks,
  2. VIRGINIA HUGHES, Return of the Neanderthals, National Geographic, 6 March 2016
  3. Zach Zorich, Should We Clone Neanderthals?, Volume 63 Number 2, archaeology.org, March/April 2010
  4. Rex Dalton, Ancient DNA set to rewrite human history, Published online 12 May 2010 | Nature 465, 148-149 (2010) | doi:10.1038/465148a