هذا المقال هو استكمال للمقال المنشور سابقاً (الكلام مع النفس: مرض نفسي؟)

يبدو بديهيا أن الكلام وسيلة للتواصل مع الغير وأن التفكير الصامت يكفي للتواصل مع الذات دون الحاجة للتحدث بصوت عالٍ حين لا يكون حولك أحد. لكن من قال أن البديهة وحدها تغني عن البحث والتفسيرات العلمية؟

ظاهرة الكلام مع النفس شائعة جدا ولا يكاد يخلو أحدنا من شكل أو آخر من أشكالها المتعددة وهي قد تبدأ بشكل مبكر جداً من العام الثاني من عمر الطفل. الجيد في هذا الأمر أنه طبيعي تماما ولا علاقة له بوجود علة أو اضطراب نفسي لدى المريض. فسواء أكنت تخاطب نفسك بصوت مسموع أو غير مسموع، تأمر نفسك أو تنهاها، ترتب حياتك اليومية، تكافئ ذاتك، تتفكر عميقا حول مسألة شائكة، تتصور ردود فعل أشخاص تعرفهم… كل هذه الأشكال من الحديث مع النفس طبيعية وجزء من حياة كل فرد منا. طبعا يستثنى من كل هذا الكلام مع النفس حين يكون المخاطَب شخصا آخر ماثلا أمامك لا يراه أحد سواك يسمعك ويرد عليك، فهذا هو تعريف الهلوسة.

حدد الباحثون أنواعا مختلفة من الكلام مع النفس، كالكلام الصامت silent self-talk والكلام بصوت مسموع loud self-talk ودرسوه في شتى مجالات علم النفس محاولين فهم آلياته وأسبابه وتأثيره على الصحة النفسية. برغم قلة تلك الدراسات إلا أن لديها شيئا لتعلمنا إياه. وإن كنت تتساءل عن أهمية كلامك مع نفسك الذي قد يحرجك أحيانا أمام الناس فإنه يساعدك على تنظيم بعض المهمات المعرفية والتكيف مع الظروف الصعبة ومتابعة تطورك اللغوي وتقدير مواقف الآخرين في حال كنت تتكلم نيابة عنهم والسيطرة على الغضب والاندفاعية.

أظهرت بعض الدراسات الحديثة أن استعمال ضمير الغائب في الكلام مع النفس قد يكون مرتبطا بوعي أعلى بالذات ويمكن أن يساعد على تجاوز الأوقات القلقة حيث ارتبط هذا الشكل من أشكال الكلام مع النفس بالنظر إلى المصاعب المستقبلية كتحديات لا كتهديدات في عينات تلك الدراسات. لكن يبقى الكلام مع النفس ظاهرة غامضة لم تخضع للتحقيق البحثي الكافي لاكتشاف أسبابها.

في ظل غياب الأسباب الواضحة لظاهرة الكلام مع النفس، اقترح بعض الباحثين عدة نظريات لفهم الظاهرة والعوامل المصاحبة لها، نذكر لكم منها على سبيل المثال أن العزلة والتجارب السيئة والقلق (خاصة القلق الاجتماعي) ومشاكل الرفض من قِبل صديق أو حبيبة هي من أكثر العوامل المؤثرة في وتيرة الكلام مع النفس فقد وُجد الأشخاص الذين تعرضوا لمثل هذه المتغيرات أكثر عرضة لزيادة حاجتهم للكلام مع النفس. إذن، ما دمنا نحتاج إلى الكلام مع أنفسنا حين نكون مجروحين ومتعبين ووحيدين فهذا قد يشير إلى أهمية تكيفية يحملها هذا السلوك الطبيعي.

إجابة على بعض أسئلة القراء في المقال السابق:

  1. الكلام مع النفس يجعل المتكلم أذكى فهل يمكن علاج محدودي الذكاء بهذا السلوك؟

الذكاء هنا ليس مرادف العبقرية أو نتيجة IQ عالية بل يمثل القدرة على التطور والتكيف مع المتغيرات وهذا شكل من أشكال الذكاء.

  1. الفرق بين الصحة والمرض النفس هو إدراك الواقع والكلام حيث لا يوجد أحد هو عدم إدراك للواقع (هلاوس سمعية وبصرية).

إذن فالاكتئاب والقلق والوسواس القهري وغيرها من الأمراض التي يكون فيها إدراك الواقع سليما يمكن اعتبارها حالات طبيعية؟ أعتقد أن السائل يحاول تعريف الذهان الذي هو انفصل عن الواقع من حيث الإحساس بما لا يوجد كرؤية أشياء لا يراها أحد سواك أو سماع أصوات لا تسمعها إلا أنت. هذا مختلف تماما عن موضوع الحديث فالمتكلم مع نفسه يدرك جيدا أنه يقوم بهذا السلوك وهو واعٍ بأنه يخاطب نفسه ويوجه الكلام إلى ذاته لا إلى أشخاص غير موجودين.

أخيرا، وجدت بعض التعليقات مثيرة فهي تؤكد ما وجدته الدراسات السابقة من شيوع هذه الظاهرة (أرسل أحد المعلقين رابطا لمجموعة تضم الأشخاص الذين يتشاركون سلوك الكلام مع النفس). مرة أخرى، استمتعوا بالكلام مع أنفسكم.

المصادر:

Oleś, Piotr K., et al. “Types of Inner Dialogues and Functions of Self-Talk: Comparisons and Implications.” Frontiers in Psychology 11 (2020): 227.

Geurts, Bart. “Making sense of self talk.” Review of philosophy and psychology 9.2 (2018): 271-285.

Brinthaupt, Thomas M. “Individual differences in self-talk frequency: social isolation and cognitive disruption.” Frontiers in Psychology 10 (2019): 1088.

Zell, Ethan, Amy Beth Warriner, and Dolores Albarracín. “Splitting of the mind: When the you I talk to is me and needs commands.” Social psychological and personality science 3.5 (2012): 549-555.