“تهتم هذه النظرية وهي إحدى النظريات الجدلية للتطبع البشري بنكاح المحارم، وتترك هذه الفترة الحرجة في تطور ما يعرف بالتوجه الجنسي شابا سنجذب إلى أفراد من الجنس المغاير (ما لن يوجه للميول إلى أفراد من الجنس نفسه)، ومن المحتمل أنها تحدد “نوع الشريك” بطريقة أكثر تحديدا، ولكن هل هي تحدد ذلك من ينجذب بكل ايجابي إلى التودد إلى الجنس المغاير؟

يمنع القانون زواج الأخ بأخته  لسبب وجيه، حيث إن زواج الأقارب يسبب أمراضاً جينية مروعة وذلك يرجع إلى أن هذا الزواج يتسبب في إظهار جينات متنحية نادرة معا، ولكن هب أن دولة ما من الدول قامت بإلغاء هذا القانون ونادت الآن بشرعية زواج الأخ بالأخت، وأصبح هذا الأمر مقبولا، فماذا سيحدث؟ لا شيء، فعلى الرغم من كونهما أفضل صديقين والأكثر نجاحا والأكثر اندماجا وتوافقا فان اغلب النساء لا يملن جنسيا إلى إخوتهم “بهذه الطريقة”، ففي عام 1891 كان هنالك رائد فلندي في علم الاجتماع يدعى ادوارد ويسترمارك نشر كتابا له تحت اسم (تاريخ الزواج البشري)، واقترح فيه أن المخلوقات البشرية تتجنب زواج المحارم بالفطرة أكثر من الامتثال للقوانين المعمول بها، فالبشر بطبيعتهم ينفرون من الجنس القريب الشبه فيما بينهم، وبمهارة شديدة أدرك أن ذلك لا يتطلب من الناس أن يكون لديهم مقدرة فطرية لمعرفة أخواتهم وإخوتهم الحقيقيين، ويتطلب هذا طريقة وافيه بالغرض إجمالا وان كان ينقصهم الدقة في معرفة أولئك الأشخاص الذين يعرفهم شخص ما جيدا وهم أطفال فالراجح هم أقرباء، وتوقع هذا العالم أن الأشخاص الذين عاشوا معا في طفولتهم ينفرون بالفطرة من بعضهم البعض حينما يبلغون.

وفي غضون عشرين عاما لم تكن فكرة ويسترمارك إلا امرأ منسيا، حيث نقد فرويد نظريته وقدم اقتراحا بديلا بأن الكائنات البشرية تميل إلى زواج المحارم غير انه محظور عليها أن تمارسه بسبب يرجع إلى المحظورات الثقافية السائدة في المجتمعات، فأوديب بدون رغبته في علاقة محرمة مع أمه يشبه هاملت بدون جنون، ولكن أذا ما نفر الناس من زواج بالمحارم، فلن يكون لديهم رغبة في تلك العلاقات، ولو أن شخصاً  ما لديه الرغبة في فعل المحرمات، فان ذلك يعني أنه يجب أن يكون لديه رغبات، ودون جدوى اعترض ويسترمارك بان نظريات التعليم الاجتماعي تقتضي أن يكون المنزل منعزل عن حدوث زواج المحارم بفضل القانون والعادات والتقاليد والتعليم ولكن قد تمنع المحظورات الاجتماعية حدوث زواج بين الاقرباء من الدرجة الأولى ولا يمكنها منع الرغبة في حدوث مثل هذا الزواج، فالغريزة الجنسية يصعب تغييرها بواسطة محاذير قانونية.

توفى ويسترمارك في سنة 1939، وحينها بزغ نجم فرويد في سماء العلم، ومضت تحليلات ويسترمارك البيولوجية إلى الزوال، واستغرق الأمر أربعين سنة أخرى قبل أن ينظر شخص أخر لهذه الحقائق مرة أخرى، وكان هذا الشخص هو عالم الصينيات ارثر وولف الذي قام بتحليل السجلات الديموغرافية  شديدة الدقة التي احتفظ بها الاستعمار الياباني في تايوان في القرن التاسع عشر، ودون وولف في ملاحظاته أن الصينيين القدماء الذين ماتوا قد مارسوا صورتين من صور الزواج المرتب له، في إحدى هاتين الصورتين، يتقابل الزوج مع عروسه في يوم زفافهما، رغم أن هذا الارتباط يتم الترتيب له منذ سنوات سابقة، والشكل الآخر، يتم تبني العروس بواسطة عائلة الزوج منذ طفولتها وتقوم حماتها على تربيتها، وفطن وولف إلى أن هذا كان بمثابة الاختبار المثالي للافتراضية التي قدمها ويسترمارك، فيمكن بذلك أن تجرب زوجات الابن الصغير (الكنات)، توقع زواج الوهمي بإخوتهن، ولو أدت الطفولة المشتركة بينهم إلى نفور جنسي كما زعم ويسترمارك، فإن هذه الزيجات لن تكون ناجحة.
جمع وولف معلومات عن 14000 امرأة صينية وقام بمقارنة النوع الذي يتقابل فيه الزوج مع عروسته يوم الزفاف مع أولئك الذي يتم زواجهم من خلال تبني عائلة الزوج للعروس حيث تربى الكنة مع حماتها، وكانت نسبة الزواج الذي يتم بين رفقاء الطفولة والتي تنتهي بالطلاق 2.65 مرة مقارنة بالزواج المرتب له والذي يتم مع شريك غير مألوف للأخر، فالأشخاص الذين يعرفون بعضهم البعض فيما يتعلق بشؤونهم الحياتية لم تستمر حياتهم الزوجية أمدا طويلا مقارنة مع بالأزواج الذين لم يألفوا بعضهم أو يتقابلوا قبل زواجهم، فالزيجات التي تقوم على تربية زوجة الابن في صغرها كان نتاجها من الأطفال اقل ونتاجها من الخيانات الزوجية أكثر، وتوصل وولف إلى قاعدة أكثر وضوحا بان عملية التبني تؤدي إلى مستوى متدن من الصحة إلى العقم على سبيل المثال، وبعيدا عن فكرة تربية الزوجين معا، فالعادة التي كانت متبعة في تربيتهما المشتركة فيما يبدوا كانت تعوق تطور الميل الجنسي ولم تكن هذه المعلومات سوى الحقيقة الوحيدة عن الزيجات التي تقوم على تربية زوجة الابن في صغرها وهي في الثالثة من عمرها أو اصغر من ذلك، بينما الذين جرى تبنيهم في سن الرابعة أو أكثر كانت زيجاتهم ناجحة كما هو الحال مع من يتقابلون وهم بالغون.
اجري العديد من الدراسات في ذلك الحين التي أكدت الظاهرة نفسها، فنادرا ما يتزوج الإسرائيليون الذين تربوا في المزارع الجماعية اليهودية من بعضهم البعض، أما المغاربة الذين ناموا في الغرفة نفسها وهم صغار فكانوا لا يقبلون على الزواج المرتب له، وكان هذا النفور أشد ما يكون من جانب النساء أكثر منه من جانب الرجال، حتى أن الروايات الأدبية كانت تذكر حالات النفور كثيرا، فشخص فيكتور فرانكنشتاين في الرواية التي كتبتها المؤلفة البريطانية ماري شيلي، وجد انه ينتظر منه أن يتزوج من ابنة عمه في المستقبل، وقد تربى وكبر معها منذ صغرها ولكن (من الناحية الرمزية في الرواية) تدخل وحشه ليقتل العروس المرتقبة قبل أن تتم هذه الزيجة.

كان اعتبار زواج المحارم من المحرمات حقيقية واقعة ولكن كان انتشاره قليلا جدا بين أقارب الدرجة الأولى، الآن انه شاع بين أبناء العم، ومن الحقيقة بمكان انه كان هنالك أشخاص مغرمون بزواج المحارم، ولعب هذا الزواج بالمحارم دورا كبيرا في روايات العصور الوسطى مثل أساطير الفضيحة الفيكتورية وأساطير مجتمعات الحضر الحديثة، الآن أن الأشياء التي كانت تفزع الناس هي نفسها التي كانت مثار إعجابهم ودهشتهم، فالثعابين على قدر ما تثير دهشة الأشخاص، إلا أنها تثير فزعهم، ومن الحقيقة بمكان أن الأشقاء من الذكور والإناث الذين تفرقوا بعد ولادتهم، ثم تقابلوا وهم بالغون تجد أنهم يميلون إلى بعضهم البعض ميلا شديدا، وكان هذا يؤيد ما جاء به تأثير ويسترمارك.

من الواضح أن تأثير ويسترمارك ليس عاما، وبالفعل توجد هذه الاستثناءات على المستويين الثقافي والفردي، وكثير من العرائس اللائي تزوجن بطريقة تبني زوجة الابن الصغيرة كن قادرات على التغلب على نفورهن الجنسي، وكانت زيجاتهن ناجحة؛ فذلك النظام وضع فطرة النفور من زواج المحارم في مواجهة غريزة أقوى وهي فطرة التكاثر، كما أن هنالك دليلاً قوياً على قلة حدوث زنى المحارم بين الأخ والأخت اللذين تربيا معاً، بينما تزداد النسبة بين الإخوة والأخوات الذين تفرقوا وهم صغار لمدة تزيد عن عام في طفولتهم المبكرة، بمعنى أخر قد لا يؤدي الارتباط في الطفولة إلى نفور من ميل لمثل هذه العلاقة.

ويبدو أن النفور من زواج المحارم لدى من تربوا في العائلة نفسها مثله مثل اللغة هو حالة واضحة لعادة تنطبع في العقل أثناء الفترة الحرجة للشباب، فيما يعني أن ذلك ليس إلا تطبعاً نقياً، فالعقل ليس لديه تخيلات مسبقة عمن سينفر منه ممن كان رفيقا له في طفولته، ولكن ذلك هو الطبع في صورة تطور محتوم من خلال برنامج جيني في عمره المحدد، فرسالة المؤلف هي انك تحتاج إلى طبع حتى تكون قادرا على استيعاب التطبع.”

 

المصدر: كتاب (الطبع عبر التطبع – مات ريدلى)