«إن العلم أكثر من مجرد مجموعة من المعارف. بل هو طريقة للتفكير، طريقة لاستجواب الكون بشكل مُتشكِك مع فهمٍ تام للضعف البشري. فإن لمْ نستطعْ أن نسأل أسئلة قائمة على الشك لاستجواب هؤلاء الذين يُخبروننا بأن شيئاً ما صحيحاً، وأن نُصبح شكوكين في هؤلاء الذين يملكون السلطة، فسنصبح لقمةً سائغةً.»
كارل ساغان
مقدمة
إنَّ المنهح العلمي ما هو إلا طريقة منهجية يتم من خلالها جمع المعلومات أثناء عملية طرح الأسئلة (التحقيق والاستفسار)، وينتج عنها بناء نظرية للطبيعة على أساس تجريبي والتحقق من صحتها بإثباتها. ولكي نفهم أكثر هذه الجملة، يتوجب علينا أن نُسافر عائدين إلى الوراء بالزمن لكي نرى كيف تطور هذا المنهج. نشأ المنهج العلمي الحديث في أوربا في القرن 17متضمناً:
1- سلسلة من الأبحاث بدايةً من كوبرنيكوس وانتهاءً بـ نيوتن والتي أدت إلى
2- النموذج الجذبي للنظام الشمسي
3- والفيزياء النيوتنية للتعبير عن هذا النموذج
لقد كان هناك العديد من الأسلاف الفكرية للعلم الحديث. فمثلاً، تعتبر الخيمياء (alchemy) سلفاً لعلم الكيمياء الحديث ولكنها ليست علماً. لقد كانت الخيمياء نوعاً من التخبط بين الممارسات العملية والفروض غير المعللة نظرياً. ففي العصور الوسطى لأوربا، كان ينظر إلى الماء، الهواء، النار، والتراب على أنها المواد الأساسية التي تشكل كل شيءٍ نراه والكون بشكل عام. بينما الآن في أوربا الحديثة، فالمواد الأساسية التي يتكون منها العالم هى الطاقة والكتلة، الذرات والجزئيات، المجالات والجسيمات.
مثال آخر، فإن علم الرياضيات الحديث يمتلك جذوراً تاريخية مهمة في الهندسة الإغريقية والمصرية القديمة، والجبر العربي. ولكن لم يتم دمج علمي الهندسة والجبر حتى عام 1619، عندما قام رينيه ديكارت بتأسيس الهندسة التحليلية. وبالمثل، فإن حساب التفاضل والتكامل لم يتم تأسيسه حتى عام 1693، وذلك عندما قام نيوتن بإضافة حساب تفاضل الكميات متناهية الصغر إلى الهندسة التحليلية. (وفي نفس الوقت وبشكل مستقل، ساهم ليبنتز في استحداث حساب التكامل.) ثم نما علم الرياضيات الحديث في القرن الثامن عشر، حيث قام علماء الرياضيات بالبناء على الأساس التحليلي الحديث للهندسة، الجبر، التفاضل والتكامل، المتجهات، ولاحقاً نظرية المجموعات.
إمتلكت الحضارات مفهوماً مغايراً تماماً للطبيعة بعد نشأة المنهج العلمي في القرن السابع عشر منه عن قبل نشأته. قبل نشأة المنهج العلمي، فقد اُعتبرت الطبيعة مظهر وتجلي للقوة الغيبية الغير ملحوظة، أي الرؤية الدينية للعالم. أما بعد نشأة المنهج العلمي، فالطبيعة الآن هى فقط ما يُمكن ملاحظته في العالم. في الوقت الحالي، يتم التفكير بشأن، وصف، وتفسير الطبيعة من خلال التجارب والنماذج النظرية والعلمية. نحن لم نعد نعيش في عالم من السحر والغيبيات. نحن نعيش في عالم حديث قائم على العلم والتكنولوجيا دون السحر.
لذا، فقبل التركيب العظيم لعلم الميكانيكا الذي قام به إسحاق نيوتن، لم يكن هناك علم، أو على الأقل لم يكن العلم كما نعرفه الآن. العلم الحديث يتألف من منهج ونماذج. قام نيوتن بتركيب المنهج العلمي وذلك عن طريق تصميم وبناء النظرية طبقاً للبيانات التجريبية. وقام أيضاً بإنشاء أول نموذج علمي وهو الآلية (النظرية الميكانيكية).
المنهج العلمي
يُمكن القول أن العلم الحديث بدأ بدمج واقتران أبحاث ستة أفراد وهم: كوبرنيكس، براهي، كيبلر، جاليليو، ديكارت، ونيوتن. ولكن لماذا هؤلاء الأشخاص على وجه الخصوص؟ وما المميز بشأن عملهم؟ لأول مرة في التاريخ، تتجمع الأفكار المكونة للمنهج العلمي معاً، مؤسسين نظرية على قاعدة تجريبية:
1- نموذج علمي قابل للإثبات عن طريق الملاحظة. (كوبرنيكوس)
2- ملاحظات دقيقة لإثبات النموذج. (براهي)
3- تحليل نظري للبيانات التجريبية. (كيبلر)
4- قوانين علمية ممتدة من التجارب. (جاليليو)
5- التعبير عن الأفكار النظرية باستخدام الرياضيات. (نيوتن وديكارت)
6- الاستخلاص النظري لنموذج تجريبي قابل للإثبات. (نيوتن)
نيكولاس كوبرنيكس
كان كوبرنيكس مثل ما يمكن أن ندعوهم الآن بالباحثين النظريين (المنظرين)، ولكنه رأى نفسه على أنه “فيلسوف طبيعي”. اقترح كوبرنيكس فكرة أن الكون يجب أن يتم إعادة نمذجته مع الشمس في مركز الكون بدلاً من الأرض. ولقد تحدى نموذج كوبرنيكس (مركزية الشمس) نموذج آخر أقدم وأكثر شعبية ألا وهو نموذج بطليموس.
احتوى نموذج بطليموس الإسكندري على الأرض في المنتصف وبقية الكواكب والشمس تدور حولها. ولكنه اشتمل على بعض الجوانب غير الملائمة مثل حركة كوكب الزهرة، ففي معظم الأوقات كان الزهرة يتحرك للأمام ولكنه أحياناً ما كان يتحرك للخلف. ولتفسير هذه الحركة، فقد وضع بطليموس الزهرة على دائرة صغير والتي بدورها على دائرة أكبر حول الأرض. لم يكن تفسير بطليموس أنيقاً. بل ولم يكن بسيطاً أو حتى مباشراً في تفسيره. احتج كوبرنيكس أنه إذا كانت جميع الكواكب على دوائر حول الشمس، فإن النموذج يُصبح أكثر أناقة بمعنى أبسط وخالٍ من التعقيد.
ولد نيكولاس كوبرنيكس (1473 – 1543) في مدينة تورن ببولندا. دخل أكاديمية كراكوف للدراسة عام 1491. بعد أربع سنوات، ذهب لاستكمال دراساته بإيطاليا في القانون والطب بجامعة بولونيا وجامعة بادوفا. كان خاله أسقفاً بالكنيسة الكاثولكية، وقد سانده وتوقع منه أن يصبح قسيساً. بينما وهو في إيطاليا، قابل فلكي يدعى دومينيكو ماريا نوفارا دو فيرارا وأصبح مساعده لبعض الوقت الذي أتاح له أن يقوم بأولى ملاحظاته الفلكية. أنهى كوبرنيكس دراساته بجامعة بادوفا وحصل على دكتوراة في القانون الكنسي عام 1503. قبل وفاته عام 1543، نشر كوبرنيكس كتابه في دورات الكواكب السماوية.
لقد حفز عمل كوبرنيكس عالم الفلك الدنماركي تايكو براهي. أراد براهي أن يُثبت أي النموذجين هو الصحيح وذلك من خلال الملاحظة الفلكية المباشرة. يُمكننا أن ندعو براهي بالعالم التجريبي (على عكس كوبرنيكس). إن أهمية ما طرحه براهي لكوبرنيكس تكمن في استخدامه للملاحظات التجريبية لوضع النموذج النظري على أساس تجريبي.
مكنت قياسات براهي الدقيقة من إحراز تقدم معرفي باهر في علم الفلك. فهذه الدقة في القياس هى التي أمدتنا بقياسات دقيقة كفاية لتحديد أي النموذجين هو الصحيح: سواء نموذج كوبرنيكس أو نموذج بطليموس. من منظور تاريخي، يُمكننا النظر إلى براهي على أنه عالم تجريبي عظيم فقد أدرك أن الدقة في القياسات كانت هى المفتاح لتحديد أي النموذجين هو الصحيح في الواقع. وهذا الفهم للعالم التجريبي للأهمية وحساسية البيانات التجريبية في بناء النظرية أو إثباتها هو علامة مميزة للعالم التجريبي العظيم.
ولد تايكو براهي (1546 -1601) بالدنمارك. كان والده من النبلاء، وقد رباه خاله. في عام 1559، ذهب لجامعة كوبنهاجن لدراسة القانون، ولكنه حول انتباهه إلى الفلك بعد أن تم توقع كسوف عام 1560. وعلى مدار حياته، بنى براهي العديد من المختبرات والآت القياس والتي تميزت بكونها أكثر دقة من سابقيها.
الوصف: الأجسام في المدرارت الزرقاء (الشمس والقمر) تدور حول الأرض. بينما الأجسام في المدرات البرتقالي (الزهرة، المشتري، المريخ، عطارد، وزحل) تدور حول الشمس. وحول النظام الشمس بأكمله كرة من النجوم الثابتة.
وسوف نناقش في الجزء القادم إسهامات كيبلر، جاليليو، وديكارت للمنهج العلمي.
المرجع
Betz, F. (2011). Managing Science Methodology and Organization of Research. New York, NY: Springer New York.