تمهيد:
كنا منذ البدء متجولين. عرفنا موقع كل شجرة في مدى مائة ميل. وكنا هناك، حين كانت تنضج الفاكهة أو الجوز. تتبعنا قطعان الحيوانات أثناء هجرتها السنوية. واستمتعنا بلحمها الطازج. وبأسلوب التسلل خلسة، واستخدام سبل الخداع، والهجوم من المكامن، والانقضاض، كان عدد قليل منا يحقق، بتعاونه المشترك، ما كان الكثيرون لا يقدرون على إنجازه.
وفي فترات الجفاف الطويلة، أو عند سريان نفحة برد متقلبة في هواء صيف، كانت جماعتنا تبدأ بالانتقال – وأحياناً إلى أرض مجهولة. كنا نبحث عن مكان أفضل. وعندما يتعذر علينا التآلف مع باقي أفراد جماعتنا الصغيرة الهائمة، كنا نتركها بحثاً عن جماعة أخرى، أكثر وداً وصداقة، في بقعة أخرى، استطعنا دائماً أن نبدأ من جديد.
ومنذ أن وُجد نوعنا، كنا، في 99.99% من الوقت صيادين هائمين بحثاً عن الطعام، متجولين بين مروج السافانا والاستبس. وفي ظني أن الإغراء صيغ بدقة خلال الإنتخاب الطبيعي، كعنصر جوهري في بقائنا، فالأصياف الطويلة، والشتاءات المعتدلة، والحصاد الغني، والصيد الوفير، لا يدوم أي منها للأبد. إن التنبؤ بالمستقبل يفوق قدراتنا. وللأحداث الكارثية أسلوبها في التسلل إلينا خفية وإصابتنا في غفلة منا. إن حياتك أو حياة جماعتك أو حتى حياة نوعك قد تكون مدينة لزمرة محدودة العدد مفعمة بالقلق- يحركها توق شديد، يصعب علينا تبيانه أو إدراكه نحو الأراضي غير المكتشفة والعوالم الجديدة (المقدمة أعلاه من كتاب نقطة صغيرة زرقاء لكارل ساغان).
هومو هابيليس (Homo habilis)
إن الهومو هابيليس يعد أحد أقدم الأنواع التي عُثر عليها مما ينتمي للجنس “هومو”، حيث وجد هذا النوع باكراً منذ (1.44 – 2.4) مليون سنة. وقد عثرت على أولى حفريات هذا النوع عام 1961 بواسطة لويز و ماري ليكي (Louis & Mary Leaky) بأولدوفاي (olduvai) بشمال تنزانيا. وقد عثر معها – الحفرية – على أدوات بدائية حجرية، أُطلق عليها أدوات أولدوان (oldowan tools)، وبالتالي فقد ظن العلماء في أول الأمر أن الهابيليس هم أول من قاموا بصناعة الأدوات الحجرية، ومن هنا جاءت التسمية والتي تعني الإنسان الماهر.
يعتقد أن أحد الأسباب التي دفعت إلى ظهور الجنس الهومو، أنه من حوالي 2.5 مليون سنة، خضعت أفريقيا لتغير مناخي عنيف، أدى بدوره إلى تغير البيئة من مغلقة، رطبة، ومطيرة إلى بيئة مفتوحة وقاحلة. وبالتالي فقد حدث تغير جذري بموارد الطعام المتاحة، مما دفع بالجنس هومو وبارانثروبس بالظهور.
الظهور
عاشوا بجنوب وشرق أفريقيا حيث وجدت حفريات لهذا النوع بتنزانيا، إثيوبيا، كينيا، وجنوب أفريقيا.
الطول: متوسط الفرد 100 – 135 سم
الحجم: متوسط الفرد 32 كجم
العمر: المتوسط 30 – 40 عام
الشكل
امتلك هومو هابيليس مخاً أكبر، حيث يقدر متوسط سعة الجمجمة 680 سم3، ووجه وأسنان أصغر عن الأسترالوبيثكس. وقد امتلك أيضاً جبهة (جبين) عمودية أكثر، وعظام فك أصغر ولديه بروز اقل عن أسلافه. ومما لاشك فيه أنه سار على قدمين، مع إبهام القدم موازياً لباقي الأصابع، غير مفصول عنها، مثلما في الغوريلا. ولكنه احتفظ ببعض مظاهر القردة، مثل الأذرع الطويلة، وفك بارز إلى حد ما.
ومن المثير للدهشة، أننا نلاحظ بالفعل تطور منطقة بروكا (Broca’s area) عند الهابيليس، مما يجعلنا نعتقد، أنه قد استخدم لغة ما للتواصل والتعبير.
ولأن هذا النوع يمتلك مخاً أكبر، وأسناناً أصغر من الأسترالوبيثكس، فإن بعض العلماء يعتبرونه أول صانع للأدوات الحجرية البدائية. حيث تميزت هذه الأدوات بالبساطة، وامتلكت حواف حادة وقاطعة، وبالتالي فإنها يمكن أن تستخدم لأغراض عديدة. إلا أنه نظراً لأن هناك أنواعاً أخرى عاصرته مثل البارانثروبس بويزي (P. boisei)، هومو رودولفنسيس (H. rudolfensis)، وأيضاً الهومو اريكتوس (H. erectus)، فإنه يصعب على العلماء تحديد من هو المصنع الحقيقي لتلك الأدوات. علاوة على ذلك، فكما أشرنا في المقال السابق، أنه عثر مع حفريات تعود إلى الأسترالوبيثكس أفارنسيس، عظام تحمل علامات قطع بالحجر، كما أن هناك حفريات تعود إلى الأسترالوبيثكس جارهي، وجدت بجانبها أدوات حجرية هي الأخرى.
علاقته بالأنواع الأخرى
لقد اعتبر العلماء في البداية بأن الهومو هابيليس، هو سلف مباشر للإنسان الحديث، ولكن الاكتشافات الحفرية في منتصف الثمانينات، أشارت إلى امتلاكه أطراف قريبة الشبه من القردة. مما أدى إلى إعادة تقييم علاقته التطورية بالإنسان بالحديث، حيث لا يعتبره العديد من العلماء الآن، أحد الأسلاف المباشرة للإنسان. ولكن مع اكتشاف الهومو جورجيكس (H. georgicus)، بجمهورية جورجيا في عام 2001، حيث يظهر أنه تمتع بملامح تجعله الحلقة الانتقالية بين الهابيليس والهومو إرغاستر(H. ergaster) والذي يعتقد أن تطور أو امتلك سلف مشترك مع الهومو اريكتوس (الإنسان المنتصب).
وأيضاً لا يمكن أن يكون الهومو هابيليس سلف الهومو اريكتوس، حيث تظهر الاكتشافات الحديثة أنهم تواجدوا في نفس الحقبة الزمنية لحوالي 500 ألف سنة.
الطعام: عاش الهومو هابيليس في بيئة عشبية، ومناخ أكثر بروداً وجفافاً، مما دفعه إلى استراتيجيات جديدة للحصول على الطعام، تتضمن استخدام الأدوات، وجمع بقايا الطعام من المفترسات. ويشير التحليل الكيميائي أنه هذا النوع كان نباتياً في المقام الأول، ولكن احتوى غذاؤه على لحم.
الحفريات الهامة المكتشفة لهذا النوع
تويجي (Twiggy)، OH 24: تعود هذه الجمجمة إلى 1.8 مليون سنة، تم اكتشافها عام 1968، بأولدفاي بتنزانيا على يد بيتر نزوب (Peter Nzube).
سيندي (Cindy)، OH 13: فك سفلي يعود إلى 1.7 مليون سنة، تم اكتشافه أيضاً بأولدفاي بتنزانيا.
جونيز تشايلد (Jonny’s child)، OH 7: هيكل جزئي يعود إلى 1.8 مليون سنة، تم اكتشافه عام 1960، بأولدفاي بتنزانيا، بواسطة جوناثان ليكي (Jonathan Leaky).
كي إن إم – إي آر 1813 .(KNM-ER 1813)
هومو رودولفنسيس (Homo rudolfensis)
الحفرية الوحيدة المميِزة لهذا النوع، تم اكتشافها بحوض بحيرة توركانا (Turkana lake) بكينيا. حيث يتميز هذا النوع عن الهابيليس بامتلاكه جمجمة أكبر حجماً، تصل سعتها 775 سم3. ولذا فقد اعتبره العلماء من الهومو هابيليس في بداية الأمر. ولكن نظراً لامتلاكه وجهٍ أطول، وأسنان وضروس أكبر، علاوة على كبر حجم جمجمته، دفع بعض العلماء إلى التساؤل، هل يصنف هذا النوع على أنه من الأسترالوبيثكس، بالرغم من امتلاكه مخ أكبر! ولقد تم تصنيفه كنوع جديد للجنس هومو عام 1986.
الظهور: عاش هذا النوع من (1.7 – 2.4) مليون سنة، مما يجعله معاصراً للأفراد الأولى من الهومو هابيليس. تم اكتشاف حفريته بمنطقة بحيرة توركانا (بحيرة رودولف سابقاً) ، بكينيا عام 1972، بواسطة برنارد نجينيو (Bernard Ngeneo).
حياة حافلة
في الواقع منذ اكتشاف حفرية رودولفنسيس، والعلماء على خلاف ما إن كانت من الهومو هابيليس، أم أنه نوع آخر مستقل. حيث كما قلنا سابقاً، فقد اعتبر في البداية، أنه أحد أفراد الهومو هابيليس. ولكن نظراً للفروقات الكبيرة بين جمجمة الهابيليس ورودولفنسيس، فقد تم اعتباره نوعاً مستقلا من الجنس هومو. ولقد رجح بعض الباحثين نظراً لتشابهه مع الحفرية المكتشفة حديثاً عام 1999، بواسطة ميف ليكي (Meave Leaky)، والتي سميت إنسان كينيا (كينيانثروبوس بلاتيوبس – kenyanthropus platyops)، أن يتم تصنيفه تحت هذا الجنس.
وفي أغسطس عام 2012، أعلن فريق تقوده ميف ليكي عن اكتشاف ثلاث حفريات إضافية بشمال كينيا، تعود للهومو رودولوفنسيس عبارة عن، عظام فك تحتوي على أسنان، ووجه. يعود عمرها إلى 2 مليون سنة مضت. وبالتالي، طبقاً لهذه الحفريات الجديدة، فإن ميف ليكي تؤكد وجود نوعين مبكرين من جنس هومو، قد عاصرا بعضيهما، وهما الهومو هابيليس، والهومو رودولفنسيس، إضافة إلى الهومو اريكتوس في أوائل العصر الجليدي (Pleistocene) بشرق أفريقيا. ومع ذلك، فليس جميع العلماء مقتنعين بذلك.
في عام 2007، قام عالم الأنثروبولوجي بجامعة نيويورك تيموثي بروماج (Timothy Bromage)، وفريقه بإعادة ترميم جمجمة الهومو رودولفنسيس. فقدت بدت الجمجمة بعد الترميم وكان لها فك بارز، وسعة جمجمة أقل، مماثلة للهابيليس.
وهناك تفسير آخر، يرجح أن الحفرية كي إن إم – إي آر 1813 (KNM-ER 1813)كانت أنثى، بينما كي إن إم – إي آر 1470 (KNM-ER 1470) كان ذكراً، ويرجع هذا لازدواج جنسي كبير[1] (sexual dimorphism) بين أفراد الهومو هابيليس.
الحفرية المكتشفة لهذا النوع
كي إن إم – إي آر 1470:(KNM-ER 1470) تعود هذه الجمجمة 1.7 مليون سنة مضت.
مقارنة بين جمجمتي الهابيليس والرودولفنسيس. الأولي هومو رودولفنسيس (1470(، بينما الثانية هابيليس (1813).
المصادر:
- الازدواج الجنسي: الحالة التي يُظهر فيها الجنسان (ذكر وأنثى) من نفس النوع، اختلافات واضحة ومميزة، بغض النظر عن الاختلاف في الأعضاء الجنسية. ومثال على ذلك الاختلاف في الحجم، واللون، وقد يمتد للاختلافات السلوكية.
كارل ساغان، “كوكب الأرض: نقطة زرقاء باهتة”، ترجمة شهرت العالم، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت.
Mccarthy, E., Homo habilis. April 15, 2016
Mccarthy, E., Homo rudolfensis. April 15, 2016
Dorey, F., Homo habilis, Australian Museum, October 30, 2015
Dorey, F., Homo rudolfensis, Australian Museum, December 3, 2009
Institute of Human Origins, Arizona University, Homo rudolfensis, Becoming Human, April 15, 2017
Institute of Human Origins, Arizona University, Homo habilis, Becoming Human, April 15, 2017
Smithsonian’s National Museum of Natural History, Homo rudolfensis, Human Origins, March 01, 2010
Smithsonian’s National Museum of Natural History, Homo habilis, Human Origins, March 01, 2010
Homo rudolfensis, Hominidés , April 15, 2017
Homo habilis, Hominidés , April 15, 2017