الطبيعانية في العصور الوسطى
تنتقل العديد من ملخصات تاريخ المذهب الطبيعي من أسلافها الإغريق الأوائل (مثل لوكراتيس) إلى شخصيات القرنين السادس والسابع عشر لعصر النهضة الأوروبي. وهؤلاء الرجال أمثال عالمي الفلك كوبرنيكوس وجاليليو، والفيلسوفيْن الطبيعيـيْن روبرت بويل وفرانسيس بيكون، مفكرين أمثال ديكارت، وطلائع المادية الحديثة مثل جاسندي وهوبز – والذين معاً طوروا الأسس الفكرية للمنهج العلمي الحديث والرؤية الطبيعانية للعالم. ومع ذلك، فإن هناك القليل من التطويرات التي حدثت بين الحقبة القديمة وعصر النهضة والتي ستهيئ بشكل حاسم الظروف الملائمة للطبيعانية الحديثة. فعلى سبيل المثال، فبينما كان الإغريق القدماء مهتمين بتطوير المعرفة النظرية الموثوقة، كانت الإمبراطورية الرومانية المتأخرة مهتمة بالمعرفة التطبيقية. وقد كان الرومان أيضاً مهندسين اجتماعيين بارزين، بالإضافة إلى كونهم إداريين أكفاء للرفاهية والمصلحة العامة. فالطرق، القنوات المائية، والعديد من العجائب التي لا تزال قائمة للهندسة المدنية للرومان، والتي انتشرت عبر الإمبراطورية وقامت بتشكيل البيئة الطبيعية بطريقة تجعلها تدعم ثقافة عالمية، مترامية الأطراف، مترابطة، ومثقفة وبذلك هيئتها لاستقبال المذهب التجريبي. ولقد رأت المدرستان الفلسفيتان المهيمنتان في روما (الرواقية والأبيقورية) بأن الواقع مُتحِد تحت نظام مفرد من الأحداث المترابطة سببياً، ولذلك فإنّ المجتمع المنظم قابل للتحقيق من خلال العيش بانسجام مع مبادئ الطبيعة، وذلك باستخدام المعرفة التجريبية للتنبؤ، التحكم، والازدهار.
على عكس الأشكال الحديثة للأخلاق الطبيعانية، فإن المدراس الفلسفية الرومانية اعتبرت الامتثال لمبادئها إلزام على النخبة الثقافية. وعلى النقيض، يجب أنْ يتم الحفاظ على نظام الطبقة غير المتعلمة باستخدام الخبز والسيرك، بالإضافة إلى دين يؤله الإمبراطور ويبرر الهرمية الاجتماعية بوصفها محمية بالقانون الروماني. وبشكل متناقض، فإن صعود المسيحية – المُناقِضة للطبيعانية – قد عمل في نهاية الأمر على دمقرطة وعلمنة السلطة، وذلك بشكل غير متعمد يخدم مصلحتها. ومما لا شك فيه أن الكنيسة المسيحية هيمنت على جميع مراكز التعلم في العصور الوسطى، مما جعل الدراسة الأكاديمية سكولاستية (الفلسفة المسيحية السائدة في العصور الوسطى)، لا تجريبية. وقد عملت الكنيسة بلا ملل أو كلل على تثبيط الفهم المادي والطبيعاني للعالم، وذلك منذ أنْ أغلق الإمبراطور جستينايان أكاديمية أثينا عام 529 ميلادياً نظراً لفلسفتها الوثنية، إلى إدانة جاليليو عام 1663 وذلك لدفاعه عن مركزية الشمس. ورغم ذلك، فقد أدت الحقبة المسيحية إلى ثلاث تطورات على الأقل واللاتي ساعدن على تمهيد الطريق للطبيعانية الحديثة:
فصل السطلة العلمانية عن الإكليريكية في الإدارات العامة في الممالك الإقطاعية الأوروبية، ثم لاحقاً في الدول القومية الأولى لأوربا الحديثة.
تشكيل مفهوم عن الحيادية القضائية والذي وضعه القديس توماس الأكويني، حيث تم تأسيسه على نظام القانون الطبيعي ينص على معايير ومبادئ تنطبق على جميع البشر وذلك بحكم مساوتهم أمام الله والغايات الموكلة إليهم باعتبارهم مخلوقاته.
تطوير لغات عامية لتعليم الإنجيل، والتي ساعدت في النهاية على تطوير مطبعة جوتنبرج، والتي سمحت بالتوزيع السريع والموثوق للمعلومات بشأن العالم الطبيعي.
وقد قاد كل واحدٍ من هذه التطويرات إلى فهم علماني أكبر للأخلاق ومصدر السلطة الفكرية، أكثر مما كان متاحاً في العالم القديم، ورغم ذلك فإن الخلفية الضمنية التي ما تزال مهيمنة هى أنّ الخير المطلق والسلطة المطلقة مصدرها الله.
مقدمة للمذهب الطبيعاني في عصر النهضة والتنوير
إن إنجازات إنسانيـي عصر النهضة، المشهورين لنا اليوم من خلال أدبهم، فنهم، وأعمالهم العلمية أمثال ليوناردو دافنشي، إيرازموس، كوبرنيكوس، جاليليو، مونتين، وشكسبير قد جُعلت ممكنة من خلال إعادة الاستثمار في قيمة اثنـتين من سمات الشخصية الإنسانية وهما: الفضول الدنيوي والقوة العقلانية والمنطقية للعقل المتعلم. في الوسط المسيحي التقليدي، فإن التعبير عن وإظهار هذه القيم قد اُعتبر بمثابة علامة إثم وذنب، وغطرسة تتحدى الله، وإعادة انبثاقهم في عصر النهضة لا يُمكن المبالغة في تقديرها كعامل في تطوير الفنون الإنسانية والعلوم: حيث استخدم جاليليو التليسكوب المصنوع حديثاً لإشباع رغبته في استكشاف السماء؛ وقام مايكل أنجلو بنحت تمثال دايفيد الهائل للاحتفال بالشكل الإنساني؛ وقد كتب مونتيـن مقالاته لأنه كان منهكاً من الدوغمائية الخرافية القائمة في المذاهب الطائفية بخصوص أساس السلطة الدينية والخلاص الأخروي، والذي قاد إلى العديد من الحروب الدينية السائدة في عصره. بقدر ما اُعتقد أن أعمال إنسانيـي النهضة تساهم في إعلاء مجد وعظمة الله، ولكن كان هذا التأثير ثانوياً، كنتيجـة وليس كسبب لقيمهم الجوهرية باعتبارها إبداعات بشرية. وبالمثل، فإن الفضول والمتعة في إشباع الرغبات الفكرية البشرية لا من أجل شيءٍ إلا لذاتها، قادت في النهاية إلى الثورة العلمية التي اجتاحت مراكز التعلم بأوربا في القرن السابع عشر، بالغةً ذروتها في عام 1687 بإصدار إسحاق نيوتن لمؤلفه: المبادئ. ولقد أصبح هذا العمل لنيوتن مثال ونموذج للعلم الثوري، مقدماً لأول مرة مجموعة من القوانين الرياضية البسيطة (مبادئ الجاذبية الكونية، الكتلة، والقصور الذاتي)، والتي وصفت حركة الأجسام المادية على الأرض وفي السماء، واللْذين اعتبرا سابقاً عالمين متميزيـن ومنفصلين سببيـْن.
وسوف نناقش في الجزء التالي علماء عصر النهضة والتنوير بمزيد من الإيضاح والتفصيل، وإسهامات كل منهم للرؤية الطبيعانية للعالم.
المصدر:
Prado, I., (2006, June). History of Naturalism. Naturalism.org. Retrieved from https://www.naturalism.org/worldview-naturalism/history-of-naturalism