في 15 ديسمبر 1984 افصحت صحيفة (Le journal de Montreal) الكندية عن خبر قتل طالبة الانثروبولجي ذات الـ 26 عاما لابنتها ذات الـ 27 يوما لعدم قدرتها على اسكات بكائها طوال الايام الـ 27. وبالرغم من الوقع المؤلم والمفجع للحادثة فهي تحمل دلالة علمية على قدرة البكاء بتحطيم الوالدين واحباطهم بشكل قد يجلب عواقب سيئة للطفل وتسمى حالة البكاء الطويلة هذه مغص الرضع او Baby colic.
مغص الرضع معروف أيضا باسم مغص الطفل أو مغص الثلاثة أشهر وهو صراخ الطفل كثيرا ولفترات طويلة، دون أي سبب معروف.
وعادة ما يبدو بعد انقضاء الاسبوعين الأولين من الحياة ويختفي دائماً تقريبا، وكثيرا ما يكون اختفاؤه فجأة، وقبل أن يبلغ الطفل من العمر ثلاثة إلى أربعة أشهر. وهو أكثر شيوعا عند الأطفال ذوي الرضاعة من الزجاجة (رضاعة اصطناعية)، ولكن هذا لا يمنع حدوثه أيضا لدى ذوي الرضاعة الطبيعية. غالبا ما يحدث البكاء خلال فترة محددة من اليوم ،في ساعات المساء الأولى على الأكثر.
والقضية ليست معروفة المنشأ بشكل قاطع، وفترة البكاء تختلف من طفل لآخر، كما انه ليس هناك اتفاق عام في الآراء حول تعريف “المغص“ ولكن بعد استبعاد كافة الأسباب الأخرى للبكاء يتضح عادة أن الطفل “مصاب بمغص” وخاصة إذا كانت صرخاته مكثفة لأكثر من ثلاثة ايام في الاسبوع، ولأكثر من ثلاث ساعات في اليوم، كما لأكثر من ثلاثة أسابيع في شهر واحد.
حتى الان وثقت المصادر العلمية الموجودة ان البكاء الشديد يعود الى ضغط شعوري شديد. ويعزى بكاء الاطفال بالدرجة الاساس الى الفطام من حليب الام والتوجه الى الرضاعة مما يدعو الامهات الى الاعتقاد ان الطفل جائع فيقمن بإعطاءه المزيد من الحليب, والظاهرة هي الاكثر شيوعا والاكثر عرضا امام الاطباء خلال الاشهر الثلاث الاولى من الولادة.
غير ان اسباب مغص الرضع ليست محددة او معروفة حتى الان وتتفرع من ثلاث فرضيات رئيسية حول اسبابه:
- ان بكاء الطفل هو نشاط يقوم به اكثر من كونه حالة يمر بها.
- انماط التربية في البلدان الصناعية الاوربية هي السبب في زيادة الام الطفل وبالتالي زيادة حالات البكاء الشديد.
- الامر مرتبط بسلوكيات عهدناها في بيئاتنا القديمة التي تطورنا فيها.
وللوصول لهذه الفرضيات علينا ان نقوم بمطالعة في فهمنا الحالي للمظاهر السلوكية لمتلازمة مغص الرضع والشروط الطبية التي تحكم مسبباتها. بعد ذلك سننظر في الادلة المقترحة:
- ان مغص الاطفال حالة مستمرة مع البكاء الاعتيادي لا يمكن فصلها كمتلازمة منفصلة.
- زيادة البكاء هو حالة عالمية لاطفال بني البشر.
- تطول فترات البكاء في البلاد الغربية الصناعية عن حالات مغص الاطفال الاخرى.
- ترتبط فترات البكاء الطويلة بعوارض سلبية تحيط بالطفل, بينما ترتبط فترات البكاء القصيرة بعوارض ايجابية.
- الميل للبكاء الكثير يمكن ان يبدو عملية تكيفية وفق وجهة النظر التطورية فيما لو كانت محددة للبقاء والنجاح التكاثري.
ان الانماط السلوكية المتكررة تجعل الاباء والامهات والاطباء يميلون الى اعتبار البكاء الزائد مرضا او متلازمة معينة. وتركز الاوصاف التي يقدمونها على ثلاث نواحي:
- ان للمتلازمة اوصاف مميزة معتمدة على وقت معين وخصائص عمرية معينة. وفي الحالة الاعتيادية فإن البكاء يزداد بعد اول اسبوعين بعد الولادة وصل ذروته في الشهر الثاني, حتى يبلغ احيانا الشهر الخامس من عمر الطفل. كما يميل وقت البكاء الى البدء بعد منتصف الظهر الى ساعات المساء.
- ان الطفل الذي يبكي لفترات مطولة ولا تهدئه محاولات التسكين وجميع المتطلبات التي تقدم له كالطعام او الماء او التربيت على الظهر مع اظهار ملامح كالتي يصفها دارون كاوصاف للطفل المتألم حينما يبكي (ان تكون عيناه مغمضتان حتى يتجعد الجلد حولهما وان يكون الفم مفتوحا كالمربع والبطن متقلصة) كل ذلك يدعو الى اعتبار ان ما يمر به الطفل هو حالة الم.
- والعامل الثالث هو ان بكاء الطفل لا يبدأ بموعد ولا ينتهي بموعد محدد ويأتي دون انذار ولا يرتبط بأحداث سابقة تدل عليه.
ركزت معظم الابحاث المتعلقة بالبكاء على دور التغذية في طول فترات البكاء وزيادة حدتها, وبالاخص تناول حليب الابقار والكاربوهيدرات الاتية منه ودعمت الابحاث حقيقة كون البروتينات والكاربوهيدرات الاتية من حليب البقر سبب في استثارة تحسس الجهاز الهضمي إذ يوجد ما يزيد عن الـ 20 بروتين من التي تسبب الحساسية في حليب الابقار. اكثرها اثارة للحساسية (beta-lactoglobulin, casein, and bovine IgG). غير ان هذه البروتينات ذاتها موجودة في حليب الانسان مما يجعلنا نتجه بالانظار الى سبب اخر وهو دور الام وقربها من الطفل.
للدخول في موضوع علاقة الام بطفلها سنتوقف عن عادات وتقاليد وسلوكيات مختلف الشعوب بالعالم وهنا يكون موضع التساؤل حول اي ام من الامهات يكون الكلام؟ وانطلاقا من ذلك فقد جرت المقارنة في الكتاب بين الام في احدى قبائل الصيد والجمع في بوتسوانا حيث يمكن اخذ صورة اكثر وضوحا عن ماضينا كبشر بما ان نمط حياة هذه القبائل ما زال يشبه نمط حياة الانسان في العشرين الف سنة الماضية وبين الام في البلدان الصناعية الغربية.
فروقات رعاية الامهات في قبيلة كونغ سان في بوتسوانا المعتمدة على نظام الصيد والجمع في كسب رزقها:
- تحمل نساء القبيلة اطفالهن معظم الوقت بين اذرعهن او بالحبال لذا فهن على تماس بأطفالهن معظم الوقت
- تحمل نساء القبيلة الاطفال بشكل مستقيم غير مائل وذلك لاعتقاد شعبي يحملونه
- تغذية الاطفال ليست حسب جدول او حسب الطلب بل هي دائمة! من 3-4 مرات بالساعة وكل منها تستغرق دقيقة او دقيقتين.
- نساء القبيلة اكثر استجابة لاطفالهن من النساء الاوربيات.
وبالمجمل فإن استجابة نساء قبيلة الكونغ سان في بوتسوانا اكبر من الاوربيات بكثير فهن ينتبهن لاطفالهن كل عشرة ثواني لـ 92% من الوقت عدا اوقات البكاء. بينما لا تستجيب النساء الاوربيات لاطفالهن لاكثر من 40% من الوقت. بالاضافة الى المعتقد السائد لدى الاوربيين ان التمسك الزائد بالطفل يفسده.
الان فلننظر لوضع بكاء الاطفال ومقارنته بين الاوربيين وقبيلة الكونغ سان في بوتسوانا. لا تختلف فترة البكاء الشديد في الاشهر الثلاث الاولى عنها في باقي الاطفال كما لا تختلف عدد مرات البكاء عن الاطفال الامريكان او الالمان غير ان طول فترة البكاء يصل الى نصف فترة بكاء الطفل الاوربي. كما ان فترات البكاء المطولة التي تزيد على نصف ساعة غير موجودة الا بنسبة 10% في الـ 9 اشهر الاولى من العمر. ومن ذلك يمكننا الاستنتاج ان طريقة التربية يمكن ان تؤثر على بكاء الطفل.
ان نمط تربية الكونغ سان يعد السائد في انماط التربية على تاريخ البشر فمعظم قبائل الصيد والجمع تتبع النمط ذاته كما ان الانواع الحيوانية القريبة من الانسان كالقرود تتبع النمط ذاته. في حين يعد نمط التربية الاوربية نمطا شاذا وحديثا للغاية وغير ملائم لطبيعتنا التي تكيفت وفق البيئات التي عاش بها اسلافنا.
هنا ننفصل عن طرح الكتاب لنتسائل عن الاصلح بين نمطي التربية. وهل يجب ان نتبع النمط الافريقي؟ السؤال يبقى مرهونا بالتغييرات الاخرى التي حصلت. ان بيئتنا تغيرت وعالمنا لم يعد كالبيئات التي عشنا بها في الماضي. ومن هنا قد تترجح كفة التربية الاوربية. امام نمط الحياة الحديث الذي نعيشه, وليس هذا الكلام سوى تساؤل يحتاج الى طرح المزيد من البحوث والخوض في الكتابات المختصة بهذا المجال.
ان وجهة النظر التطورية تفترض وجود ناتج سلبي او ايجابي لبكاء الطفل على المدى القريب وان الطفل حين يبكي لابد ان يكون هناك وظيفة يؤديها هذا البكاء مما جعل هذا البكاء يستمر مع اجيال البشر المتعاقبة وتتركز هذه الوظيفة حول امرين وهما البقاء او النجاح التكاثري. غير ان الامر هنا مرتبط بتحدي امام الطب التطوري ان يجتازه وهو كثرة النقاط السلبية المتعلقة ببكاء الطفل التي تجعل من الصعب تصور وجود نقاط ايجابية في بكاء الطفل.
وسننطلق بالفرضية من علاقة التغذية الجيدة التي يحصل عليها الطفل بالبكاء وبالتالي سيؤدي البكاء الى فرصة اكبر بالبقاء. وتوضح المخططات ادناه النقاط السلبية والايجابية في بكاء الطفل وكيف تقود كلها في النهاية الى تحسين فرص البقاء.
ان استمرار الرضاعة الطبيعية وكما اثبتت احدى الدراسات يحسن مستوى التغذية إذ لوحظ ان نسبة الدهون في الحليب الذي يتناوله الطفل من الرضعة الثانية اعلى منه من الرضعة الاولى وهكذا. كما ان استمرار ارتباط الام بطفلها يعد سببا في تأخير قدوم اخوة اخرين ينافسون الطفل على الفرص.
بذلك تم الوصول الى نقطة جيدة في فرضية وجود ناحية ايجابية في بكاء الطفل من خلال ربطه بعوامل عديدة تساعد على البقاء.
هذا المقال هو مجموعة من سلسلة مقالات تشكل قراءة في كتاب الطب التطوري الذي جمعته واندا تريفاثان والله المستعان.