مما لا شك فيه، يُعتبر دايفيد هيوم (1711- 1776) أحد الفلاسفة المؤثرين في العصر الحديث. تشمل أعمال هذا الفيلسوف، والذي وُلِد في إدنبره – بإسكتلندا، «رسالة في الطبيعية البشرية« (1739)، «مقالات أخلاقية، سياسية، وأدبية« (مجلديْن، 1741- 1742)، «مبحث في الفاهمة البشرية« (1748)، «مبحث في الأخلاق« (1751). وقد نَشرَ أيضاً تاريخاً لبريطانيا العظمي، وقد نُشر له بعد وفاته كتاب «محاورات في الدين الطبيعي«.
الفلسفة التجريبية
ينتمي هيوم للمذهب التجريبي التقليدي الذي نشأ في بريطانيا، ويُعتبَر فرانسيس بيكون (1561- 1626)، جون لوك (1632- 1704)، وجورج بيركلي (1685- 1753) بالإضافة لدايفيد هيوم أعلام هذا المذهب. يقوم هذا المذهب على فكرة أنَّ المعرفة مصدرها الإدراك الحسي، والتي يتلقاها العقل البشري بشكل سلبي. ولكنْ بينما يعتقد لوك وبيركلي بأنَّ المعرفة الإنسانية تستطيع أنْ تتجاوز حدود الخبرة الحسية، فيجادل هيوم في مقدمة رسالته في الطبيعة البشرية بأنَّ معرفتنا مقصورة على الخبرة الحسية، وبالتالي فيقدِّم لنا مذهباً تجريبياً والذي في اعتقاده أكثر اتساقاً من نظرائه لدى أسلافه البريطانيين.
يبدأ تحليل هيوم لمضمون الخبرة الحسية بالتمييز بين الانطباعات والأفكار. إنَّ الانطباعات لدى هيوم، والتي تشمل جميع الأحاسيس والعواطف، أكثر قوةً وحيويةً من الأفكار والتي ليست إلَّا «الصور الباهتة للانطباعات في التفكير والاستدلال«. (الرسالة، الصفحة الأولى). إنَّ الأفكار أدنى معرفياً من الانطباعات، وتتناقض بوضوح المكانة الثانوية التي منحها هيوم للأفكار مع تقليدٍ طويلٍ في الفلسفة الغربية والذي يؤكد بأنَّ الأفكار العالمية، وليست الانطباعات الحسية الشخصية، هى المكونات الأصيلة للعقل البشري. سائراً على خطى لوك، فيميز هيوم هو الآخر بين البسيط والمركب. فلا تحتمل الانطباعات والأفكار البسيطة، مثلاً رؤية أو تخيل أحد درجات اللون الأحمر، أي تمييزٍ أو تجزئةٍ. بينما يُمكن للانطباعات والأفكار المركبة، على سبيل المثال رؤية أو تخيل تفاحةٍ، أنْ يتم تحليلها إلى مكوناتها. وحيث أنَّ جميع الأفكار البسيطة مستمدة من وتُعبِّر بالظبط عن انطباعاتٍ بسيطةٍ، فلا ينطبق ذلك على العديد من الأفكار المعقدة، وبالتالي فيجبْ التشكيك بصحتها. يُلاحِظ هيوم أنَّه «إذا كنَّا نُضْمِر شكاً بأنَّ مصطلحاً فلسفياً يُستخدم بدون أي معنى أو فكرة، فيجب علينا أنْ نتساءل حول الانطباع الذي تُستمَدُّ منه هذه الفكرة. وإذا استحال علينا أنْ نحدد شيئاً، فسوف يؤكد ذلك ارتيابنا«. (مبحث في الفاهمة البشرية، القسم الأول)
ينتقل هيوم بعد ذلك إلى إظهار أنَّ عدداً من الأفكار الفلسفية المعقدة، مثل فكرة الذات غير المادية باعتبارها جوهر الهوية الشخصية، تفشل في تلبية معياره التجريبي (انظر الرسالة، الكتاب الأول، الجزء الرابع، القسم السادس). وبالرغم من ذلك، فإنَّ أشهر الموضوعات التي نقدها هي العلاقة بين السبب والنتيجة. اعتقد العلماء والفلاسفة الغربيين عادةً بأنَّه إذا أردنا معرفة شيءٍ، فيتعين على المرء معرفة السبب الذي يتوقف عليه هذا الشيء بالضرورة. ولذلك، فيُجادل هيوم باستحالة مثل هذه المعرفة. فهو يُلاحِظ أنَّ جميع الاستدلالات المتعلقة بالحقائق ترتكز على هذه العلاقة السببية؛ ومع ذلك، فعلى النقيض من العلاقات بين الأفكار التي تستكشفها الرياضيات، فإنَّ الأحكام التي تتعلق بالحقائق ليست صحيحةً بالضرورة. وذلك لأنَّه باستطاعتنا دائماً أنْ نتخيل، دون خوف من التناقض، خِلاف كل حقيقةٍ (فعلى سبيل المثال، لن تُشرق الشمس غداً، ليس بتناقضٍ بل ولا يشير إليه حتى). ويضيف هيوم بأنَّ العلاقة السببية بين أي شيئيْن لا تستند سوى إلى الخبرة، وليست بداهةً (مثلاً، إذا خُلِق آدم مُمتلِكاً قدراتٍ عقلية مثالية، فمع ذلك وبدون الخبرة المسبقة، لن يعرف من خصائص الماء بأنَّه قادر على خنقه). وبالرغم من ذلك، فإنَّ جميع ما تبرهن عليه هذه الخبرات بخصوص العلاقات السببية هو أنَّ السبب سابق في الوقت على النتيجة ومُتصِلٍ بها. لا يُمكِن للخبرة أنْ تؤسس ارتباطاً ضرورياً بين السبب والنتيجة، حيث باستطاعتنا التخيل بدون تناقض حالةً والتي لا يؤدي فيها السبب لنتيجته المعتادة (مثلاً، يُمكننا أنْ نتخيل كرة بلياردو ترتطم بعنف بكرة أخرى، ثم وبدلاً من التسبب في حركة تلك الكرة الأخرى، ترتد كرة البلياردو عنها في اتجاه عشوائيٍّ). يَكمن السبب لاستنتاجنا الخاطئ بأنَّ هناك شيئاً ما في المُسبِّب والذي قاد بالضرورة إلى النتائج، في أنَّ خبراتنا السابقة قد شكلتها عادة سيكولوجية تجعلنا نتوقع الاطراد في الحالات المستقبلية، إذا تكرر في الخبرات الماضية. فقد رأينا في الماضي أنَّ النتيجة (ب) تتبع كثيراً الحدث (أ)، ولا تقع أبداً بدونه، فيربط عقلنا بين (ب) و (أ) بحيث أنَّ وجود أحدهما يجعل العقل يُفكِّر في الآخر.
النظرية الأخلاقية
يُؤكِّد هيوم بأنَّ الفروقات الأخلاقية مستمدة من نوعٍ خاصٍ من مشاعر اللذة والألم وليس من الفِكر، كما تمسك العديد من الفلاسفة الغربيين منذ سقراط. وبالاستناد إلى المبدأ التجريبي بأنَّ العقل سلبيٌّ بالضرورة، فيُجادل هيوم بأنَّه لا يُمكن للفكِر في حد ذاته أنْ يُنتج أو يحول دون أي سلوكٍ أو عاطفةٍ. لكنْ بما أنَّ الأخلاق تتعلق بالأفعال والعواطف، فلا يُمكن أنْ تستند إلى الفكر. بالإضافة، فليس باستطاعة الفكر أنْ يؤثر على سلوكنا إلَّا بطريقتيْن. أولاً، يُمكن للفكر أنْ يُخبرنا بوجود شيءٍ ما نرغبه، وبالتالي فيثيره لدينا. ثانياً، باستطاعة الفكِر يسْتَقْصَي حول الوسائل لتحقيق غاية والتي نرغبها بالفعل. ولكن ماذا إنْ كان الفِكر على خطأٍ في أيٍّ من هذه النواحي (على سبيل المثال، الخلط بالخطأ بين شيءٍ بغيضٍ وآخر سارٍ، أو اختيار الوسيلة الخاطئة لتحقيق غاية منشودة)، فليس ذلك بفشل أخلاقيٍّ بل فكريٍّ. وكنقطة أخيرة، فيُجادل هيوم بالتمييز بين الحقائق والقيم. فطبقاً لهيوم، فلا يُمكن للشخص أنْ يقفز إلى استنتاجاتٍ حول ما يجب أو لا يجب أنْ يكون عليه الحال بالاستناد إلى مقدماتٍ عمَّا هو قائمٌ أو غير قائمٍ (انظر الرسالة، الكتاب الثالث، الجزء الأول، القسم الأول).
فبما أنَّ الاختلافات الأخلاقية لا تستند إلى الفِكر، فيستدِّل هيوم بأنَّها قائمة على عواطف نشعر بها من خلال ما يسميه «الحس الأخلاقي «. فعندما نصف فِعلاً، عاطفةً، أو شخصيةً باعتباره حميدٍ أو شريرٍ، فذلك لأنَّ رؤيته تسبب نوعاً معيناً من اللذة أو الألم. ويُدرِك هيوم تمام الإدراك بأنَّ جميع الملذات والآلام (مثلاً، لذة الناتجة عن تناول نبيذٍ جيدٍ) لا تقود إلى أحكامٍ أخلاقيةٍ. بل بدلاً من ذلك، «عندما تُؤخذ الشخصية فقط في الاعتبار بشكل عام، دون الإشارة إلى مصلحتنا الخاصة، التي تسبب مثل هذا الشعور أو العاطفة، و التي تسميه خيراً أو شراً أخلاقياً «(الرسالة، الكتاب الثالث، الجزء الأول، القسم الثاني). وأخيراً، يحتج هيوم بأنَّه من الرغم أنَّ التباينات الأخلاقية تقوم على العواطف، فلا يؤدي ذلك إلى النسبوية الأخلاقية. حيث أنَّ المبادئ الأخلاقية العامة والملكة الحسية الأخلاقية التي تدركهم مشتركة بين جميع البشر.
للأسف، لا تسمح قيود المساحة بذكر حتى صورةٍ سريعةٍ لمعالجة هيوم للمسائل الفلسفية الأخرى، مثلاً ما إذا كان الله موجوداً، وعمَّا إذا كان البشر يمتلكون حرية إرادة وروحٍ خالدةٍ. ومع ذلك، فيُمكن تلخيص التأثير المدمر لتجريبية هيوم على الميتافيزيقا التقليدية في خاتمة كتابه مبحث في الفاهمة البشرية. «إذا أمسكنا بيدينا أيَّ كتابٍ مقدسٍ أو مذهبٍ ميتافيزيقيٍّ … فدعونا نسأل أنفسنا، هل يحمل في طياته أيِّ استدلالٍ مجردٍ حول الأرقام والكميات؟ لا. هل يتضمن استدلالات تجريبية حول الحقائق والوجود؟ لا. قم برميه إذن في النار: حيث لا يحتوي إلَّا على سفسطةٍ وأوهامٍ «..