ليس بالأمر البعيد إنه فقط بداية القرن العشرين، تلك الحقبة التي كان فيها متوسط عمر الفرد خمسةً وأربعين عامًا، كان حينها مرض بسيط كفيل بحصد المئات بل الملايين من الأرواح! إنه الحال قبل اكتشاف ترياق الحياة.. «المضادات الحيوية» ذلك العلاج السحري الذي ساهم في إنقاذ حياة الملايين من البشر في القرن الماضي.

كيف كانت الحياة قبل المضادات الحيوية

في جيلٍ نشأ في عصر المضادات الحيوية المتاحة على نطاق واسع، حيث يُعالج أشد أمراضه فتكًا خلال بضعة أيامٍ على الأكثر، من الصعب تخيُّل المعاناة الإنسانية التي كانت تنجُم قديمًا من التهاب بكتيري ما! كانت المستشفيات تعجُ بملايين المصابين بالعدوى البكتيرية بأنواعها المختلفة،

فهناك على سبيل المثال مرضٍ كالجدري.. أي منزلٍ لم يدخله ذلك المرض، وقد أصبح التعافي منه الآن أمرًا طبيعيًا، لكنه قديمًا لم يكن كذلك؛ فقد حصد ذلك المرض وحده أكثر من 300 مليون شخص! ولم تقتصر المأساة على ذلك المرض وحسب، بل كان هناك العديد من الأمراض والأوبئة، التي لا تكاد تُذكر في أيامنا، وقد أودت حينها بحياة الملايين من الأشخاص مثل الكوليرا، التيفوئيد، بالطبع لا ننسى وباء الطاعون «الموت الأسود» الذي حصد حياة الآلاف!

التاريخ القديم للمضادات الحيوية

هناك العديد من الأدلة التاريخية التي تشهد على استخدام الحضارات القديمة مثل القدماء المصريين والإغريق والهنود وكذلك اليونانيين لبعض أنواع من النباتات كعفن الخبز والحليب الحامض لعلاج العدوى. ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل طبقًا لما ذكرته مقالة نُشرت بواسطة الرابطة الأمريكية لتقدم العلوم “(American Association for the Advancement of Science)” عام 1980، أنه تم اكتشاف آثار التتراسكلين -إحدى المضادات الحيوية الحديثة- في الهياكل العظمية البشرية التي تم استخراجها من النوبة أثناء الاحتلال الروماني لمصر.

عصر النهضة والتنوير

بدأت أول دراسة لعلم الجراثيم واكتشاف الكائنات الحية الدقيقة في عام 1676، بواسطة أنطوني فان ليفينهوك، باحث وعالم مجهريات هولندي. وفي أواخر القرن التاسع عشر، تمكنا كلًا من لويس باستر وروبرت كوخ من إيجاد علاقة تربط  بين أنواع معينة من البكتيريا وبعض الأمراض؛ فقد نشر باستور نظريته الجرثومية التي أثبتت أن البكتيريا قد تُسبب الإصابة ببعض الأمراض.

تبنى روبرت كوخ هذه النظرية، فقد كان على دراية بطبيعة الأجسام المضادة التي يُنشأها الجسم لمقاومة مرض ما، ومنها استنتج أن هذه الأجسام  يمكن أن تساعد في تدمير البكتيريا المسببة للمرض، وبذلك قام بعزل البكتيريا المحددة التي تسببت في أمراض معينة، مثل السل والكوليرا. وقام بعدة أبحاث التوصل منها لعلاج الأمراض عن طريق اللقاحات والأمصال المناعية.

البنسلين.. أول مضاد حيوي

جميعنا على دراية بقصة ألكساندر فليمنج الشهيرة لاكتشاف البنسلين -مادة تنمو بشكل طبيعي يمكنها مهاجمة بعض البكتيريا-

في عام 1928، فحينما كان يعمل ألكساندر فليمنج، عالم نباتات وطبيب صيدلي اسكتلندي، في مختبره لاحظ أن فطر(البنسليوم توتاتوم) الشائع حينذاك قد نمى على مستعمرات بكتيريا المكورات العنقودية المزروعة وتسبب في تدميرها. واستنتج أن هذا الفطر يصنع مادة -أطلق عليها فيما بعد بالبنسلين- يمكنها أن تذوّب البكتيريا وتُعيق نموها.

هل كان اكتشاف فليمنج للبنسلين محض صدفة؟!

في عام 1870، قام السير جون ساندرسون، باحث في علم وظائف الأعضاء بأكسفورد، بوصف دور السائل المُغطى بالعفن بالحيلولة دون نمو البكتيريا. وفي العام التالي، قام جوزف ليستر، طبيب جراح، باستخدام أحد أنواع الفطر (وتحديداً البنسليوم توتاتوم) في التطهير، مما يدل على أنه قد وجد له تأثير مضاد للجراثيم على الأنسجة البشرية.

أخيرًا، في عام 1897، لاحظ إرنست دوتشيسني، وهو طبيب فرنسي، أن أولادًا من العرب في إسطبل خيول يعالجون قروح السرج التي تعاني منها الخيول من خلال السماح لنمو العفن على هذه السروج. حينها أخذ الطبيب عينة من هذا العفن وتأكد أنه فطر(البنسليوم توتاتوم)، وبعد عدة تجارب تمكّن من استخدامه بنجاح لعلاج مرض التيفوئيد حينذاك.  

من هذه التجارب السابقة أدرك فليمنج أن هناك إمكانات هائلة في فطر(البنسليوم توتاتوم)، ولكن كانت ثمّة تحديات كبيرة في إثبات ذلك في مختبره، بل وأن التحديات أكبر لترجمة تلك التجارب إلى دواء يمكن إتاحته على نطاق واسع. وظل في تجاربه إلى أن حالفه الحظ وتوصل إلى مادة البنسلين.

بعد عدة سنوات، بدأ عدة باحثون بإعادة تجارب فليمنج. وتمكنوا من صنع ما يكفي من البنسلين للبدء في اختباره على الحيوانات ثم البشر. وابتداءً من عام 1941، تم استخدامه على نطاق واسع لعلاج الجنود خلال الحرب العالمية الثانية، لعلاج التهابات الجرح في ساحة المعركة والالتهاب الرئوي..الأمر الذي فاز على إثره فليمنج وآخرون بجائزة نوبل عام (1945) في الطب وعلم وظائف الأعضاء.

في النهاية، ومع نجاح البنسلين في علاج الكثير من الأمراض، بدأ السباق لإنتاج مضادات حيوية أخرى. ففي أيامنا هذه، يتم كتابة ما لا يقل عن 150 مليون وصفة للمضادات الحيوية في الولايات المتحدة كل عام، وهذا يضع البشرية أمام تحدي خطير آخر وهو مناعة الجراثيم ضد المضادات الحيوية.

المراجع

1-   Kate Gould, “Antibiotics: from prehistory to the present day”, (05 February 2016  in Journal of antimicrobial chemotherapy

2- EJ Bassett, MS Keith, GJ Armelagos, DL Martin, AR Villanueva, “Tetracycline-labeled human bone from ancient Sudanese Nubia (A.D. 350)” in American Association for the Advancement of Science

3- The discovery and development of penicillin 1928-1945,” produced by the American Chemical Society and the Royal Society of Chemistry in 1999.

4- Penicillin and Ernest Duchesne, Sunsation Restoration, May 1, 2018  

5- world health organization, 5 February 2018