هذا المقال هو تلخيص لورقة بحثية لاساتذة من جامعة هونغ كونغ، جامعة جون هوبكنز، ومعهد ماكس بلانك في المانيا وهي ورقة مراجعة حول علم اللسانيات التطورية [1] وهي منشورة في مجلة علوم اللغة في مايو 2013.

حضرت جمعية اللسانيات في باريس نقاش اللسانيات من ناحية علمية في عام 1866 ولم يعد نقاش اللسانيات من الناحية العلمية الا في الخمسينات والشكر في ذلك للكمية الكبيرة من البيانات التي اصبحت متوفرة بالإضافة الى الفهم المتقدم في سلوك الانسان والحيوانات الاخرى والمساهمات الفاعلة في المجالات ذات الصلة.

اللسانيات الحديثة تتضمن فروعاً متعددة مثل اللسانيات التاريخية والتي تدرس التطور التاريخي للغات وتغيرها عبر الزمن، واللسانيات الاجتماعية التي تدرس تأثير العوامل الاجتماعية والثقافية على اللغات، اللسانيات النفسية التي تحاول تعريف العوامل النفسية التي تمكن الانسان من نيل واستخدام اللغة. جميع هذه التخصصات وضعت مساهمات فاعلة في الحقل الجديد نسبياً في اللسانيات الحديثة وهو اللسانيات التطورية.

كتاب اللسانيات التطورية (Evolutionary linguistics) الصادر في عام 2007 يحاول ان يعرف كيف ومتى وأين تتكون وتتغير وتختفي اللغة. وبشكل شبيه للسانيات التاريخية  والاجتماعية، اللسانيات التطورية تدرس طرق تغير اللغة في البيئات الاجتماعية والثقافية. لكن اللسانيات التطورية تتداخل ايضاً مع دراسات اكتساب اللغة (Language acquisition) – العملية التي يكتسب فيها الأطفال اللغة، ومع السلوكيات اللغوية الفردية (individual linguistic behaviors) التي تدرس بواسطة اللسان-نفسيون (psycholinguists). وبخلاف اللسانيات التاريخية التي تركز على عوائل لغوية معينة او لغات بعينها فإن اللسانيات التطورية تدرس خصائص مشتركة للغات بصورة عامة من منظور عابر  للغات او من منظور طوبولوجي بالاضافة الى سلوكيات التعلم ذات الصلة في الإنسان، والى جانب اكتساب اللغة، تدرس اللسانيات التطورية أصول اللغة، العمليات التي تشكلت فيها اللغة من نظام التواصل قبل اللغوي الى نظام التواصل اللغوي والذي بدأ بشكل مبكر مع الانسان العاقل (homo sapiens)[2].

تحديات الدراسة

تتجلى صعوبة دراسة اللسانيات التطورية في كيفية استعادة السلوكيات اللغوية من السجلات الاحفورية[3]. مثلاً صعوبة معرفة النظرية النحوية ومعالجتها في الدماغ حتى مرحلة متأخرة جداً. من المعروف ان  الإنسان العاقل الموجود حالياً كان موجوداً قبل حوالي 150 الف عام كما تدل الاكتشافات في شمال افريقيا[4] والعلوم العصبية وعلم الوراثة كشفوا في القرن الـ 21  عن وجود تطورات على المستوى الجيني تتعلق باللغة[5] الفيزياء الاحصائية (Statistical physics)[6]  وبرامج المحاكاة الحاسوبية[7] توصلت الى بناء طرق جديدة لدراسة تفاعلية تطور اللغة وللتحليل والاجابة على اسئلة مثل هل أن اللغة تطورت من مصدر واحد ام من عدة مصادر.

الاسئلة الأساسية للسانيات التطورية

كيف توجد اللغة عند الإنسان؟

يمكن تقسيم الظاهرة اللغوية عند الانسان الى جزئين:

  • القدرة البيولوجية على اللغة: وتتمثل بالاليات والوظائف المعرفية ووظائف الاعضاء الخاصة بمعالجة وانتاج اللغة.
  • اللهجة الفردية واللغة الجماعية: اللهجة الفردية (Idiolects) هي استخدام الفرد المميز والفريد للغة حيث لكل شخص مفرداته وجسد اللغة الخاص به وقواعده وتتشكل اللغات من اللهجات الفردية وكلاهما نابعتان من استخدام الاشخاص لقدرتهما البيولوجية على اللغة.

الاسئلة الرئيسية حول الامر تتنوع الى: هل ان القدرة على اللغة تختص باللغة فقط؟ ام انها نابعة من تكيفات مسبقة (exaptation)؛ وما دور القواعد الوظيفية في آليات معالجة القواعد؟ الاسئلة من هذا المجال كثيراً ما تذهب نحو موضوع آخر وهو تطور اللغات (Evolution of language).

ما الذي يتطور اثناء تطور اللغة؟

للغات سمات فريدة مثلاً اللغة تمكن الانسان من وصف شئ لا يحدث حالياً في بيئة الحوار، ترتيب الفعل والفاعل والمفعول به يتخذ انساقاً ثابتة في معظم لغات العالم، اللغات يمكن ان تستخدم اقل المواد لزيادة القوة التعبيرية من خلال التكرارية. خصائص مثل هذه تؤخذ كصفات عالمية أو مسلمات للغات. ودراسة المسلمات مثل هذه من الممكن ان يخبرنا كيف تطورات اللغات؟ وما هي العوائق التي تعترضها؟ وما الذي يربط اللغة بالقابليات الاخرى في الدماغ؟

التركيبية (Compositionality) والانتظام (regularity) هما من ابرز المسلمات التي تناقشها اللسانيات التطورية، التركيبية تشير الى ان جميع التعابير المعقدة تعتمد على معاني مكوناتها وطريقة مزج تلك المكونات. والانتظام يشير الى الطرق العديدة في مزج المكونات بشكل عناصر مفردات، العبارات او الجمل مثلاً للتعبير عن معاني معقدة. هذه المسلمات تعطي اليات وقطع بناء للتعبير عن تطور عدد كبير من المعاني للاشياء ليس بسيناريوهات نظرية فقط بل بمحاكاة حاسوبية وتجارب مختبرية.

كيف يمكننا تتبع تطور اللغة؟

هناك ثلاث جداول زمنية لتتبع تطور اللغة:

  • التاريخ المصغر (microhistory): ويغطي حقباً صغيرة جداً من اللغة تتراوح بين سنوات وعقود.
  • التاريخ الأوسط (mesohistory): ويغطي قروناً او ألفيات.
  • التاريخ الكبير (macrohistory): ولا يشبه الفترات الزمنية المستخدمة في اللغويات التاريخية بل يشبه الحقب الزمنية المستخدمة في علم الاحياء.

بين هذه الازمنة تناقش اللسانيات التطورية اسئلة اساسية حول هل ان التطور يحدث في التاريخ الكبير ام في التاريخ الاوسط. وهل أن عمليات مثل صناعة النحو تحدث في التاريخ المصغر ام لا.

ظهور اللغة في اللسانيات التطورية

ظهور الشئ بشكل عام هو العملية التي تظهر فيها ظاهرة مكبرة (Macro scale phenomena) نتيجة تفاعلات مصغرة (Micro scale interactions) او ظهور خصائص او تراكيب في نظام دون تعريفها بشكل مسبق فيه، بوجود مواد معينة ومقيدات معينة. وفي اللسانيات التطورية ظهور اللغة هو بزوغها من اللالغة الى لغة لها خصائص تتجلى في اللغات الحديثة.

وللمصطلح توجهين:

  • متعلق بالنشوء الوراثي (ontogenetically) ويشير الى اكتساب اللغة.
  • متعلق بالتطور النوعي او تطور السلالة (phylogenetic) ويشير الى اصل اللغة.

يشير الاول الى نشوء قابليات تعلم لدى الانسان تسمح بانتقال اللغة وتداولها بينما الثاني الى كل من اليات التعلم والعوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤدي الى ظهور اللغة. والقضيتين مرتبطة معاً. السائد اليوم حول ظهور اللغة هما نظريتان:

1.الغريزية

تفترض الغريزية وجود تماثلية بين السبب والمسبب في ظهور اللغة وتقول بأن الظهور المفاجئ للغة لابد وان يكون مرتبطاً بحدث طبيعي عصبي واسع التأثير ويميل لها ستيفن بينكر ونعوم تشومسكي. وايضاً تفترض الغريزية بوجود تماثلية الوظيفة والعضو والتي تقود للتفكير بعضو اللغة على الرغم من ان التطور المستمر للعضو لا يرتبط بالضرورة مع التطور المستمر للوظيفة التطور لا يشترط به ان يوفق بين الوظائف والاعضاء بمراحلها المختلفة.

ويرى اصحاب هذه الرؤية بناءاً على الأدلة العلمية ان الكثير من خصائص اكتساب اللغة ليست خاصة بنوع الانسان كحيوان مثلا ادوات الادراك الحسي – الصوتي او القدرة على ربط معنى معين بصوت معين، ايضاً بعض الاجزاء القشرية في دماغ الانسان والتي تلعب دوراً مهماً كركائز للغة ترتبط بأنشطة معرفية اخرى مثل معالجة الموسيقى وتنسيق حركة اليد مع الرؤية. مما يوضح أن اللغة لها روابط معرفية مع مهارات غير لغوية وأن المناطق التشريحية العصبية في الدماغ المرتبطة باللغة ليست فريدة في الانسان لوحده بل موجودة في حيوانات اخرى من الرئيسيات كما أن عملية معالجة اللغة ذاتها هي ليست خاصة باللغة وليست خاصة بالانسان فهي تكيفات معرفية ليست مختصة باللغة فحسب بل بأمور اخرى كاتخاذ القرارت او حل النزاعات الاجتماعية وهي أيضاً مشتركة مع حيوانات اخرى.

وفي نطاق الغريزية يقترح بيكيرتون (Bickerton) فرضية لأصل اللغة تعرف باللغة الاصلية (protolanguage) والتي تتألف من كلمات فقط دون تركيب نحوي ثم تدرجت تلك اللغة نحو تسلسلات من الكلمات ثم الى تسلسلات نحوية ذات هيكلية ولتلك الفرضية مؤيدين ونُقاد واراء وتجارب كثيرة في غمارها.

2.النشوئية

قامت هذه الفرضية رداً على اشكاليات واجهتها الغريزية وتفترض النشوئية ان مسلمات اللغة تكونت في كل لغة على حدة بحسب عوائق التعلم والانحيازات اثناء عملية الانتقاء، كما الموزاييك فإن بزوغ القواعد، الصوتيات اللغوية، التشكل، والمفردات قد تكون حدثت في اوقات مختلفة ضمن موجات مختلفة.

للنشوئية  فإن اللغة هي واجهة لعدد من القدرات الاساسية التي لها وظائف اخرى في الحيوانات ولا تقوم بوظيفة لغوية. اللغة هي اعادة تشكيل لأنظمة الاسلاف، أشبه بأعادة الاستفادة من شئ قديم من موجود ولم يعد مفيداً. بدلاً من افتراض ظهور اللغة بطفرات وراثية غير ذات صلة بالسياق الاجتماعي والمعرفي للانسان. اللغة تمت صياغتها وتشكيلها من قبل الاليات المعرفية للانسان وآليات وقيود التعلم والاستخدام والمحددات في ذاكرة الانسان ومعالجته وتواصله.

تتبنى النشوئية وجهتي نظر لشرح أصل اللغة:

  1. الشرح الاجتماعي الاحيائي (Sociobiological) وتعتمد على الترميز الجيني والانتخاب الطبيعي لشرح كيفية انتشار ستراتيجية معينة عبر الاجيال. انها تتكلم عن دور التواصل في النجاح التكاثري ونشر الذرية وبذلك يكون الانتخاب الطبيعي مفضلاً للتواصل الاجتماعي
  2. الشرح الاجتماعي الثقافي (Sociocultural) ويوضح بأن ظهور المسلمات اللغوية يرجع للقوة التعبيرية للغة ودورها الكبير وفائدتها وأي ستراتيجية تخدم اغراض التواصل ستكون سائدة في الاجيال القادمة. اللغة تتطور لتتكيف مع الانسان لا ان الانسان يتطور ليتكيف لاستخدام اللغة. سهولة اكتساب اللغة من قبل الاطفال ليست لأنهم يمتلكون معرفة فطرية تؤهلهم لتعلم اللغة. بل أن اللغة التي يتعلمونها قد تكيفت لتكون سهلة مع قابليتهم للتعلم.

اما سيناريو الصيغ الذي تفترضه النشوئية لتكون الللغة هو بوجود لغة اساسية بعبارات مفردة الكلمة وكانت ترمز لاحداث معينة وشيئاً فشيئاً صارت تلك الاحداث تحمل اكثر من كلمة واحدة. ويقترح هذا السيناريو ان تكون اللغة يكون مرافقاً للمواد الموجودة في البيئة ولآليات التعلم الموجودة. وان نشوء المفردات يتم بواسطة الموافقة الاجتماعية على المفردات الجديدة التي تظهر مقترنة باحداث معينة.

المصادر

[1] Gong, Tao, Lan Shuai, and Bernard Comrie. “Evolutionary linguistics: theory of language in an interdisciplinary space.” Language Sciences 41 (2014): 243-253.

[2] Hauser, Marc D., David Barner, and Tim O’Donnell. “Evolutionary linguistics: A new look at an old landscape.” Language Learning and Development 3.2 (2007): 101-132.

[3] Hauser, Marc D., Noam Chomsky, and W. Tecumseh Fitch. “The faculty of language: what is it, who has it, and how did it evolve?.” science 298.5598 (2002): 1569-1579.

[4] White, Tim D., et al. “Pleistocene homo sapiens from middle awash, ethiopia.” Nature 423.6941 (2003): 742-747.

[5] Enard, Wolfgang, et al. “Molecular evolution of FOXP2, a gene involved in speech and language.” Nature 418.6900 (2002): 869-872.

[6] Loreto, Vittorio, and Luc Steels. “Social dynamics: Emergence of language.”Nature Physics 3.11 (2007): 758-760.

[7] Wagner, Kyle, et al. “Progress in the simulation of emergent communication and language.” Adaptive Behavior 11.1 (2003): 37-69.