الداء والمرض
تُستخدم كلمتي المرض والداء بشكل متبادل، إلا انهما يعنيان فرقاً كبيراً بالمعنى، وهذا ايضاحه: فالأمراض هي حالات حيوية طبية تسبب ضرراً في الوظائف الاعتيادية للجسم، بينما يشير مصطلح الداء الى معاناة المريض من اضطراب ما. فمن الممكن ان يصاب المرء بالمرض دون الداء، وبالداء دون المرض. 

الامراض يمكن ان تكون ذات مسببات داخلية وخارجية، مثلاً كوفيد-19 هو مرض معدي سببه عُضيّ ميكروبي [فايروس] متواجد في البيئة الخارجية يدخل الجسم ويتخذه مسكناً، مثال آخر السكري من النوع الأول؛ الذي هو اعتلال وظيفي داخلي لا يستطيع الجسم فيه إنتاج الأنسولين. لذلك فإن هناك عدة أصناف للأمراض، فهناك الامراض العدويّة، والامراض الوراثية، وأمراض القصور او العجز، والأمراض الفسيولوجية. ويمكن ان تُصنف على انها ولادية (خُلقية) ومُكتسبة، او حادة ومزمنة، او أمراض علاجية (التي تنشأ بسبب خطأ طبي) والامراض الذاتية (تلك التي تكون مجهولة الأسباب). اما الامراض المُهلكة فهي تلك الأمراض التي تنتهي بالموت، كان مرض نقص المناعة المكتسب أحد هذه الأمراض المُهلكة، ولحد الان لا يمكن الشفاء منه، لكنه أصبح من الأمراض التي تصنف بأنها تحت السيطرة، حيث ان المريض يستمر بالحياة لفترة أطول متعايشاً مع المرض. عندما يُجهل سبب المرض فإنه يُشار إليه بـ “المتلازمة” او “الاضطراب”.

قد يصاب المريض بالمرض دون ان يعرف بأنه مُصاب، فعندما ظهرت نتيجة المصابين بـ كوفيد-19 موجبة، لم تظهر علامات الاصابة على الكثير من المصابين، لذلك يمكن ان يمرض الانسان بلا أعراض. 

ربما تكون النوبة القلبية أولى العلامات لمرض وعائي-قلبي طويل الأجل، يتسارع تضايق الشرايين التاجية نتيجة لتراكم لويحات تصلب الشرايين بمرور السنين، لكن المريض يبقى غافلاً حتى يحدث انسداد تام بالوعاء الدموي يؤدي إلى حرمان عضلة القلب من التزود بالدم اللازم لاستمرارها بالعمل، عندها تبدأ الخلايا بالموت ويشعر المريض بألم في الصدر. على النقيض فإن المعلول يعاني من ألم دون وجود أي اضطراب ذا أسباب بيولوجية؛ مثل: المُراقان (hypochondria) وهو داء توهم المرض.

في الطب المكمل او الطب البديل يُستخدم مصطلح المرض كمصطلح مُبهم للإشارة إلى شعور غامض يكون سيئاً ولا يمكن التخلص منه سوى باقتراح حالة مُثلى لتخفيف الألم، وإن الصحة التامة؛ منقوصة، ولا يمكن إحرازها إلا إذا اتبعنا نصائح المُمارس للطب البديل. أما الداء فما هو إلا الشعور الشخصي بالمعاناة، لكنه أيضا إدراك اجتماعي يتوافق مع معايير المجتمع المتأثرة بالثقافة المجتمعية والتعليم، والعقائد والتوقعات. 

يمكن ان يكون المرض مميتاً، أما الداء فهو يزيد من معاناة الإنسان، غالباً ما يتعارض الطب مع الطب البديل، لأن كلاً منهما يستخدمان مصطلحات مختلفة في الدلالة والاشارة للاخر، في الطب البديل لا يُعالج المرض، بل يعالج الداء، حيث يهتم الطب البديل بشعور المريض أكثر من اهتمامه بالأدلة العلمية.  إذ يعتمد على الاقتراحات والعلاج الوهمي (البلاسيبو)، فالطب البديل يتآزر بالأمل.

الجميع يقاوم الفكرة التي تقول بأنه لا يمكن فعل شيء بوجه المرض، فمن غير المقبول عدم فعل شيء حتى عندما يكون “عدم فعل شيء” هو الأكثر أمانا وعقلانية.

يُدرك الطب العلمي بصفات محسوسة أهمها: عادل، آلي (يستخدم آليات مدروسة وأدوات وأجهزة)، غير مكترث بالمشاعر، ومحطم للآمال. عندما يتناول شخصٌ ما علاج غير فعال موصوف من الطب البديل فإنه يظن أنه “يفعل شيئاً”، فهؤلاء المرضى يظنون ان باستطاعتهم الاستفادة من هذا الوهم في التحكم بالمصير بمجرد أنهم على تواصل إيجابي مع شخص آخر. 

الشفاء والتعافي

الشفاء هو أمرٌ نادر التحقق أما التعافي فهو ممكن الحدوث دائماً.
إن دور الطبيب هو “ان يُشفي أحياناً، وأن يسعف غالباً، وأن يُريح دائماً” فهذا الشعار تبلور في القرن التاسع عشر على يد الطبيب ادوارد ترودو مؤسس مصحّة السل الرئوي (في ذلك الوقت لم يكن هناك علاج للسل، وكان كل ما يمكن لهذا الطبيب ان يقدمه، هو اسعاف المرضى واراحتهم من الألم)، في بعض الحالات يدّعي الأطباء أنهم يمتلكون الشفاء (على سبيل المثال: استئصال ورم، او جسم غريب)، ولكن في معظم الحالات فإن الجسم هو من يشفي نفسه من المرض، ودور الأطباء محدود بتسهيل تلك العملية.

أما التعافي فهو مصطلح يحمل معاني متعددة لمختلف الناس، فالجروح مثلاً سواء كانت ناتجة عن صدمة او بالفعل الجراحي، عملية التعافي هنا يمكن ملاحظتها بالعين المجردة، وعلى الرغم من مدى تعقيد عملية التعافي إلا أنها مفهومة بشكل كافي. ففي البداية تحدث المرحلة الالتهابية وتتدفق الخُثرات الدموية، نتيجة لاستجابة الأوعية الدموية، ثم وصول خلايا الدم البيض، تعقبها مرحلة التجدد، حين يُستبدل النسيج الجديد بالتالف، ثم عملية الإنضاج والتعديل. كما يمكن للعظم المكسور أن يتعافى بواسطة الأشعة السينيّة.

معنى آخر للتعافي تعلمته عندما شاهدت الفيلم الوثائقي عن (جون الإلهي) وهو جراح نفساني برازيلي، ودجال يقضي فترة العقوبة بالسجن بتهمة الاعتداء الجنسي على 600 امرأة، من بينهن ابنته. في الفيلم الوثائقي التقوا بامرأة سافرت من إيطاليا إلى البرازيل للشفاء على يده، والتي كانت مصرّة على اعتقادها بأنه قام بشفائها، هذه المرأة كانت مصابة بمرحلة متقدمة من سرطان الثدي المتنقل، وكان عليها أن تتوقف عن أخذ العلاج الملائم لمرضها عندما قررت التوقف عن رؤية طبيب الأورام الخاص بها، والسفر للقاء هذا الدجال، توفيت بعد وقت قصير من اجراء المقابلة معها عام 2003، على الرغم من أن مرضها كان ينتشر واقترابها من الموت بالسرطان، إلا أنها كانت تعتقد انه تم شفائها. هل كانت تعيش في حالة إنكار؟  ألم تدرك أن السرطان كان يقتلها؟ بماذا كانت تفكر؟ هل كان هذا انتصار الأمل الوهمي على الواقع؟

حينها أدركت أن التعافي هو عملية نفسية، عندما يعرف المرضى بتشخيص علتهم فهم يحققون الرضا ولا يشعرون بالتوتر، يشرح مقال نشرته دورية طب الأسرة ( Annals of Family Medicine) عام 2005:” كان التعافي مرتبطاً بمواضيع مثل؛ الكمال، السردية، الروحانية، التعافي أمر شخصي بشدّة، وتجربة ذاتية تتضمن الموائمة بين فكرة أن الفرد في خضم مجريات مؤلمة مع منظور الفرد الى كماله الذاتي” ويرى الكاتب أن: “يمكن أن نُعرّف التعافي عملياً، بأنه تجربة ذاتية للتعالي على المعاناة”.

 حسناً؛ ولكن قياس تلك (التجربة الذاتية) هو أمر إشكالي، لأن مفهوم التعافي هنا يصعب التثبت منه، لأنه يعتمد على الإشارات التي يصدرها المريض، فهو مفهوم ميتافيزيقي أكثر من كونه مفهوم علمي. 

الألم والمعاناة

هناك مقياس ملائم لقياس الألم، حيث لا يمكننا قبول التقارير إلا من المرضى الذين يقاسون الألم، نسأل المريض أن يقيّم لنا الألم الذي يقاسيه، بمعيار من 0 إلى 10 حيث 10 هي أسوأ درجة للألم، والـ 0 تعني عدم وجود الألم، واي درجة فوق 8 تعتبر الماً حادا. أنا أكره عندما يطلب مني أن أقيم الألم الذي يصيبني، فهذا المعيار يفتقر الى الفروق الدقيقة، فأنا لا أعرف ابداً ماذا أقول، فإجاباتي تتنوع معتمدة على حالتي المزاجية، ماذا عساي أن أجيب لو كنت خالياً من الألم في تلك اللحظة، إلا أن الألم الذي اعتراني قد حرمني من النوم الليلة الماضية؟ وماذا لو انني لا اصفه بالألم ربما اصفه ببساطة بـ “الإزعاج”؟ ماذا لو كان المريض رواقياً لا يتذمر ابداً؟ [يشير الكاتب إلى الفلسفة الرواقية التي تنصح من يتبع تعاليمها بأن يسلم بالحياة ولا يشتكي من الشرور والمصائب]، ماذا لو كان المريض معتاداً على المبالغة او أنه يتخيل أعراض الألم؟ ماذا لو سجّل المريض في تقريره الماً مستواه 15 من 10؟ الطبيب السريري الجيد الذي يتحقق من صحة التقرير يسأل أسئلة مثل “هل تشعر بالحكّة في أسنانك؟” او “هل يتوهج برازك في الظلام؟” عندما يجيب المريض على أسئلة كهذه بــ نعم فاعلم ان التقرير لا يمكن الوثوق بصحته. 

الألم هو إحساس مادي (جسدي)، أما المعاناة فهي حالة نفسانية، الألم يمكن حدوثه بلا معاناة، كما في أحد مشاهد ذلك الفلم الشهير؛ حين يشعل لورنس العرب عود الثقاب بأصبعيه المجردين، معللاً سر ذلك بأنه لا يمانع الإحساس بالألم.

 المعاناة يمكن ان تحدث بدون وجود الألم، فتوقع حدوث الألم قد يؤذي أكثر من الألم نفسه. كما ان الألم والمعاناة هما مصطلحان قانونيان يُستخدمان في المحاكم لتحديد درجة الإصابة في قضايا التعويضات المالية. 

تتحدد المعاناة بأفكار من يُعاني، يحاول الناس عادةً تفسير الألم الذي يعانونه، فالألم بالنسبة لـ لورنس العرب مثلاً؛ يعني فرصة لإبهار الاخرين. هل لك ان تتوقع انتهاء الألم قريباً؟ هل سينتهي الألم بنتيجة مرغوبة؛ كولادة طفل مثلاً؟ هل يعني هذا الألم انك سوف تموت؟ هل يمكنك ان تتوقع ان يسوء الألم أكثر؟ 

يدعي البياطرة انهم يعرفون عندما يعاني الحيوان، لكنهم لا يمتلكون قدرة الولوج في أفكاره، فمقدرتهم محدودة بمراقبة سلوك الحيوان، إذا توقف الحيوان عن الأكل او قلت فعاليته، لكن ما الذي يجري في أفكار الحيوان، هل يعاني حقاً؟ ام إنه لا يرغب بالأكل او الحركة؟ الحيوانات تعيش لحظتها الآنية، فلا ماضي ولا مستقبل لها. 

وفي نفس السياق، عندما يبكي الأطفال، هل هم يعانون او يتألمون؛ ام انه مجرد احباط؟ هل البكاء هو وسيلة الأطفال للتلاعب بالبالغين لتلبية احتياجاتهم مثل تغيير الحفاظة او الاطعام؟ الحيوانات وكذلك الأطفال حديثي الولادة لا يمتلكون التقدم العقلي الذي يجعلهم يفكرون كالبالغين من البشر، حديثي الولادة ليس لديهم المقدرة على القلق بخصوص حالات مؤلمة سابقة، ولا توقع المعاناة المستقبلية، كما أنهم غير قادرين على التفكير بمعنى الألم، الأطفال يبكون عندما يتم سحب الدم منهم، كما أنهم قد يبكون بنفس الصخب عندما يتم تغيير ملابسهم او عند تقييد حركتهم. 

عندما كنت متدربة، كان في الصالة الجراحية مريضان، أجريت عليهما نفس العملية (ترميم الفتق الاربي)، الأول؛ كان رجلاً كثير الشكوى والتذمر من الألم الذي أصابه، ولم يغادر السرير، اما الاخر؛ فكان طفلاً يجري بمرح في الصالة مباشرة بعد العملية، لم يكن لهذا الطفل أي توقع بأن سيقعده الألم في الفراش، بينما كان الرجل البالغ يبالغ بتوجسه ويتجنب أي فعل قد يتسبب له بمزيد من الألم. 

قد يحسب البعض ان التنويم الايحائي هو قدرة خارقة للطبيعة، وانها قوة العقل المتفوقة على المادة، وأن بمقدورها تقليص الألم، عن طريق الانتباه/واللاانتباه، ولكن في الحقيقة ما هي الا إيماءات يقود بها المُنوم تفكير المريض. وفي مثال مشابه، تزايدت حالات الولادة خارج المستشفى مستغلة الخوف من التخدير واستخدام عقاقير أخرى أثناء الولادة.

ختاماً؛ تذكر دائماً أهمية استخدام المسميات الصحيحة، فالتحسن في استخدام اللغة، يزيد صفاء الذهن، الطب العلمي يُعالج الأمراض، بينما الطب البديل يلعب على المشاعر. الشفاء مصطلح مطاطي ربما لا يعني بدقة ما ظننت معناه، والمعاناة هي ليست الألم، فكل واحد منهما يمكن ان يحدث دون الآخر. 

المقال الأصلي:

Harriet Hall, “Illness, Healing, and Other Terms That Can Be Confusing”, Skeptical Inquirer, Volume 45, No. 4